فصل: تفسير الآيات (32- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (32- 35):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
وقوله سبحانه: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شعائر الله} التقدير في هذا الموضع: الأمر ذلك، و{الشعائر} جمع شعيرة وهي كُلُّ شيء للّه عز وجل فيه أمر أشعر به وأعلم.
قال الشيخ ابن أبي جمرة: {وَمَن يُعَظِّمْ شعائر الله فَإِنَهَا مِن تَقْوَى القلوب} قال تعظيمُ شعائِرِ اللّهِ، كان من البقع أو من البشر أو مِمَّنْ شاء اللّه تعالى زيادَةٌ في الإيمان وقوة في اليقين. انتهى.
وقال العراقي في أرجوزته: [الرجز]
أَعْلاَمُ طَاعَةٍ هِيَ الشَّعَائِر

البيت.
وقالت فرقة: قصد بالشعائر في هذه الآية الهَدْيُ والأنعام المشعرة، ومعنى تعظيمها التسمين والاهتبال بأمرها، قاله ابن عباس وغيرُه، ثم اخْتَلَفَ المتأوِّلُون في قوله سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا منافع...} الآية: فقال مجاهد وقتادة: أراد أنَّ للناس في أنعامهم منافِعَ من الصُّوف، واللَّبَن، والذبح للأكل، وغيرِ ذلك ما لم يبعثها رَبُّها هدياً، فَإذا بعثها فهو الأجل المُسَمَّى، وقال عطاء: أراد لكم في الهدي المبعوثِ منافِعُ، من الركوب، والاحتلاب لمن اضطر، والأجل نحرها، وتكون {ثم} من قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} لترتيب المحل؛ لأَنَّ المَحِلَّ قبل الأجل، ومعنى الكلام عند هذين الفريقين: ثم مَحِلَّها إلى موضع النحر، وذكر البيت؛ لأنَّه أشرفُ الحرم، وهو المقصود بالهدي وغيره.
وقال ابن زيد، والحسن، وابن عمر، ومالك: الشعائر في هذه الآية: مواضِعُ الحج كُلُّها ومعالمه بمنى، وَعَرَفَةَ، والمزدلفة، والصَّفَا والمروة، والبيت وغير ذلك، وفي الآية التي تأتي أَنَّ البُدنَ من الشعائر، والمنافِعُ: التجارة وطلب الرزق أوِ الأجر والمغفرة، والأجل المُسَمَّى: الرجوعُ إلى مكة لطواف الأُفاضة، ومَحِلُّها مأخوذٌ من إحلال المحرم، والمعنى: ثم أُخِّروا هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق، فالبيتُ على هذا التأويل مُرَادٌ بنفسه، قاله مالك في الموطإ.
* ت * وأظهرُ هذه التأويلات عندي تأويلُ عطاءٍ، وفي الثالث بعضُ تكلُّفٍ، ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل أُمة من الأُمم المؤمنة منسكاً، أي: موضعَ نُسُكٍ وعبادة، هذا على أَنَّ المنسك ظرف، ويحتملُ أَنْ يريد به المصدر كأنه قال: عبادة، والناسِكِ العابد.
وقال مجاهد: سُنَّةً في هراقة دماء الذبائح.
وقوله: {لِّيَذْكُرُواْ اسم الله} معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر اللّه، وأن يكون الذبح له؛ لأَنَّهُ رازق ذلك، وقوله: {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أي: آمنوا، ويحتمل أَنْ يريد استسلموا، ثم أمر سبحانه نَبيَّه صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَشِّرَ بشارةً على الإطلاق، وهي أبلغ من المفسرة؛ لأنها مُرْسَلَةٌ مع نهاية التخيل للمخبتين المتواضعين الخاشعين المؤمنين، والخبت ما انخفض من الأَرض، والمُخْبِتُ المتواضع الذي مَشْيُهُ متطامن كأنه في حدورٍ من الأرض، وقال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
قال * ع *: وهذا مثال شريف من خُلُقِ المؤمن اليِّنِ، وقال مجاهد: هم المطمئنون بأمر اللّهِ تعالى، ووصفهم سبحانه بالخوفِ والوَجَلِ عند ذكر اللّه تعالى، وذلك لِقُوَّةِ يقينهم ومراقبتهم لربهم، وكأنهم بين يديه جلَّ وعلا، ووَصَفَهُم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها، ورُوِيَ: أَنَّ هذه الآية قوله: {وَبَشِّرِ المخبتين} نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ رضي اللّه عنهم أجمعين.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
وقوله سبحانه: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} البُدْنُ: جمع بدنة، وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة؛ قاله عطاء وغيره، وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأَنها تبدن، أي: تسمن.
وقيل: بل هذا الاسم خاصٌّ بالإبل، والخير هنا قيل فيه ما قيل في المنافع التي تَقدَّم ذكرُها، والصوابُ عُمُومُه في خير الدنيا والآخرة.
وقوله: {عَلَيْهَا} يريد عند نَحْرِها، و{صَوَآفَّ}، أي: مُصْطَفَّةً، وقرأ ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم: صَوَافِنَ جمع صَافِنَة، وهي التي رُفِعَتْ إحدى يديها بالعقل؛ لئَلاَّ تضطرب، ومنه في الخيل {الصافنات الجياد} [ص: 31]، و{وجبت} معناه: سقطت.
وقوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا}: نَدْبٌ، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإِنسان من هديه، وفيه أَجْرٌ وامتثالٌ؛ إذْ كان أهل الجاهليَّةِ لا يأكلون من هديهم، وتحرير القول في {القانع}: أنَّهُ السائل و{والمعتر} المُتَعَرِّضُ من غير سؤال؛ قاله الحسن ومجاهد وغيرهما، وعكست فرقة هذا القول، فحكى الطبريُّ عن ابن عباس أنَّهُ قال: القَانِعُ: المُسْتَغني بما أعطيته، والمعترُّ: هو المتعرض وحكي عنه أَنَّهُ قال: القَانِعُ: المُتَعَفِّفُ، والمُعترُّ: السائل.
قال * ع *: يُقَالُ: قَنَعَ الرجلُ- بفتح النون- يَقْنَعُ قُنُوعاً فهو قَانِعٌ إذا سأل؛ فالقانع: هو السائل بفتح النون في الماضي، وقَنِعَ- بكسر النون- يَقْنَعُ قَنَاعَةً فهو قَنِعٌ إذا تَعَفَّفَ واستغنى ببلغته؛ قاله الخليل بن أحمد.

