فصل: تفسير الآيات (89- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (89- 92):

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}
وقوله تعالى: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون}، روي أنَّ يوسُف عليه السلام لما قال له إخوته: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} [يوسف: 88]، واستعطفوه رَقَّ ورحمهم، قال ابنُ إِسحاق: وارفض دمعه باكياً، فَشَرَعَ في كَشْفِ أمره إِليهم، فروي أنه حَسَرَ قناعه، وقال لَهُمْ: {هَلْ عَلِمْتُمْ...} الآية، و{مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}: أي: التَّفْريق بينَهُما في الصِّغَر وما نالهما بسَبَبِكُم من المِحَن؛ {إِذْ أَنتُمْ جاهلون}، نسبهم إِمَّا إِلى جَهْلِ المعصيةِ، وإِما إِلى جَهْلِ الشَبَابِ وقلَّةِ الحُنْكَة، فلمَّا خاطبهم هذه المخاطبة، تنبَّهوا، ووقَعَ لهم من الظَّنِّ القويِّ وقرائنِ الحال؛ أنه يوسُفُ فقالوا: {أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ}؛ مستفهمين، فأجابهم يوسف كاشفاً عن أمره، {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي} وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: {قَالُواْ تالله لَقَدْ ءَاثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لخاطئين}: هذا منهم استنزال ليوسُفَ، وإِقرار بالذنْبِ في ضِمْنه استغفار منه، و{ءَاثَرَكَ}: لفظٌ يعمُّ جميعَ التفضيل.
وقوله: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} عفوٌ جميلٌ، وقال عكرمة: أوحى اللَّه إِلى يوسف بِعَفْوِكَ عَنْ إِخوتك، رَفَعْتُ لك ذكْرَك، والتثريب: اللوْمُ والعقوبةُ وما جَرَى معهما من سوءِ مُعْتَقَدٍ ونحوه، وعبَّر بعضُ الناس عن التثْرِيب بالتعيير، ووقَفَ بعْضُ القَرَأَةِ {عَلَيْكُم}، وابتدأ: {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ}؛ ووقف أكثرهم: {اليوم} وابتدأ: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} على جهة الدعاء وهو تأويلُ ابن إِسحاق والطبريِّ، وهو الصحيحُ الراجح في المعنَى؛ لأن الوقْفَ الآخِرَ فيه حُكْم على مغفرة اللَّه، اللَّهُمَّ إِلا أَنْ يكون ذلك بوَحْيٍ.

.تفسير الآيات (93- 96):

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)}
وقوله: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي}: قال النَّقَّاش: روي أن هذا القميصَ كَانَ مِنْ ثياب الجَنَّة، كساه اللَّه إِبراهيم، ثم توارَثَهُ بنوه.
قال * ع *: هذا يحتاجُ إِلى سندٍ والظاهرُ أنه قميصُ يوسُفَ كسائر القُمُصِ، وقولُ يوسف: {يَأْتِ بَصِيرًا} فيه دليلٌ على أنَّ هذا كلَّه بوحْيٍ وإِعلامٍ مِنَ اللَّه تعالى، وروي أنَّ يعقوب وجد ريحَ يوسُفَ وبَيْنَهُ وبَيْنَ القَميصِ مسيرةُ ثمانيةِ أيامٍ؛ قاله ابن عباس، وقال: هاجَتْ ريحٌ، فحملَتْ عَرْفَه، وقول يعقوب: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}: مخاطبةٌ لحاضريه، فروي أنهم كانوا حَفَدَتَهُ، وقيل: كانوا بَعْضَ بنيه، وقيل: كانوا قرابتَهُ و{تُفَنِّدُونِ} معناه: تردُّون رأْيي، وتدْفَعُون في صَدْره، وهذا هو التفنيد لغة، قال مُنْذِرُ بن سَعِيدٍ: يقال: شَيْخٌ مُفَند، أيْ: قد فسد رأيه والذي يشبه أنَّ تفنيدهم ليعقوبَ؛ إِنما كان لأَنهم كانوا يعتقدون أنَّ هواه قد غَلَبَهُ في جانِبِ يوسُفَ.
وقال * ص *: معنى {تُفَنِّدُونِ}: تسفِّهون، انتهى، وقولهم: {إِنَّكَ لَفِي ضلالك القديم}: يريدون: لَفِي انتلافك في مَحَبَّة يوسف، وليس بالضَّلال الذي هو في العُرْف ضدُّ الرشادِ؛ لأن ذلك من الجَفَاءِ الذي لا يَسُوغُ لهم مواجَهَتِه به.
وقوله سبحانه: {فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيرًا}: روي عن ابنَ عَبَّاسٍ؛ أن البشير كان يَهُوذَا؛ لأنه كان جَاءَ بِقَمِيصِ الدَّمِ و{بَصِيراً}: معناه: مُبْصراً، وروي أنه قال للبشير: على أيِّ دِينٍ تركْتَ يوسُفَ؟ قال: على الإِسلام؛ قال: الحَمْدِ للَّهِ؛ الآن كَمُلَتِ النعمة.

