فصل: تفسير الآيات (53- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (53- 57):

{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}
وقوله سبحانه: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً} الفتنة: الامتحانُ والاختبار، والذين في قلوبهم مرض: عامَّةُ الكُفَّارِ، {والقاسية قُلُوبُهُمْ} خواصُّ منهم عتاة: كأبي جهل وغيره، والشقاق: البعد عن الخير والكونُ في شقٍّ غيرِ شقِّ الصلاح، و{الذين أُوتُواْ العلم}: هم أصحاب نَبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في {أَنَّهُ}: عائد على القرآن، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}: معناه: تتطامن وتَخْضَعُ، وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض كما تقدم.
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي: من القرآن، والمريةُ: الشَّكُّ، {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة} يعني يوم القيامة، {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قيل: يوم بدر، وقيل: الساعةُ سَاعَةُ موتهم، واليوم العقيم يومُ القيامة.

.تفسير الآيات (58- 62):

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}
وقوله سبحانه: {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ...} الآية ابتداءُ معنى آخرُ؛ وذلك أَنَّهُ لما مات عثمانُ بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: مَنْ قُتِلَ من المهاجرين أَفْضَلُ مِمَّنْ ماتَ حَتْفَ أنفه. فنزلت هذه الآية مُسَوِّيَةً بينهم في أنَّ اللّه تعالى يرزقُ جميعهم رِزْقاً حسناً، وليس هذا بقاضٍ بتساويهم في الفضل، وظاهِرُ الشريعة أَنَّ المقتول أفضل، وقد قال بعض الناس: المقتول والميت في سبيل اللّه شهيدَانِ، ولكن للمقتول مَزِيَّةُ ما أصابه في ذات اللّه، والرزق الحسن يحتمل: أن يريد به رزق الشهداءِ عند ربهم في البرزخ، ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة، وقرأت فرقة: {مُدْخَلاً}- بضم الميم-؛ من أدخل؛ فهو محمولٌ على الفعل المذكور، وقرأت فرقة: {مَدْخَلاً} بفتح الميم؛ من دخل؛ فهو محمول على فعل مُقَدَّرٍ تقديره: فَيَدْخُلُونَ مَدْخَلاً، ثم أخبر سبحانه عَمَّنْ عاقب من المؤمنين مَنْ ظلمه من الكفرة، وَوَعَدَ المَبْغِيَّ عليه بأنه ينصره، وذلك أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كُفَّارٌ في الأشهر الحُرْم؛ فأبى المؤمنون من قتالهم، وأبى المشركون إلاَّ القتال، فلمَّا اقتتلوا، جَدَّ المؤمنون ونصرهم اللّه تعالى؛ فنزلت الآية فيهم، وجَعَلَ تقصيرَ الليلِ وزيادَة النهار وعكسهما إيلاجاً؛ تجوُّزاً وتشبيهاً، وباقي الآية بيّن.

.تفسير الآيات (63- 64):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)}
وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد} قوله: {فَتُصْبِحُ} عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء؛ وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكونُ إلاَّ ب بمكَّة وتهامة.
قال * ع *: ومعنى هذا أنه أخذ قوله: {فَتُصْبِحُ} مقصوداً به صباحُ ليلة المطر، وذهب إلى أَنَّ ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر.
قال * ع *: وقد شاهدتُ هذا في السُّوسِ الأقصى، نزل المطرُ ليلاً بعد قَحْطٍ، وأصبحت تلك الأرض الرملة التي تسفيها الرياح قد اخضَرَّت بنبات ضعيف دقيق.
قلت: وقد شاهدتُ أنا ذلك بصحراء سواكن بالمشرق، وهي في حكمُ مكةَ إلاَّ أَنَّ البحر قد حال بينهما؛ وذلك أَنَّ التعدية من جده إلى سواكنَ مقدار يومين في البحر أو أقلَّ بالريح المعتدلة، وكان ذلك في أَوَّلِ الخريف، وأجرى اللّه العادة أَنَّ أَمطارَ تلك البلاد تكونُ بالخريف فقط، هذا هو الغالب، ولَمَّا شاهدتُ ذلك تذكرتُ هذه الآية الكريمة، فسبحان اللّه ما أعظم قدرته! واللطيف: المُحَكَّمُ للأمور برفق.

.تفسير الآيات (65- 67):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)}
وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ} أي: سَخَّرَ لنا سبحانه ما في الأرض من الحيوان والمعادِنِ وسائر المرافق، وباقي الآية بيّن مِمَّا ذُكِرَ في غير هذا الموضع.
وقوله سبحانه: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} المنسك: المصدر، فهو بمعنى: العبادة والشِّرْعَةُ، وهو أيضاً موضع النسك، وقوله: {هُمْ نَاسِكُوهُ} يعطى أَنَّ المنسكَ: المصدر، ولو كان الموضعَ لقال: هم ناسكون فيه.

.تفسير الآيات (68- 71):

{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)}
وقوله سبحانه: {وَإِن جادلوك...} الآية مُوَادَعَةٌ مَحْصَنَةٌ نسختها آية السيف، وباقي الآية وعيد.
وقوله سبحانه: {إِنَّ ذلك فِي كتاب} يعني: اللوح المحفوظ.
وقوله سبحانه: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} يحتمل أنْ تكونَ الإشارة إلى الحكم في الاختلاف.

