فصل: تفسير الآيات (71- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (71- 76):

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}
وقوله سبحانه: {ونجيناه وَلُوطاً...} الآية. رُوِيَ أَنَّ إبراهيمَ عليه السلام لما خرج من النار أحضره نمرودُ، وقال له في بعض قوله: يا إبراهيمُ، أين جنودُ ربِّك الذي تَزْعُمُ؟ فقال له عليه السلام: سيريك فِعْلَ أضعفِ جنوده، فبعث اللَّه تعالى على نمرودَ وأصحابه سحابةً من بعوضٍ فأكلتهم عن آخرهم ودوابَّهُم حتى كانتِ العظام تلوح بيضاءَ، ودخلت منها بعوضةٌ في رأس نمرودَ، فكان رأسه يُضْرَبُ بالعيدانِ وغيرِها، ثم هلك منها، وخرج إبراهيمُ وابن أخيه لوط- عليهما السلام- من تلك الأرضِ مهاجرين، وهي كُوثى من العراق، ومع إبراهيمَ بنتُ عَمِّهِ، سارَةُ زوجتُه، وفي تلك السفرة لَقِيَ الجبارَ الذي رام أخذها منه، واخْتُلِفَ في الإرض التي بُورِكَ فيها ونحا إليها إبراهيم ولوط- عليهما السلام-، فقالت فرقة: هي مَكَّةُ، وقال الجمهور: هي الشام، فنزل إبراهيم بالسبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالموتكفة، والنافلة: العطيَّةُ، وباقي الآية بَيِّنٌ، وخبائِثُ قرية لوط هي إتيانُ الذكور، وتَضَارُطُهُمْ في مجالسهم، إلى غير ذلك من قبيح أفعالهم.

.تفسير الآيات (77- 84):

{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}
وقوله سبحانه في نوح عليه السلام: {ونصرناه مِنَ القوم...} الآية، لما كان جُلُّ نُصْرَتِهِ النجاةَ، وكانت غلبة قومه بأَمر أجنبيٍّ منه حَسُنَ أنْ يقول: {نصرناه من}، ولا تتمكن هنا على.
قال * ص *: عُدِّي {نصرناه} ب {مِنْ}؛ لتضمنه معنى: نجينا، وعصمنا، ومنعنا. وقال أبو عبيدة: {مِنْ} بمعنى على.
قلت: وهذا أولى، وأَمَّا الأول ففيه نظر؛ لأَنَّ تلك الأَلفاظَ المُقَدِّمَةَ كلها غير مرادفة ل نصرنا، انتهى.
قلت: وكذا يظهر من كلام ابن هشام: ترجيحُ الثاني، وذِكْرُ هؤلاء الأنبياء- عليهم السلام- ضَرْبُ مَثَلٍ لقصة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه، ونجاةُ الأنبياء، وهلاكُ مكذبيهم ضمنها تَوَعُّدٌ لِكُفَّارِ قريش.
وقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وسليمان} المعنى: واذكر داود وسليمان، هكذا قَدَّرَهُ جماعة من المفسرين، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المعنى: وآتينا داود، والنفش: هو الرعي ليلاً، ومضى الحكم في الإسلام بتضمين أربابِ النعم ما أفسدت بالليل؛ لأنَّ على أهلها أَنْ يثقفوها، وعلى أهل الزروع حفظها بالنهار، هذا هو مُقْتَضَى الحديث في ناقة ابن عازب، وهو مذهب مالك وجمهور الأُمَّةِ، وفي كتاب ابن سحنون: إن الحديث إنَّما جاء في أمثالِ المدينة التي هي حيطان محدقة، وأمَّا البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة فيضمن أربابُ النَّعَمِ ما أفسدتْ بالليل والنهار.
قال * ص *: والضمير في قوله: {لِحُكْمِهِمْ} يعودُ على الحاكمين والمحكوم له؛ وعليه أبو البقاء.
وقيل: الضمير لداودَ وسليمانَ- عليهما السلام- فقط، وجُمِعَ؛ لأَنَّ الاثنين جمع انتهى.
قال ابن العربيِّ في أحكامه: المواشي على قسمين: ضوار، وغير ضوار، وهكذا قَسَّمَهَا مالك، فالضواري: هي المعتادة بأكل الزرع والثمار، فقال مالك: تُغَرَّبُ وتُبَاعُ في بلد لا زرعَ فيه، ورواه ابن القاسم في الكتاب وغيره.
قال ابن حبيب: وإنْ كَرِهَ ذلك أربابُها، وكان قول مالك في الدَّابَّةِ التي ضريت بفساد الزرع أَنْ تُغَرِّبَ وتُبَاعَ، وأَمَّا ما يُسْتَطَاعُ الاحتراز منه فلا يُؤْمَرُ صاحبه بإخراجه عن ملكه، وهذا بَيِّنٌ. انتهى.
وقوله: {يُسَبِّحْنَ}، أي: يقلن: سبحان اللَّه؛ هذا قول الأكثر، وذهبت فرقة منهم منذرُ بن سعيد إلى أنه بمعنى: يُصَلِّينَ معه بصلاته، واللبوس في اللغة: هو السلاح، فمنه الدرع وغيره.
قال * ص *: و{لَبُوس} معناه: مَلْبُوسٌ؛ كالرُّكُوب بمعنى المَرْكُوب؛ قال الشاعر [الطويل].
عَلَيْهَا أَسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُم ** سَوَابِعُ بِيضٌ لاَ تُخَرِّقُهَا النَّبْلُ