.تفسير الآيات (97- 100):

{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}
وقوله تعالى: {قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا...} الآية: روي أنَّ يوسُفَ عليه السلام لما غَفَر لإِخوته، وتحقَّقوا أَنَّ أباهم يغفر لهم، قال بعضُهم لبعض: ما يُغْنِي عنا هذا إِنْ لم يغفر اللَّه لَنَا، فطلبوا حينئذٍ من يعقُوبَ عليه السلام أنْ يطلب لهم المغفرَةَ مِنَ اللَّه تعالى، واعترفوا بالخَطَإِ، فقال لهم يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}.
* ت *: وعن ابن عباس؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ رضي اللَّه عنه: «إِذَا كَانَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَإِنِ استطعت أَنْ تَقُومَ في ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنَّها سَاعَةٌ مَشْهُودَةٌ وَالدُّعَاءُ فِيهَا مُسْتَجَابٌ، وقد قال أخي يعقوبُ لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}، يقول: حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ الجُمُعَةِ...» وذكر الحديث، رواه الترمذيُّ، وقال: حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث الوليد بن مُسْلم، ورواه الحاكم في المستدْرك على الصحيحين، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً انتهى من السلاح.
وقوله سبحانه: {ءاوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} قال ابنُ إِسحاق، والحسن: أراد بالأبوين: أباه وأمَّه، وقيل: أراد؛ أباه وخالته.
قال * ع *: والأول أظهر؛ بحسب اللفْظِ، إِلا أَنْ يثبت بِسنَدٍ أنَّ أمه قد كانَتْ ماتَتْ.
وقوله تعالى: {إِن شَاءَ الله} هذا الاستثناءُ هو الذي نَدَبَ القرآن إِليه؛ أَن يقوله الإِنسانُ في جميعِ ما ينفذه في المستقبل، و{العرش}: سريرُ المُلْك، و{خَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا}: أي: سجودَ تَحِيَّةٍ، فقيل: كان كالسُّجُود المعهودِ عندنا من وَضْعِ الوجْهِ بالأرض.
وقيل: بل دون ذلك كالرُّكوعِ البالغ ونحوه ممَّا كان سيرةَ تحيَّاتهم للملوكِ في ذلك الزمَانِ، وأجمع المفسِّرون؛ أنه كان سجُودَ تحيَّة لا سُجُودَ عبادةٍ، وقال الحسنُ: الضمير في {له} للَّه عزَّ وجلَّ، ورُدَّ هذا القولُ على الحَسَنِ.
وقوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رؤياي مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}: المعنى: قال يوسُفُ ليعقوبَ، هذا السجودُ الذي كانَ منْكُم هو ما آلَتْ إِليه رؤياي قديماً في الأحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمْس والقمر، {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} ثم أخذ عليه السلام يعدِّد نعم اللَّه عَلَيْه، وقال: وقد أخرجني من السجن، وترك ذكر إِخراجه من الجُبِّ؛ لأنَّ في ذكره تجْدِيدَ فعْلِ إِخوته وخِزْيِهِم، وتَحْرِيكَ تِلْكَ الغوائِلِ، وتخبيثَ النفوسِ، ووجْه آخر أنه خَرَجَ مِنَ الجُبِّ إِلى الرِّقِّ، ومن السِّجْنِ إِلى المُلْكِ، فالنعمةَ هنا أَوضَحُ، {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}، أي: من الأمور أنْ يفعله؛ {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم}.
قال * ع *: ولا وَجْه في ترك تعريفِ يُوسُفَ أباه بحاله مُنْذُ خَرَجَ من السِّجْنِ إِلى العِزِّ إِلا الوَحْيُ مِنَ اللَّه تعالَى؛ لَمَّا أَراد أَن يمتحن به يَعْقُوب وبنيه، وأراد من صورة جمعهم، لا إله إِلا هو.
وقال النَّقَّاش: كان ذلك الوحْيُ في الجُبِّ، وهو قوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]، وهذا محتمل.

