فصل: تفسير الآيات (108- 109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (108- 109):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}
وقوله سبحانه: {قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}: هذه مخاطبةٌ لجميع الكفَّار ومستمرَّةٌ مدَى الدهْرِ، و{الحق}: هو القرآن والشرْعُ الذي جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}: منسوخَةٌ بالقتَالِ.
وقوله سبحانه: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين}. قوله: {حتى يَحْكُمَ الله}: وعدٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنْ يغلبهم، كما وقع، وهذا الصبرُ منْسُوخٌ أيضاً بالقتالِ، وصلَّى اللَّه على سيدنا ومولاَنَا محمَّدٍ وعلَى آله وصَحْبه وسَلَّم تسليماً.

.تفسير سورة هود عليه السلام:

مكية إلا نحو ثلاث آيات.
قال الداودي: وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشيب قال: «شيبتي هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت».
وفي رواية عن ابن عباس: «هود وأخواتها». انتهى.

.تفسير الآيات (1- 4):

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}
قوله عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياته} أي: أتْقِنَتْ وأجيدَتْ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزَل، ثم فُصِّل بتقطيعه، وتَبْيين أحكامه وأوامره علَى محمَّد نبيه عليه السلام في أزمنةٍ مختلفةٍ؛ ف {ثُمَّ} على بابها، فالإِحْكَامُ صفةٌ ذاتية، والتفصيلُ إِنما هو بحسب من يفصَّل له، والكتابُ بأَجمعه محكَمٌ ومفَصَّل، والإِحْكَام الذي هو ضدُّ النَّسْخ، والتفصيلُ الذي هو خلافُ الإِجمال، إِنما يقالان مع ما ذَكَرناه باشتراك.
قال * ص *: {ثُمَّ فُصِّلَتْ}: {ثُمَّ} لترتيب الأخبار؛ لا لترتيب الوقوع في الزمان، و{لَّدُنْ} بمعنى: عند. انتهى.
قال الداووديُّ: وعن الحسن: {أُحْكِمَتْ ءاياته}: قَالَ: أحكمت بالأَمْرِ والنهْي، ثم فُصِّلَتْ بالوعْدِ والوعيدِ، وعنه: فُصِّلَتْ بالثوابِ والعقابِ. انتهى. وقدَّم ال {نَذِيرٌ}؛ لأن التَّحذيرَ من النَّار هو الأهمُّ. {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ}، أي: اطلبوا مغفرتَهُ؛ وذلك بطلب دُخُولكم في الإِسلام، {ثُمَّ تُوبُواْ} من الكُفْرِ {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا}، ووصف المَتَاع بالحُسْنِ؛ لطيب عيش المؤمن برجائِهِ في ثوابِ ربِّه، وفَرَحِهِ بالتقرُّب إِليه بأَداء مفتَرَضَاته، والسرورِ بمواعيِدِه سُبْحانه، والكافِرُ ليس في شيء مِنْ هذا، {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ}، أي: كلَّ ذي إِحسان {فَضْلَهُ}، فيحتملُ أنْ يعود الضميرُ من {فَضْلِهِ} على {ذي فضل} أي: ثوابَ فَضْلِهِ، ويحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، أي: يؤتى اللَّه فضله كلَّ ذي فضلٍ وعملٍ صالحٍ من المؤمنين، ونَحْو هذا المعنى ما وعد به سبحانَهُ مِنْ تضعيف الحسنَاتِ، {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ}، أي: فقُلْ: إِني أخافُ عليكم عذابَ يوم كبيرٍ، وهو يومُ القيامة.

