فصل: تفسير الآيات (76- 78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (76- 78):

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا...} الآية: المعنى: وهم أيضاً، إذا لُقُوا يفعلون هذا، فكيف يُطْمَع في إيمانهم، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنَفاً؛ فيه كشف سرائرهم؛ وَرَدَ في التفسير؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ المَدِينَةِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ»، فقال كَعْبُ بن الأشْرَفِ وأشباهه: اذهبوا وتحسَّسوا أخبارَ من آمَنَ بمحمَّد، وقولوا لهم: آمنا، واكفروا إِذا رجعتم، فنزلتْ هذه الآية، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في المنافقين من اليهود، وروي عنه أيضاً أنها نزلَتْ في قومٍ من اليهود، قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن أنه نبيٌّ، ولكن ليس إلَيْنا، وإنما هو إِليكم خاصَّة، فلما خلوا، قال بعضهم: لم تُقِرُّونَ بنبوءته، وقال أبو العالية وقتادةُ: إِن بعض اليهود تكلَّم بما في التوراة من صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال لهم كفرةُ الأحبار: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} أي: عرَّفكم من صفة محمَّد- صلى الله عليه وسلم-.
و{يُحَاجُّوكُم}: من الحجة، و{عِندَ رَبِّكُمْ}: معناه: في الآخرة.
وقول تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}: قيل: هو من قول الأحبار لَلأتباعِ، وقيل: هو خطابٌ من اللَّه تعالى للمؤمنين، أي: أفلا تعقلون أن بني إِسرائيل لا يؤمنون، وهم بهذه الأحوال.
و{أُمِّيُّونَ} هنا: عبارةٌ عن عامَّة اليهود، وجهلتهم، أي: أنهم لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضَّلاَل، والأُمِّيُّ في اللغة: الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتابٍ؛ نُسِبَ إلى الأُمِّ؛ إِما لأنه بحالِ أمِّه من عَدَمِ الكتب، لا بحال أبيه؛ إذ النساء ليس من شغلهن الكَتْبُ؛ قاله الطبريُّ؛ وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها، لم ينتقل عنها.
و{الكتاب}: التوراة.
والأَمَانِيُّ: جمع أُمْنِيَّة، واختلف في معنى {أَمَانِيَّ}، فقالت طائفة: هي هاهنا من: تمنَّى الرجل، إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكْتُب ولا يقرأ، وإنما يقول بظنِّه شيئاً سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب.
وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
تمنى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ** وَآخِرَهُ لاقى حِمَامَ المَقْادِرِ

فمعنى الآية: أنهم لا يَعْلَمُون الكتاب إِلاَّ سماع شيْءٍ يتلى، لا عِلْمَ لهم بصحَّته.
وقال الطبريُّ: هي من تَمَنَّى الرجُلِ، إذا حدَّث بحديث مختلَقٍ كذبٍ، أي: لا يعلمون الكتاب إِلا سماعَ أشياء مختلَقَةٍ من أحبارهم، يظنُّونها من الكتاب.
* ص *: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}: {إِنْ}: نافية؛ بمعنى مَا. انتهى.

.تفسير الآيات (79- 82):

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله}.
قال الخليلُ: الوَيْلُ: شِدَّةُ الشر، وهو مصدر، لا فِعْلَ له، ويجمع على وَيْلاَتٍ، والأحسن فيه إِذا انفصل: الرفْعُ؛ لأنه يقتضي الوقُوعَ، ويصحُّ النصب على معنى الدُّعَاء، أي: ألزمه اللَّه وَيْلاً، ووَيْلٌ ووَيْحٌ ووَيْسٌ تتقاربُ في المعنى، وقد فرق بينها قوم.
وروى سفيانُ، وعطاءُ بنُ يَسارٍ؛ أن الوَيْلَ في هذه الآية وادٍ يجري بفناءِ جهنَّم من صديد أهل النار.
