فصل: تفسير الآيات (40- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (40- 46):

{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}
قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض...} الآية، عبارةٌ عن بقائهِ- جل وعلا- بعد فناء مَخْلُوقاتِه، لا إله غَيْرَه.
وقوله:- عزَّ وجل-: {واذكر فِي الكتاب إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} الآية، قوله: {واذكر} بمعنى اتل وشهر؛ لأَن اللّه تعالى هو الذاكِرُ؛ و{الكتاب}: هو القرآن، والصديق: بناءُ مبالغَةٍ فكان إبراهيمُ عليه السلام يُوصَفُ بالصِّدْقِ في أَفْعَالِهِ وأَقْوالِهِ.
وقوله: {ياأبت إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن...} الآية، قال الطّبرِيُّ: {أخاف} بمعنى أعلمُ.
قال * ع *: والظَّاهِرُ عندي أَنه خوفٌ على بابه؛ وذلك أَن إبراهيم عليه السلام في وقْتِ هذه المقالة لم يَكُن آيِساً من إيمان أَبِيه.
* ت *: ونحو هذا عبارة المهدوي، قال: قيل: {أَخافُ} معناه: أَعْلَمُ، أيْ: إِنِّي أَعْلَمُ إن متَّ عَلَى ما أَنْتَ عليه.
ويجوزُ أَن يكون {أَخَافُ} على بابهِ، ويكونَ المعنى: إِنِّي أَخاف أَن تمُوتَ على كُفْرك؛ فيمسَّكَ العذابُ. انتهى.
وقوله: {لأَرْجُمَنَّك} قال الضَّحَّاكُ، وغيرُه: معناه بالقوْلِ، أَي: لأَشْتمنَّك.
وقال الحسَنُ: معناه: لأَرْجمنَّك بالحجارة.
وقالتْ فرقةٌ: معناه لأَقْتُلَنَّكَ، وهذان القولان بمعنًى واحدٍ.
وقوله: {واهجرني} على هذا التَّأْوِيل إنما يترتب بأَنه أَمْرٌ على حياله؛ كأَنه قال: إن لم تَنْتَهِ قتْلتُك بالرَّجم، ثم قال له: واهجرني، أيْ: مع انتهائك، و{مَلِيّاً} معناه: دهراً طوِيلاً مأَخوذٌ من المَلَويْنِ؛ وهما اللَّيْلُ والنَّهارُ؛ هذا قول الجمهور.

.تفسير الآيات (47- 50):

{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}
وقولهُ: {قَالَ سلام عَلَيْكَ} اختُلِف في معنى تَسْلِيمه على أَبِيهِ، فقال بعضُهم: هي تحيةُ مفارقٍ وجوَّزوا تحيةَ الكَافِر وأَن يُبْدَأ بها.
وقال الجمهورُ: ذلك السلامُ بمعنى المُسَالمةِ، لا بمعنى التَّحِيَّة.
وقال الطبريّ: معناه أَمَنَة مِنّي لك؛ وهذا قول الجمهُورِ؛ وهم لا يَروْن ابتداءَ الكافِرِ بالسَّلاَم.
وقال النَّقَّاشُ: حليمٌ خاطب سَفِيهاً؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سلاما} [الفرقان: 63].
قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} معناه: سأَدْعُو اللّه تعالى في أَن يَهْدِيَكَ فيغفِرَ لك بإيمانك، ولمّا تبيَّن له أَنه عدوٌّ للَّه تبرّأَ منه.
والحِفيُّ: المهتبلُ المتلطِّف، وهذا شُكْر من إبراهيمَ لنعم اللّه تعالى عليه، ثم أَخبر إبراهيمُ عليه السلام بأَنه يعتزلهم، أَيْ: يصيرعنهم بمعْزِل ويروى: أَنهم كانوا بأَرض كُوثَى، فرحل عليه السلام حتى نزل الشامَ، وفي سفرته تلك لقِي الجبَّار الَّذي أَخْدم هاجرَ... الحديثَ الصحيح بطوله، و{تَدْعُونَ} معناه: تعبدون.
وقوله: {عَسَى}: تَرَجٍّ في ضمنه خَوْفٌ شديد.
وقوله سبحانه: {فَلَمَّا اعتزلهم...} إلى آخر الآية: إخبار من اللّه تعالى لنبِيّه صلى الله عليه وسلم أَنَّه لما رَحَل إبراهيم عن بلد أَبِيه وقومه، عوّضَهُ اللّهُ تعالى من ذلك ابنَهُ إسحاق، وابنَ ابنه يعقوبَ- على جميعهم السلام- وجعلَ الولدَ له تَسْلِيةً، وشَدًّا لِعَضُدِهِ.
وإسحاقُ أَصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجرِ بإسْمَاعِيل، غارَتْ سَارَةُ؛ فحملت بإسحاقِ، هكذا فيما روي.
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} يريد: العِلْم، والمنزِلَة، والشَّرَف في الدنيا، والنَّعيم في الآخرة؛ كُلُّ ذلك مِنْ رَحْمة اللّه عز وجل، ولِسَانُ الصَّدْق: هو الثَّناءُ البَاقِي عليهم آخر الأَبد؛ قاله ابنُ عباس وإبراهيمُ الخليل صلى الله عليه وسلم وذريته مُعظَّمة في جميع الأُمم والمِلَل.
قال * ص *: و{كُّلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} أَبو البقاء: هو منصوبٌ ب {جَعَلْنَا} انتهى.