.تفسير الآيات (5- 8):

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}
وقوله سبحانه: {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ...} الآية: قيل: إِن هذه الآية نزلَتْ في الكفَّار الذين كانوا إِذا لقيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم تَطَامَنُوا وَثَنَوْا صُدُورهم؛ كالمتستِّر، ورَدُّوا إِليه ظهورَهُم، وغَشُوا وجوهَهُمْ بثيابهم، تباعداً منهم، وكراهيةً للقائه، وهم يَظُنُّون أنَّ ذلك يخفَى عليه، أوْ عن اللَّه عزَّ وجلَّ، وقيل: هي استعارة للْغِلِّ والحِقْدِ الذي كانوا يَنْطَوُونَ عليه، فمعنى الآية: أَلاَ إِنهم يُسِرُّون العداوةَ، ويَتَكَتَّمون بها، لِتَخْفى في ظَنِّهِم عن اللَّه وهو سبحانه حينَ تغشِّيهم بثيابهم، وإِبلاغِهِم في التستُّر، يعلَمُ ما يُسرُّون، و{يَسْتَغْشُونَ}: معناه يجعلونها أغشيةً وأغطيةً.
قال * ص *: قرأ الجمهور: {يَثْنُونَ}- بفتح الياء-؛ مضارع ثَنَى الشَّيْءَ ثَنْياً: طَوَاهُ. انتهى، وقرأ ابن عبَّاس وجماعة: {تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ}- بالرفْعِ-؛ على وزن تَفْعَوْعِلُ، وهي تحتملُ المعنيين المتقدِّمين، وحكى الطبريُّ عن ابن عبَّاس على هذه القراءة. أنَّ هذه الآية نزَلَتْ في قومٍ كانوا لا يأتون النساءَ والحَدَثَ إِلاَّ ويستَغْشُونَ ثيابهم؛ كراهيةَ أنْ يُفْضُوا بفروجهم إِلى السماء.
وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا...} الآية، المرادُ جميعُ الحيوانِ المحتاجِ إِلى رزْقٍ، والمستقر: صُلْب الأبِ، والمستودَعُ: بَطْن الأُمِّ، وقيل غير هذا، وقد تقدَّم.
وقوله: {فِي كتاب}: إِشارةٌ إِلى اللوح المحفوظ.
قال * ص *: {لِيَبْلُوَكُمْ} اللام متعلِّقة ب {خَلَقَ} وقيل: بفعلٍ محذوفٍ، أي: أَعْلَمَ بذلك لَيَبْلُوَكُمْ، انتهى.
{وَلَئِن قُلْتَ}: اللام في {لَئِنْ}: مُؤذنةٌ بأَنَّ اللام في {لَيَقُولَنَّ} لامُ قسم، لا جوابِ شرطٍ، وقولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} تناقُضٌ منهم؛ لأنهم مقرُّونَ بأن اللَّه خلق السموات والأرض، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيْسَرُ من ذلك، وهو البَعْثُ مِنَ القبورِ، وإِذْ خَلْقُ السموات والأرضِ، أكْبَرُ من خَلْقِ الناس.
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب}، أي: المتوعَّد به {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}، أي مدَّةٍ معدودة {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}، أي: ما هذا الحابسُ لهذا العذاب؛ على جهة التكذيب، {وَحَاقَ}: معناه: حَلَّ وأحاطَ. البخاريُّ: حاق: نَزَلَ.

.تفسير الآيات (9- 13):