وروى أبو سعيد الخُدْرِيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم «أنه وادٍ في جهنَّم بيْن جبَلَيْنِ يَهْوِي فيه الهاوِي أربعِينَ خَرِيفاً» وروى عثمانُ بن عفَّانَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم «أنه جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ النَّار»، والذين يكْتُبُونَ: هم الأَحْبَارُ والرؤساءُ.
و{بِأَيْدِيهِمْ} قال ابن السَّرَّاج: هي كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، والذي بدَّلوه هو صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ليستديمُوا رياستهم ومكاسبهم، وذكر السُّدِّيُّ؛ أنهم كانوا يكتبون كتباً يبدِّلون فيها صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويبيعونَهَا من الأَعراب، ويبثُّونها في أتباعهم، ويقولون هي من عند اللَّه، والثَّمَنُ: قيل: عَرَضُ الدنيا، وقيل: الرُّشَا والمآكلُ التي كانتْ لهم، و{يَكْسِبُونَ} معناه: من المعاصي، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثَّمَن.
وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً...}: روى ابن زَيْد وغيره؛ أنَّ سببها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟» فَقَالُوا: نَحْنُ، ثُمَّ تَخْلُفُونَا أَنْتُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «كَذَبْتُمْ؛ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا لاَ نَخْلُفُكُمْ» فنزلَتْ هذه الآية.
قال أهل التفسير: العهد في هذه الآية: الميثاقُ والموعد، وبلى رد بعد النفْيِ بمنزلة نَعَمْ بعد الإِيجاب، وقالت طائفة: السيئة هنا الشرك؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ في النار} [النمل: 90] والخَطِيئاتُ: كبائر الذنوب، قال الحسن بن أبي الحسن، والسُّدِّيُّ: كل ما توعد اللَّه عليه بالنار، فهي الخطيئة المحيطَةُ، والخلودُ في هذه الآية على الإِطلاق والتأبيد في الكُفَّار، ومستعار؛ بمعنى الطُّول في العُصَاة، وإِن علم انقطاعه.
قال محمَّد بن عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ في مختصره للطبريِّ: أجمعتِ الأمَّة على تخليد مَنْ مات كافراً، وتظاهرت الرواياتُ الصحيحةُ عن الرسُول صلى الله عليه وسلم والسلفِ الصالح، بأن عصاة أهل التوحيد لا يخلَّدون في النار، ونطق القرآن ب {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 116] لكن من خاف على لَحْمه ودَمِه، اجتنب كل ما جاء فيه الوعيدُ، ولم يتجاسَرْ على المعاصي؛ اتكالا على ما يرى لنفسه من التوحيد، فقد كان السلف وخيار الأمة يخافُون سلْب الإِيمان على أنفسهم، ويخافون النفاقَ عليها، وقد تظاهرتْ بذلك عنهم الأخبار. انتهى.
وقوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ...} الآية: يدلُّ هذا التقسيم على أن قوله تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} الآية في الكفار، لا في العصاة؛ ويدل على ذلك أيضاً قوله: {وأحاطت}؛ لأن العاصي مؤمنٌ، فلم تحط به خطيئاته؛ ويدل على ذلك أيضاً أن الردَّ كان على كُفَّارٍ ادَّعَوْا أنَّ النَّارَ لا تَمَسُّهم إلا أياماً معدودةً، فهم المراد بالخلود، واللَّه أعلم.

.تفسير الآيات (83- 85):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ...} الآية: أخذ اللَّه سبحانه الميثاق عليهم على لسان موسى- عليه السلام-وغيره من أنبيائهم، وأخْذ الميثاق قولٌ، فالمعنى: قلنا لهم: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله...} الآية، قال سيبوَيْهِ: لا تعبدون: متلق لقسم؛ والمعنى: وإذ استحلفناهم، واللَّهِ لا تعبدونَ إلاَّ اللَّه، وفي الإحسان تدخل أنواع بِرِّ الوالدين كلُّها، واليُتْم في بَنِي آدمَ: فَقْدُ الأبِ، وفي البهائمِ فَقْدُ الأمِّ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ»، وقيل: هو الذي له بُلْغَةٌ، والآية تتضمَّن الرأفة باليتامى، وحيطة أموالهم، والحضّ على الصدقة، والمواساة، وتفقُّد المساكين.
وقوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}: أمر عطف على ما تضمَّنه {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} وما بعده، وقرأ حمزة والكسَائِيُّ: {حَسَناً}؛ بفتح الحاء والسين، قال الأخفش: وهما بمعنى واحدٍ، وقال الزجَّاج وغيره: بل المعنى في القراءة الثانية، وقولوا قَوْلاً حَسَناً؛ بفتح الحاء والسين، أو قولاً ذا حُسْن بضم الحاء وسكون السين في الأولى؛ قال ابن عبَّاس: معنى الكلام قولُوا للنَّاس: لا إله إلا اللَّه، ومُرُوهم بها، وقال ابن جُرَيْجٍ: قولوا لهم حُسْناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال سفيانُ الثَّوْرِيُّ: معناه: مروهم بالمَعْروف، وانهوهم عن المُنْكَر، وقال أبو العالية: قولوا لهم الطيبَ من القول، وحاورُوهم بأحسن ما تُحِبُّونَ أن تحاوروا به، وهذا حضٌّ على مكارم الأخلاق، وزكاتُهم هي التي كانوا يَضعُونها، وتنزل النار على ما تُقُبّلَ منها، دون ما لم يتقبل.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ...} الآية: خطابٌ لمعاصري النبيِّ صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولّي أسلافهم؛ إِذ هم كلُّهم بتلك السبيل، قال نحوه ابنُ عَبَّاس وغيره. والمراد بالقليلِ المستثنى جميعُ مؤمنيهم قديماً من أسلافهم، وحديثاً كابن سَلاَمٍ وغيره، والقِلَّة على هذا هي في عدد الأشخاصِ، ويحتمل أن تكون القِلَّة في الإِيمان، والأول أقوى.
* ص *: {إِلاَّ قَلِيلاً}: منصوب على الاستثناء، وهو الأفصح؛ لأنه استثناءٌ من موجب، وروي عن أبي عَمرو: إلاَّ قَلِيلٌ؛ بالرفع، ووجَّهه ابن عطية على بدل قليل من ضمير: {تَوَلَّيتُمْ} على أن معنى {تَوَلَّيْتُم} النفي، أي: لم يف بالميثاق إلا قليل، ورد بمنع النحويِّين البدل من الموجب؛ لأن البدل يحل محلَّ المبدل منه، فلو قلْت: قام إلا زيد، لم يجز؛ لأن {إِلاَّ} لا تدخل في الموجب، وتأويله الإِيجاب بالنفْي يلزم في كل موجب باعتبار نفي ضده أو نقيضه؛ فيجوز إِذَنْ: قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْدٌ؛ على تأويل: لَمْ يَجْلِسُوا إِلاَّ زَيْدٌ ولم تبن العَرَب على ذلك كلامها، وإِنما أجازوا: قام القَوْمُ إِلاَّ زَيْدٌ؛ بالرفع على الصفة، وقد عقد سيبوَيْه لذلك باباً في كتابه.
انتهى.
و{دِمَاءَكُمْ}: جمع دَمٍ، وهو اسمٌ منقوصٌ. أصله دَمَيٌ؛ {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دياركم}: معناه: ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغْي، وكذلك حكم كلّ جماعة تخاطب بهذا اللفظ في القول.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ}، أي: خَلفَاً بعد سَلَف، أن هذا الميثاق أخذ عليكم، وقوله: {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} قيل: الخطابُ يُرادُ به من سلف منهم، والمعنى: وأنتم شهود، أي: حُضور أخْذ الميثاق والإِقرار.
وقيل: المراد: من كان في مدة محمَّد صلى الله عليه وسلم والمعنى: وأنتم شهداء، أي: بيِّنةَ أن الميثاق أخذ على أسلافكم، فمنْ بعدهم منْكُمْ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ...}: {هؤلاء} دالَّةٌ على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردًّا إلى الأسلاف، قيل: تقدير الكلام: يا هؤلاءِ، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبوَيْه، مع المبهمات.
