فصل: تفسير الآيات (27- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (27- 33):

{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}
وقوله سبحانه وتعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} عبارةٌ عن حُسْن طاعتهم ومُرَاعَاتِهمْ لامتثالِ الأمر، ثم أَخْبَرَ تعالى: أَنَّهُم لا يشفعون إلاَّ لِمَنِ ارتضى اللَّه أَنْ يشْفَعَ له، قال بعضُ المفسرين: لأَهْلِ لا إله إلاّ اللَّه، والمُشْفِقُ: المُبَالِغُ في الخوفِ، المُحْتَرِقُ النَّفْسِ من الفَزَع على أَمْرٍ ما.
وقوله سبحانه: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ...} الآية المعنى: وَمَنْ يَقُلْ منهم كذا أَنْ لو قاله، وليس منهم مَنْ قال هذا، وقال بَعْضُ المفسرين: المراد بقوله: {وَمَن يَقُلْ...} الآية: إبْلِيسُ، وهذا ضعيفٌ؛ لأَنَّ إبَلِيسِ لم يُرْوَ قَطَّ أَنَّهُ ادَّعَى الرُّبِوبِيَّة، ثم وَقَفَهُمْ سبحانه على عِبْرَةٍ دَالَّةٍ على وَحْدَانِيَّتِهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً}، والرَّتْقُ: المُلْتَصِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، الذي لا صَدْعَ فيه ولا فَتْحَ، ومنه: امرأةً رتْقَاءُ، واخْتُلِفِ في معنى قوله: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} فقالت فِرْقَةٌ: كانت السماءُ مُلْتَصِقَةً بالأَرض ففتقها اللّهُ بالهواء، وقالت فرقةٌ: كانت السمواتُ ملتصقةً بَعْضَهَا ببعضٍ، والأرضُ كذلك ففتقهما اللّه سبعاً سبعاً؛ فعلى هذين القولين فالرُّؤيَةُ الموقَفِ عليها رؤيةُ قلبٍ، وقالت فرقةٌ: السماءُ قبل المَطَرَ رَتْقٌ، والأَرضُ قبل النباتِ رَتْقٌ ففتقهما اللّه تعالى بالمَطَرِ والنَّبَاتِ؛ كما قال تعالى: {والسماء ذَاتِ الرجع * والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 11، 12].
وهذا قولٌ حَسَنٌ يَجْمَعُ العِبْرَةَ وتعديدَ النعمةِ والحُجَّةِ بِمحسوسٍ بَيِّنٍ، ويُنَاسِبُ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، أي: من الماءِ الذي كان عَن الفَتْقِ، فَيَظْهَرُ معنى الآية، ويتوجَّهُ الاعتبارُ بها، وقالت فرقة: السماءُ والأَرْضُ رَتْقٌ بالظُّلْمَةِ ففتقهما اللّه بالضَّوْءِ؛ والرُّؤْيَةِ على هذين القولين رُؤْيَةُ العَيْنِ، وباقي الآية بَيِّنٌ.
قال * ص *: قال الزَّجَّاجُ: السمواتُ جَمْعٌ أُرِيدَ به الواحد؛ ولذا قال: {كَانَتَا رَتْقاً}. وقال الحُوفِيُّ: قال: {كَانَتَا} والسمواتُ جَمْعٌ-: لأَنَّهُ أرادَ الصنفين انتهى.
وقوله: {سَقْفاً مَّحْفُوظاً} الحِفْظُ هنا عامٌّ في الحِفْظِ من الشيطان، ومن الوهي. والسُّقُوطِ، وغير ذلك من الآفاتِ، والفَلَكُ: الجسمُ الدَّائرُ دَوْرَةَ اليومِ والليلةِ. و{يَسْبَحُونَ} معناه: يَتَصَرَّفُونَ، وقالت فرقة: الفَلَكُ مَوْجٌ مكفوفٌ، قوله: {يَسْبَحُونَ} من السِّبَاحَةِ وهي: العَوْمُ.