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)}
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً...} الآية: الرحمة هنا: تَعمُّ جميع ما ينتفُعُ به مِنْ مطعومٍ وملبوسٍ وجَاهٍ وغيرِ ذلك، و{الإنسان} هنا اسمُ جنْسٍ، والمعنَى: إِن هذا الخُلُقَ في سجيَّة الإِنسان، ثم استثنى منهم الذين ردَّتهم الشرائعُ والإِيمانُ إِلى الصبْرِ والعملِ الصالحِ، و{كَفُورٌ} هنا: مِنْ كُفْر النعمة، وال {نَعْمَاءَ}: تَشْمَلُ الصحَّة والمَال، وال {ضَرَّاءَ}: من الضُّرِّ، وهو أيضاً شاملٌ؛ ولفظة {ذَهَبَ السيئات عَنِّي}: يقتضي بطَراً وجهلاً أَنَّ ذلك بإِنعامٍ من اللَّه تعالى، و{السيئات} هنا: كلُّ ما يسوء في الدنيا، والْ {فَرِح}؛ هنا: مطلق؛ فلذلك ذُمَّ، إِذ الفرحُ انهمال النفْسِ، ولا يأتي الفرحُ في القرآن ممدوحاً إِلا إِذا قيد بأنه في خَيْرٍ.
وقوله: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ}: استثناء متصلٌ؛ على ما قدَّمنا مِنْ أَنَّ الإِنسان عامٌ يراد به الجنْسُ؛ وهو الصواب، ومَنْ قال: إِنه مخصوصٌ بالكافر قال: هاهنا الاستثناء منقطعٌ، وهو قول ضعيفٌ من جهة المعنَى، لا من جهة اللفظ؛ لأن صفة الكُفْر لا تطلق على جميعِ الناسِ؛ كما تقتضي لفظةُ الإِنسان واستثنى اللَّه تعالى من الماشِينَ على سجيَّة الإِنسان هؤلاءِ الذين حملَتْهم الأديان على الصبْرِ على المكارِهِ، والمثابرةِ على عبادةِ اللَّهِ، وليس شَيْءٌ من ذلك في سجيَّة البَشَر، وإِنما حمل على ذلك خَوْفُ اللَّه وحبُّ الدَّارِ الآخرة، والصبْرُ على العملِ الصالحِ لا يَنْفَعُ إِلاَّ مع هداية وإِيمانٍ، ثم وعد تعالَى أهْلَ هذه الصفة بالمَغْفِرةِ للذُّنُوبِ والتفضُّلِ بالأجرِ والنَّعِيمِ.
وقوله سبحانه: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ}: سَببُ هذه الآية: أَنَّ كفَّار قريش قالوا: يا محمَّد، لو تركْتَ سبَّ آلهتنا، وتسفيه آبائنا، لَجَالَسْناك واتبعناك، وقالوا له: ائت بِقُرآن غيرِ هذا أو بدِّله، ونحو هذا من الأقوال، فخاطب اللَّه تعالَى نبيَّه عليه السلام على هذه الصورة من المخاطَبَة، ووقَّفَهُ بها توقيفاً رَادًّا علَى أقوالهم ومبطلاً لها، وليس المعنَى أنَّه عليه السلام هَمَّ بشيء من ذلك، فَزُجِرَ عنه، فإِنه لم يُرِدْ قطُّ تَرْكَ شيء مما أوحِيَ إِليه، ولا ضَاقَ صدْرُهُ به، وإِنما كان يَضِيقُ صدره بأقوالهم وأفعالهم وبُعْدِهِم عن الإِيمان.
قال * ص، وع *: وعبَّر ب {ضَآئِقٌ} وإِن كان أقلَّ استعمالا من ضَيِّقٍ لمناسبة {تَارِكٌ}؛ ولأن {ضَآئِقٌ} وصفٌ عارضٌ؛ بخلاف ضيق؛ فإِنه يدل على الثبوت، والصَّالحُ هنا الأولُ بالنسبة إِليه صلى الله عليه وسلم، والضمير في به عائدٌ على البعْضِ، ويحتمل أن يعود على ما و{أَن يَقُولُواْ} أي: كراهةَ أنْ يقولوا، أو لئلاَّ يقولوا، ثم آنسه تعالَى بقوله: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ}، أي: هذا القدْرُ هو الذي فُوِّضَ إِليك، واللَّه تعالَى بَعْدَ ذلك هو الوكيلُ الممضي لإِيمان من شاء، وكُفْرِ من شاء {أَمْ يَقُولُونَ افتراه}: {أم} بمعنى: بل، والافتراء أَخصُّ من الكذبِ، ولا يستعملُ إِلا فيما بَهَتَ به المرءُ وكَابَر.
وقوله سبحانه: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين} تقدَّم تفسير نظيرها، وقال بعضُ الناس: هذه الآية متقدِّمة على التي في يُونُسَ؛ إِذْ لا يصحُّ أَنْ يعجزوا في واحدةٍ، ثم يكلَّفوا عشراً.
قال * ع *: وقائلُ هذا القولِ لم يَلْحَظْ ما ذكَرْناه مِنَ الفَرْقِ بين التكْليفين، في كمال المماثَلَةِ مرةً كما هو في سورة يونس، ووقوفها على النظْمِ مرَّة كما هو هنا، وقوله: {إِن كُنتُمْ صادقين}: يريد في أَنَّ القُرآن مفترًى.