{ولسليمان الريح}، أي: وسخرنا لسليمانَ الريحَ، هذا على قراءة النصب وقرأت فرقة {الريحُ} بالرفع، ويروى أَنَّ الريح العاصفة كانت تهبُّ على سرير سليمانَ الذي فيه بساطه، وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صَنَعَ سريراً يَحْمِلُ جميع عسكره وأقواته، فتقله من الأرض في الهواء، ثم تتولاه الريح الرُّخَاءُ بعد ذلك فتحمله إلى حيث أراد سليمان.
قال * ص *: والعَصْفُ: الشِّدَّةُ، والرُّخَاءُ: اللين. انتهى.
وقوله تعالى: {إِلَى الأرض التي باركنا فِيهَا} اخْتُلِفَ فيها، فقالت فرقة: هي الشام، وكانت مسكنَه وموضعَ ملكه، وقد قال بعضهم: إنَّ العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدَّوابِّ في الإسراع إلى الوطن، وإنَّ الرُّخَاء كانت في البدأة حيث أصاب، أي: حيث يقصد؛ لأَنَّ ذلك وقت تأنٍ وتدبير وتقلُّبِ رأي، ويحتمل: أنْ يريد الأَرض التي يسير إليها سليمان كائنةً ما كانت، وذلك أَنَّهُ لم يكن يسير إلى أَرض إلاَّ أصلحها اللَّه تعالى به صلى الله عليه وسلم، ولا بركةَ أَعظَمُ من هذا، والغوصُ: الدخول في الماء والأرض، والعمل دون ذلك البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوها، {وَكُنَّا لَهُمْ حافظين} قيل: معناه: مِنْ إفسادهم ما صنعوه، وقيل: غير هذا.
قلت: وقوله سبحانه: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} هذا الاسم المُبَارَكُ مناسب لحال أَيُّوبَ عليه السلام، وقد روى أسامة بن زيد رضي اللَّه عنه أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لِلَّهِ تعالى مَلَكاً مُوَكَّلاً بِمَنْ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينٍ، فَمَنْ قَالَهَا ثَلاَثاً، قَالَ لَهُ المَلَكُ: إنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ؛ فَاسْأَلْ» رواه الحكام في المَسْتَدْرَكِ، وعن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: مَرَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «سَلْ؛ فَقَدْ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْكَ» رواه الحاكم، انتهى من السلاح. وفي قصص أيوبَ عليه السلام طُولٌ واختلاف، وتلخيصُ بعض ذلك: أَنَّ أيوبَ عليه السلام أصابه اللَّه تعالى بأكلة في بدنه، فلما عَظُمَتْ، وتقطَّع بدنه، أخرجه الناس من بينهم، ولم يبقَ معه غيرُ زوجته، ويقال: كانت بنتَ يوسفَ الصديق عليه السلام قيل: اسمها رحمة، وقيل في أيوب: إنَّه من بني إسرائيل وقيل: إنه من الروم من قرية عيصو، فكانت زوجته تسعى عليه، وتأْتيه بما يأكل، وتقوم عليه، ودامَ عليه ضُرُّهُ مدَّة طويلة، وروي أَنَّ أيوب عليه السلام لم يزل صابراً شاكراً، لا يدعو في كشف ما به، حتى إنَّ الدودة تسقط منه فيردها، فمرَّ به قوم كانوا يعادونه فسمتوا به؛ فحينئذٍ دعا رَبَّهُ سبحانه فاستجاب له، وكانت امرأته غائبةً عنه في بعض شأنها، فأنبع اللَّه تعالى له عيناً، وأُمِرَ بالشرب منها فبرئ باطنه، وأُمِرَ بالاغتسال فبرئ ظاهره، ورُدَّ إلى أفضل جماله، وأوتي بأحسن ثياب، وهبَّ عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحتفن منه في ثوبه، فناداه ربه سبحانه وتعالى: يا أيوب ألمْ أكنْ أغنيتك عن هذا؟ فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك فبينما هو كذلك إذ جاءت امرأته، فلم تره في الموضع، فجزعت وَظَنَّتْ أَنَّهُ أزيل عنه، فجعلت تتولَّهُ رضي اللَّه عنها، فقال لها: ما شَأْنُكِ أيتها المرأة؟ فهابته؛ لحسن هيئته، وقالت: إنِّي فقدت مريضاً لي في هذا الموضع، ومعالم المكانِ قد تغيرت، وتأملته في أثناءِ المقاولة فرأت أيوبَ، فقالت له: أنت أيوبُ؟ فقال لها: نعم، واعتنقها، وبكى، فَرُوِيَ أنه لم يُفَارِقْهَا حَتَّى أراه اللَّه جميعَ مالِهِ حاضراً بين يديه.
واختلف الناس في أهله وولده الذين آتاه اللَّه، فقيل: كان ذلك كله في الدنيا فَرَدَّ اللَّه عليه ولده بأعيانهم، وجعل مثلهم له عدة في الآخرة، وقيل: بل أُوتي جميع ذلك في الدنيا من أهل ومال.
* ت *: وقد قَدَّمَ * ع * في صدر القصة: إن اللَّه سبحانه أَذِنَ لإبليسَ لعنه اللَّه في إهلاك مال أيوبَ، وفي إهلاك بنيه وقرابته، ففعل ذلك أجمع، واللَّه أعلم بصحة ذلك، ولو صَحَّ لوجب تأويله.
وقوله سبحانه: {وذكرى للعابدين}، أي: وتذكرة وموعظة للمؤمنين، ولا يعبد اللَّه إلاَّ مؤمن.