.تفسير الآيات (51- 53):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}
وقوله عزَّ وجل: {واذكر فِي الكتاب موسى}، أي: على جهة التَّشْرِيف له، {وناديناه} هو تَكْلِيمُ اللّه له، والأَيْمن: صفةُ لجَانِب، وكان على يَمِينِ موسى، وإلا فالجبل نفسُه لاَ يَمْنةً له ولا يَسْرة، ويحتمل أَن يكون الأَمن مأْخُوذاً من الأَيمن {وقربناه}، أَيْ: تقريب تَشْرِيف، والنِّجِيّ: من المُنَاجَاةِ.

.تفسير الآيات (54- 58):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}
وقوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب إسماعيل} هو أيضاً من لسانِ الصِّدْقِ المضمون بقاؤه على إبراهيمَ عليه السلام وإسماعيلُ عليه السلام: هو أَبو العربِ اليومَ؛ وذلك أَنَّ اليَمَنِية والمُضَرِية ترجع إلى ولد إسماعيل، وهو الذِّبِيحُ في قول الجمهُور.
وهو الرَّاجِحُ؛ من وجوهٍ: منها قولُه تعالى: {وَمِنْ وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} [هود: 71].
فَوَلَدٌ بُشِّر أَبواه بأن سَيَكُونُ منه ولدٌ كيف يُؤْمَرُ بذبحه؟!.
ومنها أَن أَمْرَ الذبح كان بِمِنًى بلا خِلاَفٍ، وما روي قَطُّ أَن إسحاقَ دخل تلك البلاد، وإسماعيلُ بها نَشَأ، وكان أَبوه يزُورُه مِرَاراً كَثِيرةً يأْتي من الشام، ويرجِعُ من يَوْمِهِ على البُرَاق؛ وهو مركَبُ الأَنْبياء.
ومنها قولُه صلى الله عليه وسلم: «أَنَا ابن الذَّبِيحَيْنِ» وهو أَبُوهُ عبدُ اللّهِ، والذَّبِيحُ الثَّانِي هو إسْماعِيلُ.
ومنها تَرْتِيبُ آيات سورة والصَّافَّاتِ يكاد ينصُّ على أَنَّ الذبيح غيرُ إسحاق، ووصفه اللّهُ تعالى بصِدْق الوَعْد؛ لأَنه كان مُبَالِغاً في ذلك؛ وروي أَنَّه وعد رَجُلاً أَنْ يلقاه في مَوْضِعٍ، فبقي في انْتِظاره يَوْمَهُ ولَيلَتَهُ، فلما كان في اليوْمِ الآخر جاء الرجُلُ، فقال له إسماعيلُ: ما زِلْتُ هنا في انتظارك منذ أَمْسِ، وقد فعل مِثْلَهُ نبيُّنَا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قبل مَبْعَثِه، خرَّجه التّرمِذِيّ وغيرُه.
قال سُفْيان بن عُيَيْنَةَ: أَسْوَأُ الكَذِبِ إخْلاَفُ المِيعَادِ، ورَمْي الأَبْرِيَاءِ بالتُّهِمِ.
و{أَهْلَهُ} المرادُ بهم قومه، وأُمَّته؛ قاله الحسنُ.
وفي مُصْحَف ابنِ مَسْعُود: {كَانَ يَأْمُرُ قَوْمَهُ}.
وإدْريسُ عليه السلام من أَجْدَاد نُوح عليه السلام.
و{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قالت فرقةٌ من العلماء: رُفِع إلى السماءِ.
قال ابنُ عَبَّاسٍ: كان ذلك بأَمْرِ اللّه تعالى.