.تفسير الآيات (14- 21):

{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)}
وقوله سبحانه: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ}، لهذه الآية تأويلان:
أحدهما: أنْ تكون المخاطبةُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم للكفَّار، أي: ويكون ضميرُ {يَسْتَجِيبُواْ}؛ على هذا التأويل عائداً على معبوداتهم.
والثاني: أن تكون المخاطبةُ من اللَّه تعالَى للمُؤمنين، ويكون قوله؛ على هذا {فاعلموا} بمعنى: دُومُوا علَى عِلْمِكُم قال مجاهد: قوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}: هو لأصحابِ محمَّد عليه السلام.
وقوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا...} الآية: قالت قتادةُ وغيره: هي في الكَفَرة، وقال مجاهد: هي في الكفرة وأهْلِ الرياءِ من المؤمنين.
وإليه ذهب معاويَةُ، والتأويل الأول أَرْجَحُ؛ بحسب تقدُّمِ ذكْرِ الكفَّار، وقال ابنُ العربيِّ في أحكامِه: بل الآية عامَّة في كلِّ من ينوي غيْرَ اللَّهِ بِعَمَلِه، كان معه إيمان أو لم يكُنْ، وفي هذه الآية بيانٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعمْالُ بِالنِّيَّاتِ وإِنَّما لِكُلِّ امرئ مَا نَوَى»، وذلك أنَّ العبد لا يُعْطَى إِلا عَلَى وَجْهٍ قَصدَهُ، وبحُكْم ما ينعقدُ في ضَمِيرِهِ، وهذا أمرٌ مُتَّفَقٌ عليه.
وقوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}: قيل: ذلك في صحَّة أبدانهم وإِدرَارِ أرزَاقهم، وقيل: إِن هذه الآية مطْلَقةٌ، وكذلك التي في {حم عسق}: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] الآية إِلى آخرها، قيَّدتْهما وفسَّرتْهما الآيةُ التي في سورة سُبْحانَ، وهي قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ...} الآية [الإِسراء: 18]، فأخبر سبحانه أَنَّ العبدِ ينوي ويريدُ، واللَّه يحكُمُ ما يريدُ، ثم ذكر ابنُ العربيِّ الحديثَ الصحيحَ في النَّفَرِ الثلاثة الذين كَانَتْ أعمالهم رياءً، وهم رَجُلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قُتِلَ في سبيل اللَّه، ورَجُلٌ كثيرُ المالِ، وقولَ اللَّهِ لكلِّ واحدٍ منهم: «مَاذَا عَمِلْتَ؟» ثم قال في آخر الحديث: ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُكْبَتَيَّ، وَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ، ثُمَّ قرأ قوله تعالى: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الأخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا}، أي: في الدنيا وهذا نصٌّ في مراد الآية، واللَّه أعلم. انتهى.
و{حَبِطَ}: معناه: بَطَلَ وسَقَط، وهي مستعملةٌ في فَسَاد الأعمال.
قال * ص *: قوله: {مَا صَنَعُواْ}: {ما} بمعنى: الَّذِي، أو مصدريةٌ، و{فيها}: متعلِّقٌ ب {حَبِطَ}، والضمير في فيها عائدً على الآخرة، أي: ظهر حبوطُ ما صَنَعُوا في الآخرة، أَو متعلِّق ب {صَنَعُوا}؛ فيكون عائداً على الدنيا. انتهى.
وال {بَاطِلٌ}: كُلُّ ما تقتضي ذاتُه أَلاَّ تُنَال به غايةٌ في ثوابٍ ونحوه، وقوله سبحانه: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ}: في الآية تأويلات.
