فصل: تفسير الآيات (87- 91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (87- 91):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)}
وقوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} رُوي: أَن فرعون أَخَافَ بني إِسرائيل، وهدَّم لهم مواضعَ كانوا اتخذوها للصلاة، ونَحْو هذا، فأوحَى اللَّه إِلَى موسَى وهارون، أنْ تَبَّوءا أي: اتخذا وتَخَيَّرا لبني إِسرائيل بمصْر بيوتاً، قال مجاهد: مِصْر؛ في هذه الآية: الإِسْكَنْدَرِيَّة، ومصْرُ ما بين أَسْوَان والإِسكندرية.
وقوله سبحانه: {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}: قيل: معناه: مساجدُ، قاله ابنُ عباس وجماعة، قالوا: خافوا، فأُمِرُوا بالصَّلاة في بيوتهم، وقيل: معناه مُوجَّهة إِلى القبلة؛ قاله ابن عباس، ومنْ هذا حديثٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ: «خَيْرُ بُيُوتِكُمْ مَا استقبل بِهِ القِبْلة». وقوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة}: خطابٌ لبني إِسرائيل، وهذا قبل نزول التوراة؛ لأَنها لم تَنْزِلْ إِلا بعد إِجازة البَحْر.
وقوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين}: أَمرٌ لموسَى عليه السلام، وقال الطبريُّ ومكيٌّ: هو أَمرٌ لنبينا محمَّد عليه السلام، وهذا غير متمكِّن.
وقوله سبحانه: {وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً...} الآية: هذا غضَبٌ من موسَى على القِبْطِ، ودعاءٌ عليهم، لمَّا عَتَوْا وعانَدوا، وقدَّم للدعاءِ تقريرَ نعِم اللَّه علَيْهم وكُفْرِهِم بها، و{ءاتَيْتَ} معناه: أَعْطَيْتَ، واللام في {لِيُضِلُّواْ} لام كَيْ، ويحتملُ أن تكون لامَ الصَّيْرورة والعَاقِبَةِ، المعنى: آتيتهم ذَلكَ، فصار أمرهم إِلى كذا، وقرأ حمزة وغيره: {لِيُضِلُّوا} بضم الياء؛ على معنى: لِيُضِلُّوا غيرهم.
وقوله: {رَبَّنَا اطمس على أموالهم}: هو من طُمُوسِ الأَثْر والعين؛ وَطَمْسُ الوجوه منه، وتكْرير قوله: {رَبَّنَا} استغاثة؛ كما يقول الداعي: يا اللَّه، يا اللَّه، روي أنهم حين دعا موسَى بهذه الدعوة، رَجَعَ سُكَّرُهُمْ حجارةً، ودراهِمُهم ودنانيرهم وحُبُوبُ أطعمتهم، رَجَعَتْ حجارةً؛ قاله قتادة وغيره، وقال مجاهد وغيره: معناه: أهْلِكْها ودَمِّرها.
وقوله: {واشدد على قُلُوبِهِمْ}: بمعنى: اطبع واختم عليهم بالكفر؛ قاله مجاهدٌ والضَّحَّاك.
وقوله: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ}: مذهب الأخفش وغيره: أنَّ الفعل منصوب؛ عطفاً على قوله: {لِيُضِلُّواْ}، وقيل: منصوبٌ في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي: هو مجزومٌ على الدعاء، وجعل رؤية العذاب نهايةً وغايةً؛ وذلك لِعِلْمه من اللَّه أنَّ المؤمن عند رؤية العَذَاب لا ينفعه إِيمانه في ذلك الوَقْت، ولا يُخْرِجُهُ من كُفْره، ثم أجاب اللَّه دعوتهما، قال ابن عباس: العَذَاب هنا: الغَرَقُ، وروي أن هارون كان يُؤْمِّنُ على دعاء موسَى؛ فلذلك نَسَب الدعوة إليهما؛ قاله محمد بن كَعْب القُرَظِيُّ، قال البخاريُّ: {وَعَدْوًا}: من العُدْوان. انتهى.
وقول فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ...} الآية: روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: مَا أَبْغَضْتُ أَحَداً قَطُّ بُغْضِي لِفِرْعَوْنَ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: {ءامَنتُ...} الآيَةَ، فَأَخَذْتُ مِنْ حَالِ البَحْرِ، فَمَلأْتُ فَمَهُ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَلْحَقُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ»
، وفي بعض الطرق: «مَخَافَةَ أَنْ يَقُولَ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، فَتَلْحَقُهُ الرَّحْمَة». قال * ع *: فانظر إِلى كلام فرعون، ففيه مَجْهَلَةٌ وَتَلَعْثُمٌ، ولاَ عُذْرَ لأحد فِي جَهْلِ هذا، وإِنما العذر فيما لا سبيلَ إِلى علمه، كقول عليٍّ رضي اللَّه عنه: أَهْلَلْتُ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والحَالُ: الطِّينُ، والآثار بهذا كثيرةٌ مختلفة الألفاظِ، والمعنَى واحدٌ.
وقوله سبحانه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}، وهذا عَلى جهة التوبيخ له، والإِعلان بالنقمةِ منه، وهذا الكلامُ يحتملُ أن يكونَ مِنْ مَلَكٍ مُوَصِّلٍ عن اللَّه، أَو كيف شاء اللَّه، ويحتملُ أَنْ يكون هذا الكلامُ معنَى حاله وصورةَ خِزْيه، وهذه الآيةُ نصٌّ في رَدِّ توبةِ المُعَايِنِ.