وقال الأستاذ الأَجَلُّ أبو الحسن بْن أحمد شيخُنا: {هؤلاء}: رفع بالابتداء، و{أَنتُمْ}: خبر، {تَقْتُلُونَ}، حال بها تَمَّ المعنى، وهي المقصود.
* ص *: قال الشيخ أبو حَيَّان: ما نقله ابن عطية عن شيخه أبي الحسن بن البَادْش من جعله {هؤلاء} مبتدأً، و{أَنتُمْ} خبر مقدَّم، لا أدري ما العلَّة في ذلك، وفي عدوله عن جعل {أَنتُمْ} مبتدأ، {هؤلاء} الخبر، إلى عكسه. انتهى.
* ت *: قيل: العلة في ذلك دخولُ هاء التنبيه عليه؛ لاختصاصها بأول الكلام؛ ويدلُّ على ذلك قولهم: هَأَنَذَا قَائِماً، ولم يقولوا: أَنَا هَذَا قَائِماً، قال معناه ابنُ هِشَامٍ، ف قَائِماً في المثال المتقدِّم نصب على الحال. انتهى.
وهذه الآية خطابٌ لقُرَيْظة، والنضير، وبني قَيْنُقَاع، وذلك أن النَّضِيرَ وقُرَيْظة حَالَفَت الأوسَ، وبني قَيْنُقَاع حالفتِ الخزرج، فكانوا إِذا وقعتِ الحربُ بين بني قَيْلَة، ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها، فقتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة، وهم قد خالَفُوها بالقتَالِ، والإِخراج.
والديارُ: مباني الإِقامة، وقال الخليلُ: مَحَلَّةِ القَوْمِ: دَارُهُمْ.
ومعنى {تظاهرون}: تتعاونون، و{العُدْوَانِ}: تجاوز الحدُودِ، والظلم.
وقرأ حمزة: {أسرى تُفْدُوهُمْ}، و{أسارى}: جمع أَسِيرٍ، مأخوذ من الأَسْر، وهو الشَّدُّ، ثم كثر استعماله؛ حتى لزم، وإن لم يكنْ ثَمَّ رَبْطٌ ولا شَدٌّ، وأَسِيرٌ: فَعِيلِ: بمعنى مفعول، و{تفادوهم}: معناه في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً، وقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: يقال: فدى، إِذا أعطى مالاً، وأخذ رجلاً، وفادى، إِذا أعطى رجلاً، وأخذ رجُلاً فتُفْدُوهم: معناه بالمالِ، وتُفَادُوهم، أي: مفادات الأسير بالأسير. انتهى.
* ت *: وفي الحديث من قوْل العَبَّاس رضي اللَّه عنه: «فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وعَقِيلاً»، وظاهره لا فَرْق بينهما.
وقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ...} الآية: والذي آمنوا به فداءُ الأسارى، والذي كَفَرُوا به قتْلُ بعضهم بعضاً، وإِخراجُهُمْ من ديارهم، وهذا توبيخٌ لهم وبيانٌ لقبح فعلهم، والخِزْيُ: الفضيحة، والعقوبة، فقيل: خزيهم: ضرْبُ الجزية عليهم غابَر الدهر، وقيل: قتل قريظة، وإِجلاءُ النضير، وقيل: الخزْيُ الذي تتوعَّد به الأمة من الناسِ هو غلبةُ العدوِّ.
و{الدنيا}: مأخوذةٌ من دَنَا يدْنُو، وأصل الياء فيها واوٌ، ولكن أبدلتْ فرقاً بين الأسماء والصفات، وأَشَدّ العَذَابِ: الخلودُ في جهنم.
وقوله تعالى: {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ نافعٌ، وابن كَثِير بياءٍ على ذِكْر الغائب، فالخطاب بالآية لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم والآية واعظةٌ لهم بالمعنى، إذ اللَّه تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص.