قال * ع *: والراجحُ عندِي مِنَ الأقوال في هذه الآية: أَنْ يكون {أَفَمَن} للمؤمنين، أوْ لهم وللنبيِّ صلى الله عليه وسلم معهم، وال {بَيِّنَةً}: القرآن وما تضمَّن، وال {شَاهِدٌ}: الإِنجيلُ، يريد: أَو إِعجاز القرآن في قولٍ، والضميرُ في يتلوه للبيِّنة، وفي منه للربِّ، والضميرُ في قبله للبينة أيضاً، وغير هذا مما ذُكِرَ محتملٌ، فإِن قيل: إِذا كان الضمير في قَبْله عائداً على القُرْآنِ، فَلِمَ لَمْ يذْكَر الإِنجيل، وهوَ قبله، وبَيْنَه وبَيْن كتاب موسَى؟، فالجوابُ: أنه خَصَّ التوراة بالذكْرِ؛ لأنه مجمَعٌ عليه، والإِنجيل ليس كذلك؛ لأن اليهود تخالِفُ فيه، فكان الاستشهاد بما تقُومُ به الحجَّةُ على الجميع أولَى، وهذا يجري مَعَ قولِ الجنِّ:
{إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} [الأحقاف: 30] والأحزاب؛ هاهنا يُراد بهم جميعُ الأُمَمِ، وروى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عن أبي موسَى الأَشعريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنه قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ وَلاَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ثُمَّ لاَ يُؤْمِنُ بي إِلاَّ دَخَلَ النَّار»، قال سعيدٌ: فقلْتُ: أَيْنَ مِصْدَاقُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ حَتَّى وَجَدتُّهُ فِي هَذِهِ الآيةِ، وَكُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ حَديثاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم طَلَبْتُ مِصْدَاقَهُ في كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وقرأ الجمهورُ: {فِي مِرْيَةٍ}- بكسر الميم-، وهو الشكُّ، والضمير في {منه} عائدٌ على كون الكَفَرة موعدُهُم النَّارُ، وسائر الآية بيِّن.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الأشهاد}: قالت فرقة: يُريدُ الشهداءَ مِنَ الأنبياء والملائكةِ، وقالت فرقة: الأشهادُ: بمعنى المشاهِدِينَ، ويريد جميعَ الخلائق، وفي ذلك إِشادةٌ بهم وتشهيرٌ لخزيهم، وروي في نحو هذا حديثٌ: «أَنَّهُ لاَ يُخْزَى أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاَّ وَيَعْلَمُ ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ المَحْشَرَ»، وباقي الآية بيِّن مما تقدَّم في غيرها.
قال * ص *: وقوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} يحتملُ أنْ يكون داخلاً في مفعولِ القولِ، وإِليه نحا بعضُهم. انتهى.
وقوله سبحانَهُ: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ}: يَحْتَمِلُ وجوهاً:
أَحدُها: أَنه وصف سبحانه هؤلاء الكُفَّار بهذه الصفة في الدنيا؛ علَى معنى أَنَّهم لا يسمعون سماعاً ينتفعُونَ به، ولا يبصُرونَ كذلك.
والثاني: أنْ يكون وصفهم بذلك مِنْ أَجْلِ بِغْضَتِهِمْ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعُونَ أَنْ يحملوا نفُوسَهم على السَّمْعِ منه، والنَّظَرِ إِليه.
{وَمَا}؛ في هذين الوجهين: نافيةٌ.
الثالث: أنْ يكون التقديرُ: يضاعَفُ لهم العذابُ بما كانوا، أيْ: بسبب ما كانوا؛ ف مَا مصدريةٌ، وباقي الآية بيِّن.