.تفسير الآيات (34- 35):

{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}
وقوله عزَّ وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد...} الآية، وتقديرُ الكلام: أَفَهُمُ الخالدون إنْ مِتَّ؟!
وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت...} الآية: موعظةٌ بليغةٌ لِمَنْ وُفِّقَ؛ قال أَبو نُعَيْم: كان الثَّوْرِيُّ رضي اللّه عنه إذَا ذَكَرَ الموتَ لا يُنْتَفَعُ به أَيَّاماً. انتهى. من التذكرة للقرطبيِّ.
قال عبدُ الحقِّ في العاقبة، وقد أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بذكر الموتِ، وأَعَادَ القولَ فيه؛ تهويلاً لأَمرهِ، وتعظيماً لشأْنِهِ، ثم قال: واعلم أَنّ كثرةَ ذِكْرِ الموت يُرْدِعُ عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.
قال الحسن ما رأيت عاملاً قطُّ إلا وجدته حَذِراً من الموت حزيناً من أَجْلِهِ، ثم قال: واعلم: أَنَّ طُولَ الأَمَلِ يكسل عن العمل، ويُورِثُ التواني، ويخلد إلى الأرض، ويُمِيلُ إلى الهوى، وهذا أَمرٌ قد شُوهِدَ بالعيان؛ فلا يحتاج إلى بيان، ولا يُطَالَبُ صَاحِبُهُ بالبرهان؛ كما أَنَّ قِصَرَهُ يبعث على العَمَلِ، وَيَحْمِلُ على المُبَادَرَةِ، ويَحُثُّ على المسابقة؛ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أنا النَّذِيرُ والمَوْتُ المُغِيرُ، والسَّاعَةَ المَوْعِدُ» ذكره القاضي أبو الحسن بنُ صَخْرٍ في الفوائد. انتهى.
{وَنَبْلُوكُم} معناه: نَخْتَبِرُكُم، وقَدَّمَ {الشَّرّ} على لَفْظَةِ {الخير}؛ لأَنَّ العَرَبَ من عادتها أَنْ تقَدِّمَ الأَقَلَّ والأَزْدَى؛ ومنه قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} [فاطر: 32]. فبدأ تعالى في تقسيم أُمَّةِ سَيِّدِنا محمد صلى الله عليه وسلم بالظالم. و{فِتْنَةً} معناه: امتحاناً.

.تفسير الآيات (36- 38):

{وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)}
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَءَاكَ الذين كَفَرُواْ}: كأبي جَهْلٍ وغيرِهِ، وإن بمعنى: ما، وفي الكلام حَذْفٌ تقديره: يقولون: أهذا الذي؟
وقال * ص *: إنْ: نافية، والظاهِرُ أَنَّها وما دَخَلَتْ عليه جَوَابُ إذَا، انتهى.
قوله سبحانه: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ} رُوِيَ: أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ حِينَ أنكروا هذه اللَّفْظَةَ، وقالوا: ما نعرفُ الرحمن إلاَّ في اليمامة، وظاهِرُ الكلامِ: أَنَّ {الرحمن} قُصِدَ به العبارة عنِ اللَّه عز وجل، وَوَصَفَ سبحانه الإنسانَ الذي هو اسمُ جنسٍ بأَنه خُلِقَ من عَجَلٍ، وهذا على جهة المُبَالَغَةِ؛ كما تقول للرجل البطال: أَنْتَ من لَعِبٍ وَلَهْوٍ.

.تفسير الآيات (39- 50):