.تفسير الآيات (92- 93):

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}
وقوله سبحانه: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ...} الآية: يقوِّي أنه صورةُ حاله؛ لأن هذه الألفاظ إِنما يظهر أنها قِيلَتْ بعد غَرَقِهِ، وسببُ هذه المقالة؛ على ما روي: أن بني إِسرائيل بَعُدَ عِنْدَهم غَرَقُ فِرْعَوْنَ وهلاكُه، لِعِظَمِهِ في نُفُوسهم، وكَذَّبَ بَعْضُهُمْ أَنْ يكونَ فِرْعَوْنُ يموتُ، فَنُجِّيَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الأَرض، حتى رآه جميعهم ميتاً؛ كأَنه ثَوْرٌ أَحمر، وتحقَّقوا غَرَقَه.
والجمهور على تشديدِ {نُنَجِّيكَ}؛ فقالت فرقة: معناه: من النَّجَاةِ، أي: من غمراتِ البَحْرِ والماءِ، وقال جماعة: معناه: نُلْقِيكَ على نَجْوة من الأرض، وهي: ما ارتفع منها، وقرأ يعقوب بسكون النونِ وتخفيف الجيم، وقوله: {بِبَدَنِكَ} قالت فرقة: معناه: بشَخْصِكَ، وقالتْ فرقة: معناه: بِدِرْعِكَ، وقرأ الجمهورُ: {خَلْفَكَ} أي: من أَتَى بعدك، وقرئ شاذًّا: {لِمَنْ خَلَفَكَ}- بفتح اللام-، والمعنى: ليجعلك اللَّه آيَةً له في عبادِهِ، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إسراءيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطيبات فَمَا اختلفوا حتى جَاءَهُمُ العلم}: المعنى: ولقد اخترنا لبني إِسرائيل أَحْسَنَ اختيار، وأحللناهم مِنَ الأماكن أحْسَنَ محلٍّ، و{مُبَوَّأَ صِدْقٍ}: أي: يصدُقُ فيه ظنُّ قاصده وساكنه، ويعني بهذه الآية إِحلاَلُهُمْ بلادَ الشَّامِ وبَيْتَ المَقْدِسِ؛ قاله قتادة وابن زَيْد، وقيل: بلاد الشام ومصر، والأول أصحُّ، وقوله سبحانه: {فَمَا اختلفوا} أيْ: في نبوَّة نبينا محمَّد عليه السلام، وهذا التخصيصُ هو الذي وقع في كُتُب المتأوِّلين كلِّهم، وهو تأويلٌ يحتاج إِلى سند، والتأويل الثاني الذي يحتمله اللفظُ: أنَّ بني إِسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسَى في أول حاله، فلما جاءَهُم العلْمُ والأوامرُ، وغَرَقُ فرعَوْنَ، اختلفوا، فالآية ذامَّة لهم.
* ت *: فَرَّ رحمه اللَّه من التخصيص، فوقع فيه، فلو عمَّم اختلافهم على أنبيائهم موسَى وغيرِهِ، وعلَى نبيِّنا، لكان أَحْسَنَ، وما ذهب إِليه المتأوِّلون من التخصيص أَحْسَنُ لقرينةِ قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ}، فالربطُ بين الآيتين واضحٌ، واللَّهُ أعلم.