.تفسير الآيات (72- 74):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
وقوله سبحانه: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} يعني: أَنَّ كُفَّارَ قريش كانوا إذا تُلِيَ عليهم القرآنُ، وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاءِ إلى التوحيدُ عُرِفَتِ المساءةُ في وجوههم والمنكرُ من معتقدهم وعداوتهم، وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتَّالِينَ، والسطو إيقاع ببطش، ثم أمر تعالى نَبِيَّه عليه السلام أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع: {أَفَأُنَبِّئُكُم} أي: أخبركم. {بِشَرٍّ مِّن ذلكم}. والإشارة بذلكم إلى السطو، ثم ابتدأ بخبر؛ كأن قائلاً قال له: وما هو؟ قال: {النار} أي: نار جهنم.
وقوله: {وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} يحتمل أَنْ يكون أراد: أَنَّ اللّه تعالى وعدهم بالنار، فيكونُ الوعد في الشر، ويحتمل أَنَّهُ أراد: أَنَّ اللّه سبحانه وعد النارَ بأن يُطْعِمَهَا الكُفَّارَ، فيكون الوعد على بابه، إذ الذي يقتضي قولها: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] ونحو ذلك أَنَّ ذلك من مَسَارِّها.
قلت: والظاهر الأَوَّل.
وقوله سبحانه: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ...} الآية: ذكر تعالى أمر سالب الذباب، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطِّيبِ فكان الذبابُ يتسلط ويذهب بذلك الطيب، وكانوا يتألّمُون من ذلك، فَجُعِلَتْ مثلاً، واخْتَلَفَ المتأوَّلُون في قوله تعالى: {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} فقالت فرقة: أراد بالطالب: الأصنامَ، وبالمطلوبِ: الذبابَ، أي: أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان، وقيل: معناه: ضَعُفَ الكُفَّارُ في طلبهم الصوابَ والفضيلةَ من جهة الأصنام، وضَعُفَ الأصنامُ في إعطاء ذلك وإنالته.
قال * ع *: ويحتمل أنْ يريد: ضعف الطالب وهو الذبابُ في استلابه ما على الأصنامِ، وضعف الأصنام في أنْ لا منعة لهم، وبالجملة فدلتهم الآيةُ على أَنَّ الأصنام في أَحَطِّ رُتْبَةٍ، وأَخَسِّ منزلة لو كانوا يعقلون. و{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} المعنى: ما وَفَّوْهُ حَقَّه سبحانه من التعظيم والتوحيد.

.تفسير الآيات (75- 77):