.تفسير الآيات (101- 104):

{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)}
وقوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث...} الآية: ذكر كثيرٌ من المفسِّرين أنَّ يوسُفَ عليه السلام لما عَدَّد في هذه الآية نِعَمَ اللَّه عنده، تشوَّق إِلى لقاء ربِّه ولقاءِ الجِلَّة وصالحي سَلَفِهِ وغيرهم مِنَ المؤمنين، ورأَى أَن الدنيا قليلةٌ فتمنَّى المَوْت في قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بالصالحين}.
وقال ابن عبَّاس: لم يتمنَّ المَوْتَ نبيٌّ غَيْرُ يُوسُفَ، وذكر المهدويُّ تأويلاً آخر، وهو الأقْوَى عندي: أنه ليس في الآية تمنِّي موتٍ، وإِنما تمنى عليه السلام الموافَاةَ على الإِسلام لا المَوْتَ، وكذا قال القرطبيُّ في التذكرة؛ أَنَّ معنى الآية: إِذا جاء أَجَلِي، توفَّني مسلماً، قال: وهذا القول هو المختارُ عنْدَ أهل التأويل، واللَّه أعلم، انتهى، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ»؛ إِنَّمَا يريد ضَرَر الدنيا؛ كالفَقْر، والمَرَضِ ونحو ذلك، ويبقَى تمنِّي الموت؛ مخافةَ فسادِ الدِّين مباحَاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أدعيته: «وَإِذَا أَرَدَتَّ بِالنَّاسِ فِتْنَةً، فاقبضني إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ». وقوله: {أَنتَ وَلِيِّي}: أي القائِمُ بأمري، الكفيلُ بنُصْرتي ورَحْمتي.
وقوله عز وجل: {ذلك مِنْ أَنبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ}: {ذلك}: إِشارة إِلى ما تقدَّم من قصَّة يوسُفَ، وهذه الآية تعريضٌ لقريشٌ، وتنبيهٌ على آية صدْقِ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وفي ضمن ذلك الطعْنُ على مكذِّبيه، والضمير في {لَدَيْهِمْ}: عائدٌ على إِخوة يوسُفَ، و{أَجْمَعُواْ}: معناه: عزموا، والأمر، هنا: هو إِلقاء يوسُفَ في الجُبِّ، وحكى الطبري عن أبي عمران الجَوْنِيِّ؛ أَنه قال: واللَّه ما قَصَّ اللَّه نبأهم؛ ليُعَيِّرَهُمْ؛ إِنهم الأَنبياءُ مِنْ أَهْلَ الجَنَّة، ولكنَّ اللَّه قَصَّ علينا نبأهم؛ لئلاَّ يَقْنَطَ عَبْدُهُ.
وقوله سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ...} الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ...} الآية توبيخٌ للكفَرة، وإِقامةٌ للحُجَّةِ عليهم، ثم ابتدأ الإِخبَارَ عن كتابه العزيز؛ أنه ذكْرٌ وموعظةٌ لجميعِ العالَمِ، نفعنا اللَّه به، ووفَّر حظنا منه.