.تفسير الآيات (94- 97):

{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}
وقوله عز وجل: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ...} الآية: الصوابُ في معنى الآية: أنها مخاطبةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد بها سِوَاهُ مِنْ كُلِّ من يمكِنُ أن يشُكَّ أو يعارِض.
* ت *: ورُوينَا عن أبي داود سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ، قال: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بن هَارُونَ، قال: حدَّثنا محمَّد بنِ عَمْرٍو، عن أَبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «المِرَاءُ في القُرْآنِ كُفْرٌ»، قال عِيَاض في الشفا: تأول بمعنى الشك، وبمعنى الجِدَال. انتهى.
{الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ}: من أسلم من أهْلِ الكتاب، كابن سَلاَمٍ وغيره، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لَمَّا نزَلَتْ هذه الآية: «أَنَا لاَ أَشُكُّ وَلاَ أَسْأَلُ»، ثم جزم سبحانه الخَبَر بقوله: {لَقَدْ جَاءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ}، واللام في {لَقَدْ} لامُ قَسَم.
وقوله: {مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} يريد به: من أَن بني إِسرائيل لم يختلفوا في أمْره إِلا مِنْ بعد مجيئهِ عَلَيْه السلام؛ هذا قول أهل التأويل قاطبة.
قال * ع *: وهذا هو الذي يشبه أنْ تُرْجَى إِزالةُ الشَّكِّ فيه مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الكتاب، ويَحتملُ اللفظُ أَنْ يريد ب {مَا أَنزَلْنَا} جميعَ الشرع.
* ت *: وهذا التأويلُ عندي أُبَيْنُ إِذَا لُخِّص، وإِن كان قد استبعده * ع *: ويكون المراد ب {مَا أَنزَلْنَا}: مَا ذكره سبحانه من قصصهم، وذِكْرِ صفته عليه السلام، وذكْرِ أنبيائهم وصِفَتِهم وسيرهم وسائِرِ أخبارهم الموافِقَةِ لِمَا في كتبهم المنزَّلة على أنبيائهم؛ كالتوراة والإِنجيل والزَّبُور والصُّحُف، وتكون هذه الآية تَنْظُر إِلى قوله سبحانه: {مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ...} [يوسف: 111]، فتأمَّله، واللَّه أعلم.
وأما قوله: هذا قولُ أهْل التأويل قاطبةً، فليس كذلكَ، وقد تكلَّم صاحب الشفا على الآية، فأحْسَنَ، ولفظهُ: واختلف في معنى الآية، فقيلَ: المرادُ: قُلْ يا محمَّد للشاكِّ: {إِن كُنتَ فِي شَكٍّ...} الآية، قالوا: وفي السورة نَفْسِهَا ما دلَّ على هذا التأويل، وهو قوله تعالى: {قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي...} الآية [يونس: 104]، ثم قال عياضٌ: وقيل: إِن هذا الشكَّ: الذي أُمِرَ غَيْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بسؤالِ الذين يقرؤون الكتاب عنه، إِنما هو في ما قصَّهُ اللَّه تعالى من أخبار الأمم، لا فيما دعا إِلَيْه من التوحيد والشريعة. انتهى.
وقوله سبحانه: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله...} الآية: مما خوطِبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والمراد سواه.
قال * ع *: ولهذا فائِدةٌ ليست في مخاطبة الناس به، وذلك شدَّة التخويفِ؛ لأنه إِذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحَذَّرُ مِنْ مثل هذا، فغيره من النَّاسِ أَوْلَى أَن يحذَّر ويتقى على نفسه.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}: أي: حقَّ عليهم في الأزل وخلقهم لعذابه {لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} إِلا في الوقت الذي لا يَنْفَعهم فيه الإِيمان؛ كما صنع فرعون وأشباهه، وذلك وقتُ المُعَايَنَةِ.

.تفسير الآيات (98- 100):