.تفسير الآيات (37- 39):

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}
وقوله سبحانه: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا...} الاية: عبارة مبالغة، وهي بمعنى: لن تُرْفَعَ عنده سبحانه، وتتحصل سبب ثواب، والمعنى: ولكن تُنَالُ الرِّفْعَةُ عنده، وتحصلُ الحسنة لديه بالتقوى.
وقوله تعالى: {لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين} رُوِيَ: أن قوله: {وبشر المحسنين} نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تَقَدَّمَ في التي قبلها، وظاهر اللفظ العمومُ في كل مُحْسِنٍ.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ...} الآية، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: {يَدْفَعُ} {وَلَوْلاَ دَفْعُ} [الحج: 40].
قال أبو علي: أجريت دافع مُجْرى دفع كعاقبت اللِّصَّ وطارقت النعلَ، قال أبو الحسن الأَخْفَشُ: يقولون: دافع اللّه عنك، ودفع عنك، إلاَّ أَنَّ دفع أكثر في الكلام.
قال * ع *: ويحسن {يدافع}؛ لأَنَّهُ قد عَنَّ للمؤمنين مَنْ يدفعهم ويُؤْديهم، فيجيء دفعه سبحانه مدافعةً عنهم، وروي أَنَّ هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لَمَّا كَثُروا بمكة وآذاهم الكُفَّارُ؛ هَمَّ بعضُهم أَنْ يقتل مَنْ أمكنه من الكُفَّارَ، ويغتالَ، وَيَغْدُرَ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كَفُورٍ}، ثم أَذِنَ اللّه سبحانه في قتال المؤمنين لِمَنْ قاتلهم من الكفار بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}.
وقوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} معناه: كان الإذن بسبب أنهم ظُلِمُوا قال ابن جريج: وهذه الآية أول ما نقضت المُوادَعَةَ.
قال ابن عباس وابن جُرَيْجٍ: نزلتُ عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وقال: أبو بكر الصديق: لَمَّا سمعتُهَا، علمتُ أنَّه سيكون قتال.
قلت: وهذا الحديث خَرَّجَهُ الترمذيُّ، قال ابن العربيِّ: ومعنى {أُذِنَ}: أُبِيحَ، وقرئ {يُقَاتِلُونَ} بكسر التاء وفتحها، فعلى قراءة الكسر: تكونُ الآية خبراً عن فعل المأذونِ لهم، وعلى قراءة الفتح: فالآية خبرٌ عن فعل غيرهم، وأَنَّ الإذْنَ وقع من أجل ذلك لهم، ففي فتح التاء بيانُ سبب القتال، وقد كان الكفار يتعمدون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالإذاية ويعاملونهم بالنكاية، وقد قتل أبو جهل سُمَيَّةَ أمَّ عمار بن ياسر، وعُذِّبَ بلالُ، وبعد ذلك جاء الانتصار بالقتال، انتهى، ثم وعد سبحانه بالنصر في قوله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.