.تفسير الآيات (105- 107):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}
وقوله سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السموات والأرض}: يعني بال {آيَةٍ}؛ هنا: المخلوقاتُ المنصوبةُ للاعتبار الدالَّة على توحيد خالقها سبحانه، وفي مُصْحَفِ عبد اللَّه: {يَمْشُونَ عَلَيْهَا}.
وقوله سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ}: قال ابنُ عبَّاس: هي في أهْل الكتاب، وقال مجاهد وغيره: هي في العَرَب، وقيل: نزلَتْ بسبب قَوْل قُرَيْشٍ في الطَّوَافَ، والتلبيةِ: لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ إِلاَّ شَرِيكاً هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وروي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا سَمِعَ أَحدَهُمْ يَقُولُ: لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، يَقُولُ له: قطْ قطْ، أي: قفْ هنا، ولا تَزِدْ: إِلا شريكاً هو لَكَ، وال {غَاشِيَةٌ}: ما يغشَى ويغطِّي ويغمُّ، و{بَغْتَةً}: أيْ: فجأة، وهذه الآية من قوله: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ}، وإِن كانَتْ في الكفَّار، فإِن العصاة يأخُذُونَ من ألفاظها بحظٍّ ويكون الإِيمانُ حقيقةً، والشِّرْكُ لغويًّا، كالرياء، فقد قال عليه السلام: «الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ».

.تفسير الآيات (108- 111):

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
وقوله سبحانه: {قُلْ هذه سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى الله...} الآية: إِشارةٌ إِلى دَعْوة الإِسلام والشريعة بأسرها، قال ابن زَيْد: المعنى هذا أمري وسُنَّتي ومِنْهاجي وال {بَصِيرَةٍ}: اسم لمعتقد الإِنسان في الأمْر من الحقِّ واليقين.
وقوله: {أَنَاْ وَمَنِ اتبعني}: يحتمل أنْ يكون {أَنا} تأكيداً للضمير المستكنِّ في {أَدْعُوا} و{مَنْ} معطوفٌ عليه؛ وذلك بأنْ تكون الأمَّة كلُّها أُمَرَتْ بالمعروف داعية إِلى اللَّه الكَفَرَةَ والعُصَاة.
قال * ص *: ويجوزُ أنْ يكون {أَنا} مبتدأ، و{على بصيرة} خَبرٌ مقدَّم، و{مَنْ} معطوفٌ عليه انتهى، {وسبحان الله} تنزيهٌ للَّه، أي: وقل: سبحانَ اللَّهِ متبرِّياً من الشِّرْك.
وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم...} الآية: تتضمَّن الردَّ على من استغرب إِرسَالَ الرُّسُل من البَشَرِ، و{القرى}: المُدُن. قال الحسن: لم يَبْعَثِ اللَّه رسولاً قطُّ من أهْل البادية.
قال * ع *: والتَّبَدِّي مَكْرُوه إِلا في الفتْنَة، وحين يُفَرُّ بالدين، ولا يعترضُ هذا بِبُدُوِّ يعقوب؛ لأن ذلك البُدُوَّ لم يكُنْ في أهْل عمودٍ، بل هو بتَقَرٍّ، وفي منازلَ ورَبوع؛ وأيضاً إِنما جعله بُدُواً بالإِضافة إِلى مصْر؛ كما هي بناتُ الحَوَاضِر بَدْوٌ بالإِضافة إِلى الحواضر، ثم أحال سبحانه على الاعتبار في الأمم السالفة، ثم حَضَّ سبحانه على الآخرة، والاستعداد لها بقوله: {وَلَدَارُ الأخرة خَيْرٌ...} الآية.
قال * ص *: {وَلَدَارُ الأخرة}: خرَّجه الكوفيُّون على أنَّه من إِضافة الموصُوفِ لصفته، وأصله: {ولَلدَّارُ الآخِرَةُ}، والبصريُّون على أنه من حَذْف الموصوف، وإِقامة صفته مُقَامَهُ، وأصله: ولَدَارُ المُدَّةِ الآخِرَةِ أو النَّشْأَةِ الآخِرَةِ. انتهى.
ويتضمَّن قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ}؛ أن الرسلَ الذين بعثهم اللَّهُ مِنْ أهْل القُرَى، دَعَوْا أممهم، فلم يؤمنوا بهم، حتى نزلَتْ بهم المَثُلاَتُ، فصاروا في حَيِّز مَنْ يُعْتَبَرُ بعاقبته، فلهذا المضمَّن حَسُنَ أَنْ تدخل {حتى} في قوله: {حتى إِذَا استيئس الرسل}.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا}- بتشديد الذال-، وقرأ الباقون: {كُذِبُوا}- بضم الكاف، وكسْر الذال المخفَّفة، فأما الأولى، فمعناها أنَّ الرسل ظَنُّوا أن أممهم قَدْ كَذَّبتهم، و{الظَّنُّ}؛ هنا: يحتملُ أنْ يكون بمعنى اليَقِينِ، ويحتمل أنْ يكون الظَّنُّ على بابه، ومعنى القراءة الثانية؛ على المشهور من قول ابن عباس وابنِ جُبَيْر: أي: حتَّى إِذا استيأس الرسُلُ من إِيمان قومِهِم، وظَنَّ المُرْسَلُ إِليهم أَنَّ الرسُلَ قد كَذَبُوهُمْ فيما ادعوه من النبوَّة، أو فيما توعَّدوهم به من العذاب، لما طال الإِمهال، واتصلت العافيةُ، جاءهم نَصْرنا، وأسند الطبريُّ أنَّ مسلم بن يَسَارٍ، قال لسعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه، آيةٌ بَلَغَتْ مِنِّي كُلَّ مبلغٍ: {حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ}؛ فهذا هو الموت أَنْ تظنَّ الرسُلُ أنهم قد كُذِبوا- مخفَّفة-، فقال له ابن جُبَيْر: يا أبا عبد الرحمن، إِنما يَئِسَ الرسُلُ مِنْ قومِهِم؛ أنْ يجيبوهم، وظَنَ قومهم أن الرسل قد كَذَبَتْهُمْ، فقام مُسْلِم إِلى سعيدٍ، فاعتنقه، وقال: فَرَّجْتَ عني، فَرَّجَ اللَّهُ عنك.
قال * ع *: فرضِيَ اللَّهَ عَنْهم، كيف كَانَ خُلُقُهُمْ في العِلْمِ، وقال بهذا التأويل جماعةٌ، وهو الصَّواب، وأما تأويلُ مَنْ قال: إِن المعنى: وظَنُّوا أنهم قد كَذَبَهُمْ مَنْ أخبرهم عن اللَّه، فغير صحيحٍ، ولا يجوزُ هذا على الرسُلِ، وأين العَصْمة والعِلْم.