{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)}
وقوله سبحانه: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ...} الآية: وفي مصحف أُبيٍّ وابنِ مسعودٍ: {فَهَلاَّ}، والمعنى فيهما واحدٌ، وأصل لولا التحضيضُ، أو الدلالةُ علَى مَنْعِ أَمرٍ لوجودِ غيرِهِ، ومعنى الآية: فَهَلاَّ آمَنَ أهْلُ قريةٍ، وهم على مَهَلٍ لم يتلبَّس العذابُ بهم، فيكون الإِيمان نافعاً لهم في هذا الحال، ثم استثنى قومَ يُونُسَ، فهو بحَسَب اللفظ استثناء منقطعٌ، وهو بحسب المعنَى متَّصلٌ لأن تقديره: ما آمن أهْلُ قريةٍ إِلا قَوْمَ يُونُسَ، وروي في قصَّة قوم يونُسَ: أن القوم لَمَّا كَفَروا، أي: تمادَوْا على كفرهم، أوحَى اللَّه تعالى إِليه؛ أَنْ أَنذِرْهم بالعذاب لثالثة، فَفَعَلَ، فقالوا: هو رَجُلٌ لا يَكْذِب، فارقبوه فَإِن أَقام بَيْنَ أَظْهُرِكم، فلا عليكم، وإِن ارتحل عنكم، فهو نزولُ العَذَابِ لا شَكَّ فيه، فلَمَّا كان الليلُ، تزوَّد يُونُسُ، وخَرَجَ عنهم، فأصبحوا فَلَمْ يجدُوهُ، فتابوا ودَعُوا اللَّه، وآمنُوا، ولَبِسُوا المُسُوحَ، وفَرَّقوا بين الأُمَّهات والأولادِ من النَّاسِ والبهائمِ، وكان العذَابُ فيما رُوِيَ عن ابن عباس: علَى ثُلُثَيْ مِيلٍ منهم، وروي: على مِيلٍ، وقال ابن جبير: غشيهمُ العذابُ؛ كما يَغْشَى الثوبُ القَبْرَ، فرفَع اللَّه عنهم العذابَ، فلمَا مضَتِ الثالثة، وعَلِمَ يونُسُ أن العذاب لم يَنْزِلْ بهم، قال: كَيْفَ أنصَرِفُ، وقد وجَدُوني في كَذِبٍ، فذهب مغاضباً؛ كما ذكر اللَّه سبحانه في غير هذه الآية، وذهب الطبريُّ إِلى أَنَّ قوم يونُسَ خُصُّوا من بين الأُمَمِ بِأَنْ تِيبَ عليهم مِنْ بَعْد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسِّرين، وليس كذلك، والمعاينةُ التي لا تَنْفَعُ التوبةُ معها هي تلبُّس العذاب أو الموتِ بشَخْصِ الإِنسانِ، كقصَّة فرعون، وأمَّا قوم يونس فلم يَصِلُوا هذا الحَدِّ.
* ت *: وما قاله الطبريُّ عندي أبْيَنُ، {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ}: يريد: إِلى آجالهم المقدَّرة في الأزل، وروي أن قوم يونس كانوا ب نِينَوَى من أرض المَوْصِلِ.
وقوله سبحانه: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}: المعنى: أفأنْتَ تكره الناس بإِدخالِ الإِيمَانِ في قُلُوبهم، واللَّه عَزَّ وجلَّ قد شاء غَيْرَ ذلك، و{الرجس} هنا بمعنى العذاب.

.تفسير الآيات (101- 103):

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}
وقوله سبحانه: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السموات والأرض...} الآية: هذه الآية أمْر للكفَّار بالاعتبار والنَّظَرِ في المصْنُوعات الدالَّة على الصَّانع من آيات السموات وأفلاكِها وكواكِبِها وسحابِها ونَحْوِ ذلك، والأرْضِ ونباتِهَا ومعادِنِها وغيرِ ذلك، المعنى: انظروا في ذلك بالواجب، فهو يُنْهِيكُمْ إِلى المعرفة باللَّه وبوَحْدَانيته، ثم أخبر سبحانه أنَّ الآيات والنُّذُرَ- وهم الأنبياء- لا تُغْنِي إِلا بمشيئته؛ ف مَا؛ على هذا: نافيةٌ، ويجوز أن تكون استفهاما في ضمنه نَفْيُ وقوعِ الغِنَى، وفي الآية على هذا: توبيخٌ لحاضِرِي النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال * ص *: و{النذر}: جمع نذيرٍ، إِما مصدرٌ بمعنى الإِنذارات، وإِما بمعنى مُنْذِرٍ. انتهى.
وقوله سبحانه: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ...} الآية: وعيدٌ إِذَا لَجُّوا في الكُفْرِ، حل بهم العذاب.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ}: أي: عادةُ اللَّه سَلَفَتْ بإِنجاء رسله ومتَّبعيهم عند نزولِ العذاب بالكَفَرَةِ {كذلك حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين}.
قال * ص *: أي: مثلَ ذلك الإِنجاء الذي نجينا الرسُلَ ومؤمنيهم نُنْجِي من آمن بك. انتهى، وخط المُصْحف في هذه اللفظة {نُنْجٍ} بجيم مطلقة دون ياء، وكلهم قرأ {نُنجِّ}- مشددة الجيم- إِلا الكسائيَّ وحفصاً عن عاصم؛ فإِنهما قرآ بسكون النونِ وتخفيفِ الجيم.

.تفسير الآيات (104- 107):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}
وقوله سبحانه: {قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي...} الآية، مخاطبةٌ عامَّة للناس أجمعين إِلى يوم القيامة.
وقوله: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ...} الآية: الوجْهُ في هذه الآية بمعنى المَنْحَى والمَقْصِد، أي: اجعل طريقك واعتمالك للدِّين والشرْعِ.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين * وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ...} الآية، قد تقدَّم أن ما كان مِنْ هذا النوع، فالخِطَابُ فيه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ غيره.
وقوله سبحانه: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ...} الآية: مقصودُ هذه الآية أن الحَوْل والقُوَّة للَّهِ، وال {ضُرُّ} لفظ جامعٌ لكلِّ ما يكرهه الإِنسان.
وقوله: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} لفظ تامُّ العموم.