.تفسير الآيات (40- 41):

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
وقوله سبحانه: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم} يريد كُلَّ مَنْ خرج من مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوه بإذايتهم،- طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة-، ونسب الإخراج إلى الكفار؛ لأَنَّ الكلام في معرض تقرير الذنب، وإلزامه لهم.
وقوله: {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} استثناءٌ مُنْقَطِعٌ.
قال * ص *: وأجاز أبو إسحاق وغيرُه أنْ يكون في موضع جَرٍّ بدلاً من حَقَّ، أي: بغير مُوجِبٍ سوى التوحيدِ الذي ينبغي أن يكونُ مُوجِبَ الإقرار، لا مُوجِبَ الإِخراج، ومثله: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بالله} [المائدة: 59] انتهى، وهو حَسَنٌ من حيث المعنى، والانتقاد عليه مُزَيَّفٌ.
وقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس} الآية تقوية للأمر بالقتال، وذكر أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ في الأمم، وبه صَلُحَتِ الشرائع، فكأنه قال: أُذِنَ في القتال، فليقاتلِ المؤمنون، ولولا القتالُ والجهادُ لَتُغُلِّبَ على الحَقِّ في كُلِّ أُمَّةٍ، هذا أصوب تأويلات الآية، والصومعة: موضع العبادة، وهي بِنَاءٌ مرتفع، منفرد، حديد الأعلى، والأصمع من الرجال: الحديد القول، وكانت قبل الإسلام مُخْتَصَّةً برهبان النصارى، وعُبَّادِ الصابئين؛ قاله قتادة، ثم اسْتُعْمِلَتْ في مئذنة المسلمين، والبِيَعُ: كنائس النصارى، واحدتها: بِيعَةٌ.

وقال الطبري: قيل: هي كنائس اليهود، ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك، والصلوات مشتركة لكل مِلَّةٍ؛ واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطيلها، أو أرادَ موضع صلواتٍ، وقال أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين، وقيل: غير هذا.
وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا} الضمير عائد على جميع ما تَقَدَّمَ، ثم وعد سبحانه بنُصْرَةِ دينه وشرعه، وفي ذلك حَضٌّ على القتال والجدِّ فيه، ثم الآية تَعُمُّ كل مَنْ نصر حقّاً إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: {الذين إِنْ مكناهم فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة...} الآية: قالت فرقة: هذه الآية في الخلفاءِ الأربعة، والعمومُ في هذا كله أبينُ، وبه يَتَّجِهُ الأمر في جميع الناس، وإنَّما الآية آخذة عهداً على كُلِّ مَنْ مُكِّنَ في الأرض على قَدْرِ ما مُكِّنَ، والآية أمكن ما هي في الملوك.
وقوله سبحانه: {ولِلَّهِ عَاقِبَةِ الأمور}: تَوَعُّدٌ للمخالف عن هذه الأمور التي تقتضيها الآية لمن مكن.