* ت *: قال عِيَاضٌ: فإِن قيل: فما معنَى قوله تعالى: {حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ}؛ على قراءة التخفيف؟ قُلْنَا: المعنى في ذلك ما قَالَتْهُ عائشةُ رضي اللَّه عنها مَعَاذَ اللَّهِ، أنْ تَظُنَّ الرُّسُلُ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ، لَمَّا استيأسُوا، ظَنُّوا أَنَّ مَنْ وعدهم النصْرَ مِنْ أتباعهم، كَذَبُوهم؛ وعلى هذا أكثرُ المفسِّرين، وقيل: الضمير في {ظَنُّوا} عائدٌ على الأتباع والأممِ، لا على الأنبياء والرسل؛ وهو قول ابن عباس والنَّخَعِيِّ وابنِ جُبَيْر وجماعةٍ، وبهذا المعنى قرأ مجاهدٌ: {كَذَبُوا} بالفَتْح، فلا تَشْغَلْ بالك مِنْ شَاذِّ التفسير بسواه ممَّا لا يليقُ بمَنْصِب العلماء، فكَيْفَ بالأنبياء، انتهى من الشفا.
وقوله سبحانه: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}: أي: بتعذيب أممهم الكافرة.
{فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ}: أي: من أتباع الرسلِ.
{وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين}: أي: الكافرين، والبَأْسُ: العذاب.
وقوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب}: أي: في قصص يوسُفَ وإِخوته وسائِرِ الرسلِ الذين ذُكِرُوا على الجملة، ولَمَّا كان ذلك كلُّه في القرآن، قال عنه: {مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى}، و{الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} التوراةُ والإِنجيلُ، وباقي الآية بيِّن واضحٌ.
* ت *: كنت في وَقْتٍ أَنْظُرُ في السيرة لابْنِ هِشامٍ، وأتأمَّل في خُطْبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي أوَّلُ خُطْبة خَطَبَها بالمَدِينَةِ، فإِذا هاتف يقولُ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى}، وقد كانَ حَصَلَ في القَلْبِ عِبْرَةٌ في أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وأفاضِل أصحابه، رضي اللَّه عنهم أجمعين، وسلك بنا مَنَاهِجَهُمُ المَرْضيَّة، والحمد للَّه، وسَلاَمٌ على عباده الذين اصطفى وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وصَحْبه وسلَّم تسليماً.