وقوله: {وَبُكِيّاً} قالت فرقةٌ: جمع بَاكٍ، وقالت فرقةٌ: هو مَصْدَرٌ بمعنى البُكَاء؛ التقديرُ: وبَكُوا بُكِيّاً.
واحتجَّ الطَّبِرِيُّ، ومَكّي لهذا القول؛ بأَن عُمَر رضي اللّه عنه قرأ سُورةٍ مريم، فسجد ثُمَّ قال: هذا السُّجُودُ، فأَيْنَ البُكَى؟ يَعْنِي: البُكَاء.
قال * ع *: ويحتمل أَن يريد عُمر رضي اللّه عنه فأَين البَاكُون؟ وهذا الذي ذكروه عن عُمَر، ذكره أَبُو حَاتِمٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (59- 63):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)}
وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ...} الآية، الخَلْفُ، بسكون اللام مُسْتعمل إذا كان الآتي مَذْمُوماً؛ هذا مشهورُ كَلامِ العَرَبِ، والمرادُ بالخلْف: مَنْ كفر وعَصَى بعدُ مِنْ بني إسرائيل، ثم يتناول معنى الآية مَنْ سِوَاهُم إلَى يوم القيامة، وإضاعة الصَّلاَةِ يكون بترْكِهَا وبجحْدِها، وبإضاعة أَوْقَاتِهَا.
وروى أَبُو دَاوُدَ الطيالسي في مسنده بسنده عن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «إذا أَحْسَنَ الرَّجُلُ الصَّلاَةَ، فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا، وَسُجُودَهَا، قَالَتِ الصَّلاَةُ: حَفِظَكَ اللّهُ؛ كَمَا حَفِظْتَنِي، وَتُرْفَعُ، وإذَا أَسَاءَ الصَّلاَةَ؛ فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا، وَلاَ سُجُودَهَا، قَالَتِ الصَّلاَةُ: ضَيَّعَكَ اللّهُ؛ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، وَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلقُ، فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ» انتهى من التذكرة والشَّهَوَاتُ: عُمُومُ، والغَيُّ: الخُسْران؛ قاله ابنُ زيد.
وقد يكُونُ الغي بمعنى الضَّلاَلِ، والتقديرُ: يُلْقون جَزَاءَ الغَيِّ.
وقال عبدُ اللّه بن عمرو، وابنُ مسعودٍ: الغَيُّ: وَادٍ في جَهنَّم، وبه وَقَعَ التوعُّدُ في هذه الآية.
وقال * ص *: الغي عندهم كُلُّ شرّ؛ كما أن الرشاد كلُّ خيرٍ. انتهى.
و{جنات عَدْنٍ}: بدلٌ من الجنَّةِ في قوله {يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ}.
وقولُه {بالغيب}، أيْ أخبرهم من ذلك بما غَابَ عنهم، وفي هذا مَدْحٌ لهم على سرعة إيمانهم وبدارهم إذْ لم يعاينوا، و{مَأْتِيّاً} مفعولٌ على بابه.
وقال جماعةٌ من المفسرين: هو مفعولٌ في اللفظ؛ بمعنى فاعل؛ ف {مَأْتِيّاً} بمعنى آتٍ، وهذا بَعِيدٌ.
* ت *: بل هو الظَّاهِرُ، وعليه اعتمد * ص *.
واللَّغْوُ: السَّقْطُ من القول.
وقوله {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} يريدُ في التقدِير.