.تفسير الآيات (85- 88):

{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}
وقوله سبحانه: {وإسماعيل وَإِدْرِيسَ} المعنى: واذكر إسماعيلَ، وقوله سبحانه: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مغاضبا} التقدير واذكر ذا النون، قال السُّهَيْلِيُّ: لما ذكر اللَّه تعالى يُونُسَ هنا في معرض الثناء، قال: {وَذَا النون}، وقال في الآية الأخرى: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] والمعنى واحدٌ، ولكن بين اللفظين تفاوتٌ كثير في حسن الإشارة إلى الحالتين، وتنزيلُ الكلام في الموضعين والإضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب؛ لأنَّ قولك: ذو يضاف بها إلى التابع، وصاحبُ يُضَافُ بها إلى المتبوع، انتهى.
والنون: الحوتُ، والصاحب: يونس بن متى عليه السلام وهو نبيٌّ من أهل نَيْنَوَى.
وقوله: {مغاضبا} قيل: إنَّهُ غاضب قومه حين طال عليه أمرهم. وَتَعَنُّتُهُمْ، فذهب فارّاً بنفسه، وقد كان اللَّه تعالى أمره بملازمتهم والصبرِ على دعائهم، فكان ذلك ذَنْبَه، أي: في خروجه عن قومه بغير إذن ربه.
قال عِيَاض: والصحيح في قوله تعالى: {إِذ ذَّهَبَ مغاضبا} أَنَّهُ مُغَاضِبٌ لقومه؛ لكفرهم، وهو قول ابن عباس، والضَّحَّاكِ وغيرهما، لا لربه؛ إذْ مغاضبة اللَّه تعالى معاداة له، ومعاداةُ اللَّه كفر لا يليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام-؟! وفرارُ يونس عليه السلام خشيةَ تكذيب قومه بما وعدهم به من العذاب.
وقوله سبحانه: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} معناه: أَنْ لن نضيق عليه، وقيل: معناه: نقدر عليه ما أصابه، وقد قُرِئ {نقَدِّرَ} عليه بالتشديد، وذلك، كما قيل لحسن ظَنِّهِ بربه: أَنه لا يقضى عليه بعقوبة، وقال عياض في موضع آخر: وليس في قصة يونس عليه السلام نَصٌّ على ذنب، وإنما فيها أَبَقَ وذهب مغاضباً، وقد تكلمنا عليه، وقيل: إنما نقم الله- تعالى- عليه خروجه عن قومه من نزول العذاب. وقيل: بل لَمَّا وعدهم العذابَ، ثم عفا اللَّه عنهم، قال: واللَّهِ لا ألقاهم بوجه كذَّابٍ أبداً، وهذا كله ليس فيه نَصٌّ على معصية. انتهى.
وقوله سبحانه: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}. قالت فرقة: معناه: أنْ لن نضيف عليه في مذهبه؛ من قوله تعالى: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]، وقرأ الزُّهْرِيُّ: {نُقَدِّرُ} بضم النون، وفتح القاف، وشَدِّ الدال، ونحوه عن الحسن.
وروي: أَنَّ يونس عليه السلام سجد في جوفِ الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر.
وقوله: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}: يريد فيما خالف فيه من تركِ ملازمة قومه والصبرِ عليهم، وهذا أحسن الوجوه، فاستجاب اللَّه له.
* ت * وليس في هذه الكلمة ما يَدُلُّ أَنَّهُ اعترف بذنب، كما أشار إليه بعضهم، وفي الحديث الصحيح: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ، في بَطْنِ الْحُوتِ: {لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إنِّي كُنْتُ مِنَ الظالمين}، مَا دَعَا بِهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ أَوْ قَالَ: مُسْلِمٌ، إلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ»
الحديث. انتهى. وعن سعد ابن مالك أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: {لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} «أيُّما مُسْلِمٍ دَعَا بِهَا فِي مَرَضِهِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيدٍ، وإنْ بَرِئ بَرِئ وَقَدْ غَفَرَ اللّهُ لَهُ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ» أخرجه الحاكم في المستدرك، انتهى من السلاح.
وذكر صاحب السلاح أيضاً عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، إذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؛ فَإنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ في شَيْءٍ قَطُّ إلاَّ اسْتَجَابَ اللّهُ تعالى لَهُ» رواه الترمذي، واللفظ له والنسائي والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، وزاد فيه من طريق آخر: فَقَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللّهِ، هَلْ كَانَتْ لِيُونُسَ خَاصَّةً، أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تَسْمَعُ إلَى قَوْلِ اللّهِ عز وجل: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}» انتهى.
والغم: ما كان ناله حين التقمه الحوت.