{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
وقوله سبحانه: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار...} الآية: حُذِفَ جوابُ {لو}؛ إيجازاً لدلالة الكلامِ عليه، وتقديرُ المحذوف: لما استعجلوا، ونحوه، وذَكَرَ الوجوهَ؛ لشرفها من الإنسانِ، ثم ذَكَرَ الظهورَ؛ ليُبَيِّنَ عُمُومَ النَّارِ لجميع أَبْدَانِهِمْ، والضميرُ في قوله: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً}: للسَّاعَةِ التي تُصَيِّرُهُم إلى العذاب، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ للنار، و{يُنظَرُونَ} معناهُ: يُؤخَّرُنَ، و{حَاقَ} معناه: حَلَّ ونزل، و{يَكْلَؤْكُم}، أي: يَحْفَظُكُمْ.
وقوله سبحانه: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} يحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ:
أحدهما: يجارون ويمنعون.
والآخر: ولا هم مِنَّا يُصْحَبُون بخيرٍ وتَزْكِيَةٍ ونحو هذا.
وقوله سبحانه: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا..} الآية {نَأْتِي الأرض} معناه: بالقُدْرَة، ونقصُّ الأَرْض: إمَّا أنْ يُرِيدَ بتخريبِ المعمور، وإمَّا بموتِ البَشَرِ.
وقال قوم: النَّقْصُ من الأَطْرَاف: موتُ العلماءِ، ثم خاطب سبحانه نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم مُتَوَعِّداً لِهَؤلاءِ الكَفَرَةِ بقوله: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ...} الآية، والنَّفْحَةُ: الخَطْرَةُ والمَسَّةُ، والمعنى: ولئن مَسَّتْهُمْ صَدْمَةَ عذابٍ لَيَنْدَمُنَّ، ولَيُقِرُّنَّ بظلمهم، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقال الثعلبي: {نَفْحَة}، أي: طَرَفٌ؛ قاله ابن عباسٌ، انتهى.
وقوله سبحانه: {لِيَوْمِ القيامة} قال أبو حيان: اللام للظرفية بمعنى في انتهى.
قال القرطبي في تذكرته: قال العلماء: إذا انقضى الحسابُ كان بعدَه وَزْنُ الأَعمالِ؛ لأَنَّ الوَزْنَ للجزاءِ، فينبغي أَنْ يكونَ بعد المُحَاسبَةِ، واخْتُلِفَ في الميزانِ والحَوْضِ: أَيُّهُمَا قَبْلَ الآخرِ، قال أبو الحسن القابسيُّ: والصحيحُ أَنَّ الحوضَ قبل الميزانِ، وذهب صاحِبُ القوت وغيرُه إلى: أنَّ حَوْضَ النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بَعْدَ الصِّرَاط.
قال القرطبي: والصحيح: «أنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم حَوْضَيْنِ، وكلاهما يُسَمَّى كَوْثَراً، وأَنَّ الحَوْضَ الذي ذَادُ عنه مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ يكونُ في المَوْقِفِ قبل الصراط، وكذا حِيَاضُ الأنبياءِ- عليهم الصلاة والسلام- تكونُ في الموقف؛ على ما وَرَدَ في ذلك من الأخبار» انتهى.
والفُرْقَانُ الذي أُوتي موسى وهارونُ قيل: التوراةُ، وهي الضِّيَاءُ والذِّكْرُ.
وقالت فرقة: الفُرقَان: هو ما رَزَقَهُمَا اللَّهُ تعالى من نَصْرٍ وظُهُورٍ على فرعونَ وغيرِ ذلك، والضِّيَاءُ: التوراةُ، والذِّكْرُ: بمعنى التذكرة.
وقولُه سبحانه: {وهذا ذكرٌ مبارك} يعني: القرآن، ثم وَقَفَهُم سبحانه؛ تقريراً وتوبيخاً: هل يَصِحُّ لهم إنكارُ بَرَكَتِهِ وما فيه من الدعاءِ إلى اللَّه تعالى وإلى صالح العمل؟.

.تفسير الآيات (51- 56):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ...} الآية. الرُّشْدُ عامٌّ، أي: في جميع المَرَاشِدِ وأنواعِ الخيراتِ.
وقال الثعلبيُّ: {رُشْدَهُ}، أي: توفيقَه، وقيل: صَلاَحَهُ انتهى.
وقوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}: مَدْحٌ لإبراهيمَ عليه السلام، أي: عالمين بما هَلَّ له؛ وهذا نحو قولِهِ تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] والتماثيل: الأصنام.

.تفسير الآيات (57- 58):