وقرأ الباقون بتاء؛ على الخطاب لمن تقدَّم ذكره في الآية قبل هذا؛ وهو قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب...} الآية، وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم فقد رُوِيَ؛ أنَّ عمر بن الخَطَّاب- رضي اللَّه عنه- قال: «إِنَّ بنِي إِسرائيل قد مضَوْا، وأنتم الذين تُعْنَوْنَ بهذا، يا أمة محمَّد»؛ يريد هذا، وما يجري مجراه.

.تفسير الآيات (86- 88):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
وقوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة...} الآية: جعل اللَّه ترك الآخرةِ، وأخْذَ الدنيا عوضاً عنها، مع قدرتهم على التمسُّك بالآخرة- بمنزلة من أخذها، ثم باعها بالدنيا، {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب}، في الآخرة، {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
* ص *: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب}: اللام في لَقَدْ: يحتمل أن تكون توكيداً، ويحتمل أن تكون جواب قسم، وموسى هو المفعول الأول، والكتاب الثانِي، وعكس السُّهَيْلِيُّ.
و{مَرْيَمَ}: معناه في السُّرْيانية: الخَادَم، وسميت به أمُّ عيسى، فصار علماً عليها. انتهى.
و{الكتاب}: التوراةُ.
{وَقَفَّيْنَا}: مأخوذ من القَفَا؛ تقول: قَفَيْتُ فُلاَناً بِفُلاَنٍ، إِذا جئْتَ به من قبل قَفَاه، ومنه: قَفَا يَقْفُو، إِذا اتبع، وكلُّ رسول جاء بعد موسى، فإِنما جاء بإِثبات التوراة، والأمر بلزومها إلى عيسَى- عليهم السلام-.
و{البينات}: الحججُ التي أعطاها اللَّه عيسى.
وقيل: هي آياته من إحياء، وإبراء، وخَلْق طَيْرٍ، وقيل: هي الإِنجيل، والآية تعم ذلك.
{وأيدناه}: معناه: قويْناه، والأَيْدُ القوة.
قال ابن عبَّاس: {رُوح القدس}: هو الاسم الذي كان يُحْيِي به الموتى، وقال ابن زِيْد: هو الإِنجيل؛ كما سمَّى اللَّه تعالَى القرآن رُوحاً، وقال السُّدِّيُّ، والضَّحَّاك، والربيع، وقتادة: {رُوحُ القدس}: جبريلُ- عليه السلام-؛ وهذا أصحُّ الأقوال، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّان: «اهج قُرَيْشاً، وَرُوحُ القُدُسِ مَعكَ» ومرةً قال له: «وَجِبْرِيلُ مَعَكَ»، و{كُلَّمَا}: ظرف؛ والعامل فيه: {استكبرتم}، وظاهر الكلامِ الاستفهامُ، ومعناه التوبيخُ؛ روي أن بني إِسرائيل كانوا يقتلون في اليومِ ثلاثمائة نبيٍّ، ثم تقوم سوقُهم آخر النهار، وروي سبعين نبيًّا، ثم تقومُ سوق بَقْلِهِمْ آخر النهار.
والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحقٍّ، وهو في هذه الآية من ذلك؛ لأنهم إنما كانوا يَهْوَوْنَ الشهوات، ومعنى: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، أي: عليها غشاواتٌ، فهي لا تفقه، قال ابن عبَّاس. ثم بيَّن تعالى سبب نُفُورهم عن الإِيمان إِنما هو أنهم لُعِنُوا بما تقدَّم من كفرِهِم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنْبِ بذنْب أعظم منه، واللعن: الإبعاد والطرد.
و{قَلِيلاً}: نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: فإِيماناً قَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ، والضميرُ في {يُؤْمِنُونَ} لحاضري محمَّد صلى الله عليه وسلم منْهُمْ؛ ومَا في قوله: {مَّا يُؤْمِنُونَ} زائدةٌ موكِّدَة.