.تفسير الآيات (89- 91):

{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)}
وقوله سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ...} الآية تقدم أمر زكرياء.
وقوله سبحانه: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قيل: بأَنْ جُعِلَتْ مِمَّنْ تَحْمِلُ وهي عاقر قاعد، وعموم اللفظ يتناول جميع الإصلاح.
وقوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} المعنى: أنهم يدعون في وقت تعبداتهم، وهم بحال رغبة ورجاء، ورهبة وخوف في حال واحدة؛ لأَنَّ الرغبة والرهبة متلازمان،، والخشوعُ: التذلُّل بالبدن المتركب على التذلل بالقلب.
قال القشيريُّ في رسالته سُئِلَ الجنيد عن الخشوع فقال: تَذَلُّلُ القلوب لعلاَّمِ الغيوب، قال سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللّه: مَنْ خشع قلبُه لم يقرب منه الشيطان انتهى.
وقوله سبحانه: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} المعنى: واذكر التي أحصنت فرجها، وهي الجارحة المعروفة، هذا قول الجمهور، وفي أحصانها هو المدح، وقالت فرقة: الفرج هنا هو فرج ثوبها الذي منه نفخ الملك. وهذا قول ضعيف، وقد تقدم أمرها.
* ت* وعكس رحمه الله في سورة التحريم النقل، فقال: قال الجمهور: هو فرج الدرع.

.تفسير الآيات (92- 95):

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)}
وقوله تعالى: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} يُحْتَمَلُ أن يكون منقطعاً خطاباً لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر عن الناس أَنَّهُمْ تقطعوا، ثم وعد وأوعد، ويحتمل أنْ يكون مُتَّصِلاً بقصة مريمَ وابنها- عليهما السلام-.
* ص *: أبو البقاء: {وتقطعوا أَمْرَهُمْ} أي، في أمرهم، يريد أنه منصوب على إسقاط حرف الجر.
وقيل: عُدِّيَ بنفسه؛ لأنَّه بمعنى قطعوا، أي فرقوا، انتهى.
وقال البخاري: {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، أي: دينكم دينٌ واحد. انتهى.
وقرأ جمهور السبعة: {وحرام}، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {وحِرْم} بكسر الحاء وسكون الراء وهما مصدران بمعنى، فأَمَّا معنى الآية، فقالت فرقة: حَرَامٌ وحَرْمٌ معناه: جزم وحتم، فالمعنى: وحتم على قرية أهلكناها، أَنَّهم لا يرجعون إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون، بل هم صائرون إلى العقاب.
وقالت طائفة: حرام وحرم، أي: ممتنع.