{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}
وقوله: {وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم...} الآية. رُوِيَ: أَنَّهُ حَضَرَهُم عِيدٌ لهم، فعزم قومٌ منهم على إبراهيمَ في حُضُورِهِ؛ طمعاً منهم أَنْ يَسْتَحْسِنَ شيئاً من أحوالهم، فَمَشَى معهم، فلما كان في الطريق ثَنَى عَزْمَه على التَّخَلُّفِ عنهم، فقعد، وقال لهم: إني سقيم، فَمرَّ به جُمْهُورهُم، ثم قال في خلوةٍ من نفسه: {وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم} فَسَمِعَهُ قومٌ من ضَعَفَتِهِم مِمَّنْ كان يسيرُ في آخِرِ الناس.
وقوله: {بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} معناه: إلى عِيدِكُمْ، ثم انصرف إبراهيمُ عليه السلام إلَى بيت أصنامِهِم فدخله، ومعه قدُومٌ، فوجد الأَصنامَ قد وُقِّفَتْ، أكْبَرُهَا أَوَّلٌ، ثم الذي يليه فالذي يليه، وقد جعلوا أَطْعِمَتَهُم في ذلك اليوم بين يدي الأَصنام؛ تبركاً لينصرفوا من ذلك العيد إلى أَكْلِهِ، فجعل عليه السلامُ يقَطِّعُهَا بتلك القدومِ، ويُهَشمُهَا حتى أَفسد أَشكالها، حاشا الكبيرَ؛ فإنَّهُ تَرَكَهُ بحالِهِ وعَلَّقَ القدومَ في يَدِهِ، وخرج عنها، و{جُذَاذاً}: معناه: قطَعاً صِغَاراً، والجَذُّ: القَطْعُ، والضميرُ في {إِلَيه} أَظْهَرُ ما فيه أَنَّهُ عائِدٌ على إبراهيم، أي: فَعَلَ هذا كُلّهُ؛ ترجِّياً منه أَنْ يَعْقُبَ ذلك منهم رَجْعَةٌ إليه وإلى شَرْعِهِ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على كبيرهم.

.تفسير الآيات (59- 63):

{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)}
وقوله سبحانه: {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا...} الآية. المعنى: فانصرفوا من عِيدهِمْ فرأوا ما حَدَثَ بآلهتهم، ف {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَا}؟ و{قالوا} الثاني: الضميرُ فيه للقوم الضَّعَفَةِ الذين سَمِعُوا قولَ إبراهيمَ: {تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم}.
وقوله: {على أَعْيُنِ الناس} يريدُ في الحَفْلِ، وبِمَحْضَرِ الجمهور، وقوله: {يَشْهَدُونَ}: يحتَمِلُ أَنْ يريدَ: الشهادَةَ. عليه بفعله، أو بقوله: {لأَكِيدَنَ}، ويحتمل أنْ يريدَ به: المُشَاهَدَةَ، أي: يشاهدون عُقُوبَتَهُ أو غلبته المُؤَدِّيَةَ إلَى عُقُوبَتِهِ، وقوله عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} على معنى الاحتجاجِ عليهم، أَي: إنَّهُ غَارَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ هو وَتُعْبَدَ الصِّغَارُ معه، ففعل هذا بها لذلك؛ وفي الحديث الصحيح عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليه السلام إلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ: قَوْلُهُ: {إنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وقوله لِلْمَلِكِ: هِيَ أُخْتِي» وكانت مقالاتُه هذه في ذات اللَّه، وذهبت فرقة إلى أَنَّ معنى الحديث: لم يكذب إبراهيم، أي: لم يقل كلاماً ظاهره الكذب أو يشبه الكذبُ،، وذهب الفَرَّاءُ إلى جهة أخرى في التأويل بأَنْ قال: قوله: فعله ليس من الفعل، وإنما هو فعله على جهة التوقع، حُذِفَ اللامُ على قولهم: عَلَّه بمعنى: لَعَلَّهُ، ثم خُفِّفَتِ اللام.
قال * ع *: وهذا تكلف.
قلت: قال عياض: واعلم، أكرمك اللَّه أَنَّ هذه الكلماتِ كلها خارجة عن الكذب، لا في القصد ولا في غيره، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، فأَمَّا قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فإنه عَلَّقَ خبره بشرط النطق، كأَنه قال: إنْ كان ينطق فهو فعله؛ على طريق التبكيت لقومه. انتهى.
ثم ذكر بقية التوجيه وهو واضح لا نطيل بشرده.