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}
وقوله سبحانه: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس...} الآية: نزلت بسبب قول الوليد بن المُغِيرَةِ: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8].
* ص *: أبو البقاء: {وَمِنَ الناس} أي: رسلاً، انتهى، ثم أمر سبحانه بعبادته وخَصَّ الركوعَ والسجودَ بالذكر؛ تشريفاً للصلاة، واختلف الناسُ: هل في هذه الآية سجدة أم لا؟.
قال ابنُ العربيّ في أحكامه: قوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اركعوا واسجدوا} تَقَبَّلَهَا قوم على أَنَّها سجدةُ تلاوة؛ فسجدوها.
وقال آخرون: هو سجود الصلاة فقصروه عليه، ورأى عمرُ وابنُه عبدُ اللّه رضي اللّه عنهما: أنها سجدةُ تلاوة، وإنِّي لأَسجُدُها وأراها كذلك؛ لما رَوَى ابنُ وهب، وغيره عن مالك، وغيره، انتهى.
وقوله سبحانه: {وافعلوا الخير} نَدْبٌ فيما عدا الواجبات.
قلت: وهذه الآية الكريمةَ عَامَّةٌ في أنواع الخيرات، ومن أعظمها الرأفةُ والشفقة على خَلْقِ اللّه، ومُوَاساةُ الفقراء وأهلِ الحاجة، وقد روى أبو داود والترمذيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ،، وأَيُّما مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً عَلَى جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللّهُ مِنْ الرَّحِيقِ المَخْتُوم» انتهى. وروى علي بن عبد العزيز البغوي في المسند المُنْتَخَب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً، كَانَ فِي حِفْظِ اللّهِ مَا بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ رُقْعَةٌ» وروى ابن أبي شيبة في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «أَيُّمَا أَهْلِ عَرْصَةٍ ظَلَّ فِيهُمُ امرؤ جَائِعاً، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللّهِ» انتهى. من الكوكب الدري.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
وقوله سبحانه: {وجاهدوا فِي الله حَقَّ جهاده} قالت فرقة: الآية في قتال الكُفَّارِ.
وقالت فرقة: بل هي أَعَمُّ من هذا، وهو جهاد النفس، وجهادُ الكفار والظَّلَمَةِ، وغيرِ ذلك، أمر اللَّه عباده بأَنْ يفعلوا ذلك في ذات اللّه حَقَّ فعله.
قال * ع *: والعموم أحسن، وبَيِّنٌ أَنَّ عُرْفَ اللفظة يقتضي القتال في سبيل اللّه.
وقوله: {هُوَ اجتباكم} أي: تخيَّرَكم، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} أي: من تضييقٍ، وذلك أَنَّ المِلَّةَ حنيفية سَمْحَةٌ، ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم، بل فيها التوبة والكَفَّارَاتُ، والرُّخَصُ، ونحو. هذا مِمَّا يكثر عَدُّهُ، ورفع الحرج عن هذه الأمة لمن استقام منهم على منهاج الشرع، وأَمَّا السُّلابة والسُّرَّاقُ وأصحابُ الحدود فهم أَدخلوا الحَرَجَ على أنفسهم بمفارقتهم الدِّين، وليس في الدِّين أَشَدُّ من إلزام رجل لاثنين في سبيل اللّه، ومع صحة اليقين، وجودة العزم ليس بِحَرَج و{مِّلَّةَ} نُصِبَ بفعل مُضْمَرٍ من أفعال الإغراء.
وقوله: {هُوَ سماكم المسلمين} قال ابن زيد: الضمير ل {إبراهيم}- عليه السلام- والإشارة إلى قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128]، وقال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد: الضمير للَّه عز وجل: و{مِن قَبْلُ} معناه: في الكتب القديمة، {وَفِي هذا} أي: في القرآن، وهذه اللفظة تُضْعِفُ قولَ مَنْ قال: الضمير لإبراهيم عليه السلام، ولا يتوجه إلاَّ على تقدير محذوف من الكلام مستأنف.
قال * ص *: {هو} قيل: يعود على اللّه تعالى، وقيل: على إبراهيم، وعلى هذا فيكون: {وَفِي هذا}: القرآن، أي: وسميتم بسببه فيه، انتهى.
وقوله سبحانه: {لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ} أي: بالتبليغ.
وقوله: {وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} أي: بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نَبِيُّكم، ثم أمر سبحانه بالصلاة المفروضة أَنْ تُقَامَ ويُدَامَ عليها بجميع حدودها، وبالزكاة أَنْ تُؤَدَّى، ثم أمر سبحانه بالاعتصام به، أي: بالتعلُّق به والخلوص له وطَلَبِ النجاة منه، ورَفْضِ التَوَكُّلِ على سواه.
وقوله سبحانه: {هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} المولى: في هذه الآية معناه: الذي يليكم نصره وحفظه، وباقي الآية بيّن.

.تفسير سورة المؤمنين:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)}
قوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} أخبر اللّه سبحانه عن فلاح المؤمنين، وأنهم نالوا البُغْيَةَ، وأحرزوا البقاءَ الدائم.
قلت: وعن عُمرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: «كان رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النحْلِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْماً، فَمَكَثْنَا سَاعَةً، وَسُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ، زِدْنَا وَلاَ تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وَآثِرُنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وأرْضِنَا وارض عَنَّا»، ثُمَّ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرُ آياتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الجَنَّةَ»، ثُمَّ قَرَأَ: «{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} حتى ختم عشر آيات»؛ رواه الترمذي واللفظ له والنسائيُّ والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من سلاح المؤمن.
قلت: وقد نَصَّ بعض أئمتنا على وجوب الخشوع في الصلاة، قال الغزاليُّ رحمه اللّه: ومِنْ مكائد الشيطان أن يَشْغَلَكَ في الصلاة بفكر الآخرة وتدبيرِ فِعْلِ الخيرات؛ لتمتنعَ عن فَهْمِ ما تقرأه، واعلم أَنَّ كلَّ ما أشغلك عن معاني قراءتك فهو وسواس؛ فإنَّ حركة اللسان غيرُ مقصودة؛ بل المقصود معانيها، انتهى من الإحياء.
وروي عن مجاهد: أَنَّ اللّه تعالى لما خلق الجَنَّةَ، وأتقن حُسْنَها قال: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين: فقال: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} والخشوع التطامُنُ، وسكونُ الأعضاءِ، والوقارُ، وهذا إنَّما يظهر في الأعضاء مِمَّنْ في قلبه خوف واستكانة؛ لأَنَّه إذا خشع قلبُه خشعت جوارِحُه، ورُوِيَ أَنَّ سبب الآية أَنَّ المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يُمْنَةً ويُسْرَةً؛ فنزلت هذه الآيةُ، وأُمِرُوا أن يكون بصرٍ المُصَلِّي حِذَاءَ قِبْلَتِه أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة، و{اللغو}: سقط القول، وهذا يَعُمُّ جميع ما لا خيرَ فيه، ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي: يُعْرِضُونَ عن اللغو، وكأنَّ الآية فيها موادعة.
{والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} ذهب الطبريُّ وغيره إلى: أَنَّها الزكاة المفروضة في الأموال، وهذا بَيِّنٌ، ويحتمل اللفظُ أَن يريد بالزكاة: الفضائلَ، كأنه أراد الأزكى من كل فعل؛ كما قال تعالى: {خَيْراً مِّنْهُ زكواة وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف: 81].