.تفسير الآيات (42- 51):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}
وقوله سبحانه: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ}: يعني: قريشاً، {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى...} الآية فيها وعد لقريشٍ، و{فَأمْلَيْتُ} معناه: أمهلتُ، والنكير مصدر بمعنى الإنكار.
وقوله: {وبير معطلة} قيل: هو معطوف على العروش وقيل: على القرية؛ وهو أصوب.
ثم وَبَّخَهُمْ تعالى على الغفلة وترك الاعتبار بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} وهذه الآية تقتضي أَنَّ العقل في القلب، وذلك هو الحق، ولا يُنْكَرُ أَنَّ للدماغ اتصالاً بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ.
وقوله: {فَتَكُونَ}: نصب بالفاء في جواب الاستفهام؛ صُرِفَ الفعلُ من الجزم إلى النصب.
وقوله سبحانه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} لفظ مبالغة كأنه قال: ليس العمى عَمَى العين، وإنما العمى كُلَّ العمى عَمَى القلب، ومعلوم أن الأبصار تعمى، ولكن المقصود ما ذكرنا؛ وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ»، و«لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَافِ»، والضمير في {إِنَّها} للقصة ونحوها من التقدير، والضميرُ في {يَسْتَعْجِلُونَكَ} لقريشٍ.
وقوله: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} وعيد وإخبار بأنَّ كل شيءٍ إلى وقت محدود، والوعد هنا مُقَيَّدٌ بالعذاب.
وقوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} قالت فرقة: معناه وإنَّ يوماً من أَيَّامِ عذاب اللّه كألف سنة من هذه؛ لطول العذاب وبؤسه، فكان المعنى أي من هذه السنين فما أَجْهَلَ مَنْ يَسْتَعْجِلَ هذا، وكُرِّرَ قوله: {وَكَأَيِّن}؛ لأَنَّهُ جلب معنى آخر؛ ذكر أَوَّلاً القرى المُهْلَكَةَ دون إملاء، بل بعقب التكذيب، ثم ثَنَّى سبحانه بالممهلة؛ لئلاَّ يفرحَ هؤلاء بتأخير العذاب عنهم، وباقي الآية بَيِّنٌ، والرزق الكريم: الجنة، و{معاجزين} معناه: مغالبين، كأَنهم طلبوا عَجْزَ صاحب الآياتِ، والآياتُ تقتضي تعجيزهم؛ فصارت مُفَاعَلَةً.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}
وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ...} الآية.
قلت: قال القاضي أبو الفضل عياض: وقد توجهت ها هنا لبعض الطاعنين سُؤَالاتٍ منها ما رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة والنجم وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] قال: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى، وإنَّ شَفَاعَتَهَا لترتجى». قال عياض: اعلم أكرمك اللّه أَنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله.
والثاني: على تقدير تسليمه.
أما المأخذ الأَوَّلُ: فيكفيك أنَّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولاَ رَوَاهُ ثقة بسند مُتَّصِلٍ سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المُفَسِّرُون والمؤرِّخُونَ المُولَعُونَ بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكيُّ رحمه اللّه تعالى حيث يقول: لقد بُلِيَ الناسُ ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال عياض: قال أبو بكر البَزَّارُ: هذا الحديث لا نعلمه يُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مُتَّصل يجوزُ ذكرُه؛ وإنَّما يُعْرَفُ عن الكلبيِّ، قال عياض: والكلبيُّ مِمَّنْ لا تجوز الرواية عنه ولا ذِكْرُهُ؛ لقوَّةِ ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البَزَّارُ، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية قال: وهذا الحديث الذي فيه: هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يُدْخِلْهُ البخاريُّ ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مُصَنِّفٌ مشهور؛ بل يقتضي مذهبُ أهل الحديث أَنَّ الشيطان ألقى ولا يعينون هذا السَّبَبَ ولا غيره.
قال * ع *: وحدثني أَبي رحمه اللّه تعالى أَنَّهُ لَقِيَ بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين مَنْ قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ؛ وإنَّما الأمرُ يعني على تقدير صحَّته أَنَّ الشيطان نَطَقَ بلفظ أُسْمِعَهُ الكُفَّارُ عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20].
وقَرَّبَ صوته من صوتِ النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها، هذا على تقدير صحته، وقد رُوِيَ نحوُ هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي.
قلت: قال عياض: وقد أعادنا اللّه من صِحَّتِهِ، وقد حكى موسى بن عقبة في مغازيه نحوَ هذا، وقال: إنَّ المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماع المشركين، ومعنى قوله تعالى: {تمنى} أي: تلا ومنه قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]. أي: تلاوة، {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي: يُذْهِبُهُ، ويزيل اللبس به ويُحكمُ آياته، وعبارة البخاريِّ: وقال ابن عباس: {إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ}، أي: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم آياته، ويقال: {أُمْنِيَّتِهِ}: قراءته انتهى.
قال عياض: وقيل: معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو إذا قرأ فيتنبه لذلك، ويرجعُ عنه، انتهى.