.تفسير الآيات (64- 70):

{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
وقوله سبحانه: {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون}، أي: في توقيف هذا الرجل على هذا الفعلِ وأَنتم معكم من تسألون ثم رأوا ببديهة العقل أنَّ الأصنام لا تنطق، فقالوا لإبراهيمَ حين نكسوا في حيرتهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ}، فوجد إبراهيمُ عليه السلام عند هذه المقالة موضعَ الحُجَّةِ ووقفهم مُوَيبِّخاً لهم بقوله: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً...} الآية. ثم حَقَّرَ شأنهم وشأنها بقوله: {أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله...} الآية.
* ص *: وقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ}: جواب قَسَمٍ محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال، أي: قائلين، لقد علمت. انتهى.
وقال الثعلبي: {فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ}، أي: تفكروا بعقولهم فقالوا: ما نراه إلاَّ كما قال، إنكُم أنتم الظالمون في عبادتكم الأَصنامَ الصغارَ مع هذا الكبير. اهـ.
وما قدمناه عن * ع * هو الأَوْجَهُ و{أُفٍّ} لفظة تُقال عند المُسْتَقْذَرَاتِ من الأَشياءِ، ويُسْتَعَارُ ذلك للمُسْتَقْبَح من المعاني، ثم أخذتهم العِزَّةُ بالإثم وانصرفوا إلى طريق الغلبة والغشم، فقالوا: {حَرِّقوه}؛ رُوِيَ: أَنَّ قائل هذه المقالة هو رجل من الأَكْرَادِ من أعرابِ فارس، أي: من باديتها، فَخَسَفَ اللَّه به الأَرض، فهو يتجلجلُ فيها إلى يومِ القيامة، وروي: أَنه لما أجمع رأيهم على تحريقه حَبَسَهُ نمرودُ الملكُ لعنه اللَّه وأَمر بجمع الحَطَبِ حتى اجتمع منه ما شاءَ اللَّه، ثم أضرم ناراً فيما أرادوا طرحَ إِبراهيمَ فيها لم يقدروا على القرب منها، فجاءهم إبليسُ في صورة شيخ فقال لهم: أنا أصنع لكم آلةً يُلْقَى بها، فَعَلَّمَهُمْ صنعة المِنْجَنِيقِ، ثم أُخْرِجَ إبراهيمُ عليه السلام فشد رباطاً ووُضِعَ في كفَّةِ المنجنيق ورُمِيَ به فتلقَّاهُ جبريلُ- عليه السلام- في الهواءِ فقال له: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا، وأَمَّا إلى اللَّه فبلى.
قلت: قال ابنُ عطاء اللَّه في التنوير: وكنْ أَيُّها الأَخْ إبراهيميّاً؛ إذْ زُجَّ به في المنجنيق، فتعرَّض له جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي، فبلى، قال: فَاسْأَلْهُ. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فانظرْ كيف رفع هِمَّتَهُ عن الخلق، ووجَّهَهَا إلى الملك الحقِّ، فلم يستغث بجبريل، ولا احتال على السؤال، بل رأى رَبَّهُ تعالى أقربَ إليه من جبريل ومن سؤاله؛ فلذلك سَلَّمَهُ من نمرودَ ونكَالِهِ، وأنعم عليه بنواله وأفضاله. انتهى.
وقوله سبحانه: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما} قال بعض العلماء فيما روي: إنَّ اللَّه تعالى لو لم يقلْ: {وسلاما} لهلك إبراهيمُ من برد النارِ، ورُوِيَ أَنَّه لما وقع في النار سَلَّمَهُ اللَّه، واحترق الحبل الذي رُبِطَ به، وقد أَكثر الناس في قصصه فاختصرناه؛ لعدم صِحَّة أكثره، وروي: أَنَّ إبراهيمَ عليه السلام كان له بسط وطعام في تلك النارِ كُلُّ ذلك من الجنة، وروي: أَنَّ العيدانَ أينعت وأثمرت له هناك ثمارَها، ورُوِيَ: أنهم قالوا: إنَّ هذه نار مسحورة، لا تحرق، فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق،، واللَّه أعلم بما كان من ذلك.
قلت: قال صاحب غاية المغنم في اسم الله الأعظم وهو من الأئمة المحدثين، وعن الإمام أَحمدَ بنِ حَنبلَ رحمه اللَّه: إنه يُكْتَبُ للمَحْمُومِ ويُعَلَّقُ عليه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، با اللَّه يا اللَّه محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، {يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين}، اللهم ربَّ جبريل وميكائيل اشْفِ حاملها بحولك وقوتك وجبروتك يا أرحمَ الراحمين انتهى.
وقوله: {وسلاما} معناه: وسلامةً، والكَيْدُ: هو ما أرادوه من حرقه.