.تفسير الآيات (64- 65):

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
وقولُه عز وجل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ...} الآية، قال ابنُ عباس، وغيرُه: سبب هذه الآية: أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَبْطَأَ عنه جِبْرِيلُ عليه السلام مدَّةَ فَلما جاءه قال: «يَا جِبْرِيلُ، قَدِ اشتقت إلَيْكَ، أَفلاَ تزورَنا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا» فنزلت هذه الآية.
وقال الضَّحَّاكُ، ومجاهدٌ: سببها أَن جِبْريلَ تأخَّر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قَوْلِه في السؤالات المتقدِّمَةِ في سُورةِ الكَهْفِ: غَداً أُخْبِرُكُمْ.
وقال الدَّاوُودِيُّ عن مجاهدٍ: أَبطأت الرسل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم أَتى جِبْرِيلُ عليه السلام قال: ما حَبَسَكَ؟ قال: وكَيْفَ نَأْتِيكُم. وأَنْتُمْ لاَ تَقُصُّونَ أَظْفَارَكُمْ. وَلاَ تَأْخُذُونَ شَوَارِبَكُمْ وَلاَ تَسْتَاكُونَ، وَمَا نَتَنَزَّلُ إلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. انتهى.
وقد جاءت في فَضْل السواك آثَارٌ كثيرة، فمنها: ما رواه البزارُ في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «إنَّ العَبْدَ إذَا تَسوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَامَ المَلَكُ خَلْفه، فَيَسْمَعُ لِقَرَاءَتِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُ حتى يَضَعَ فَاهُ على فِيهِ، فما يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ إلاَّ صَارَ فِي جَوْفِ المَلَكِ» انتهى من الكوكب الدري.
وفيه: عن ابنِ أَبِي شَيْبَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «صَلاَةٌ عَلَى إثْرِ سِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلاَةٍ بِغَيْرِ سِوَاكٍ» انتهى.
وفي البخاري: أَنَّ السِّوَاكَ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاة لِلرَّبِّ. اهـ.
وقوله سبحانه: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا...} الآية، المقصودُ بهذه الآية الإشعارُ بملك اللّه تعالى لملائكته، وأن قَلِيلَ تصرُّفِهِم، وكَثِيرَه إنما هو بأَمْره وانتقالهم مِنْ مَكانٍ إلى مَكانٍ إنَّما هو بحدٍّ منه.
وقولُه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أَيْ: ممن يلحقُه نِسيانٌ لبعثنا إليك، ف {نَسِيّاً}. فَعِيلٌ من النّسْيانِ، وهو الذُّهُولُ عن الأُمور.
وقرأ ابنُ مسْعودٍ: {وَمَا نَسِيَكَ رَبُّكَ}.
وقوله {سَمِيّاً} قال قوم: معناه مُوَافِقاً في الاِسْم.
قال * ع *: وهذا يحسنُ فيهِ أَن يريد بالاِسْم ما تقدم مِنْ قوله {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ: هل تعلم من يسمى بهذا، أَو يوصف بهذه الصفة؛ وذلك أَن الأُمم والفِرَق لا يسمون بهذا الاِسْم وَثَناً، ولا شَيْئاً سِوَى اللّه تعالى.
قال القُشَيْرِيُّ في التحبير: قولهُ تعالى: {واصطبر لعبادته}: الاصْطبارُ: نهايةُ الصَّبْرِ ومَنْ صَبَر، ظَفَرَ، ومَنْ لاَزَمَ، وَصَلَ؛ وفي مَعْناه أَنْشدُوا: [البَسيط].
لاَ تَيْئَسَنَّ وَإنْ طَالَتْ مُطَالَبَةٌ ** إذَا استعنت بِصَبْرٍ أَنْ ترى فَرَجَا

أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يحظى بِحَاجَتِه ** وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلجَا

وأَنشدوا: [البسيط]
إنِّي رَأَيْتُ وَفِي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ** لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الأَثَرِ

وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي شَيْءٍ يُحَاوِلُهُ ** واستصحب الصَّبْرَ إلاَّ فَازَ بالظَّفَرِ

انتهى.
وقال ابنُ عباسٍ، وغيرُه: {سَمِيّاً} معناه: مَثِيلاً، أَو شَبِيهاً، ونحو ذلك؛ وهذا قوْلٌ حَسَنٌ، وكأن السمي بمعنى: المسامي، والمضاهي؛ فهو من السُّموِّ.

.تفسير الآيات (66- 70):

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)}
وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً}، الإنسان: اسمُ جِنْس يرادُ به الكافرون، وروي أَنَّ سببَ نزُولِ هذه الآية هو: أَن رجالاً من قريشٍ كانُوا يقولون هذا ونحوه، وذكر: أَن القائِلَ هو أُبيُّ بْنُ خَلَفٍ.
ورُوِي أَن القائل هو العَاصِي بْنُ وَائِل، وفي قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} دَلِيلٌ على أَنَّ المعدومَ لا يسمى شَيْئاً.
وقال: أَبو علي الفارسي: أَراد شَيْئاً موجُوداً.
قال * ع *: وهذه من أبي علي نزعةٌ اعتزالية؛ فتأملها، والضمير في {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} عائدٌ على الكفَّارِ القائلين ما تقدم، ثم أَخبر تعالى: أَنه يقرن بهمِ الشياطِينَ المغوين لهم، و{جِثِيّاً} جمعُ جَاثٍ، فأخبر سبحانه: أَنه يحضر هؤلاءِ المُنْكِرينَ البعْثَ مع الشياطين المغوِينَ، فيجثُون حول جهنَّم؛ وهو قعودُ لخائفِ الذَّلِيل على رُكْبتيْهِ كالأَسِير، ونحوهِ.
قال ابنُ زيدٍ: الجَثْيُ: شَرُّ الجلُوسَ، والشيعة: الفِرْقَةُ المرتبطة بمذهبٍ وَاحدٍ، المتعاونةِ فيه، فأخبر سبحانه أَنه ينزع مِنْ كُلِّ شيعةٍ أَعْتاها وأَولاَها بالعذاب، فتكون مقدمتها إلى النَّار.
قال أَبو الأَحْوص: المعنى: نبدأُ بالأَكَابِر جرماً، وأيّ وهنا بُنِيَتْ لمَّا حُذِف الضميرُ العَائِدُ عليها مِنْ صَدْر صِلَتها، وكان التقدِيْرُ: أَيَّهم هو أشَدُّ، و{صِلِيّاً}: مصدَرٌ صَليَ يَصْلَى إذَا باشَرَهُ.