فصل: تفسير الآيات (32- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (32- 34):

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}
وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} الأَيِّمُ: مَنْ لا زوجةَ له أو لا زوجَ لها؛ فالأَيِّمُ: يقال للرجل والمرأة.
وقوله: {والصالحين} يريد: للنكاح، وهذا الأمر بالنكاح يختلف بحسب شَخْصٍ شخْصٍ، ففي نازلة: يُتَصَوَّرُ وجوبُه، وفي نازلة: النَّدْبُ وغيرُ ذلك حسبما هو مذكور في كتب الفقه؛ قال ابن العربيِّ في أحكامه: قوله تعالى: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ} الأظهر فيه: أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى، وذلك بيد السادَةِ في العبيد والإماء؛ كما هو في الأحرار بيد الأولياء، انتهى. ثم وعد تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين؛ طَلَبَ رضا اللّه عنهم، واعتصاماً من معاصيه، ثم أمر تعالى كُلَّ مَنْ يَتَعَذَّرُ عليه النكاحُ أَنْ يستعفف حتى يُغْنِيَهُمُ اللّه من فضله، إذِ الغالب من موانع النكاح عَدَمُ المال، فوعد سبحانه المُتَعَفِّفُ بالغنى. والمكاتبة: مفاعلة من حيث يَكْتُبُ هذا على نفسه وهذا على نفسه، ومذهب مالك: أَنَّ الأَمرَ بالكتابة هو على الندب.
وقال عطاء: ذلك واجب، وهو ظاهرُ مذهب عمرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه.
وقوله: {إِن عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قالت فرقة: الخير هنا المال.
وقال مالك: إنَّه ليقال: القُوَّةُ والأداء، وقال عبَيْدَةُ السَّلْمانيَّ: الخير هو: الصلاح في الدِّين.
وقوله تعالى: {وَءَاتُوهُم} قال المفسرون: هو أمر لكل مُكَاتِبِ أنْ يضع عن العبد من مال كتابته، ورأى مالك هذا الأمر على النَّدْبِ، ولم يَرَ لقدر الوضيعة حَدّاً، واستحسن عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أن يُوضَعَ عنه الرُّبُعُ، وقيل: الثُّلُثُ، وقيل: العشر، ورأى عمر أَنْ يكون ذلك من أَوَّلِ نُجُومِهِ؛ مبادرةً إلى الخير، وخوفَ أَلاَّ يدركَ آخرها، ورأى مالك وغيره: أَنْ يكونَ الوضعُ من آخر نَجْمٍ؛ وعِلَّةُ ذلك أَنَّه: ربما عجز العبدُ فرجع هو وماله إلى السَّيِّدِ، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة.
قلت: والظاهر أَنَّ لا يُعَدُّ رجوعاً كما لو رجع إليه بالميراث، ورأى الشافعيُّ وغيره: أَنَّ الوضيعة واجبةُ يُحكَمُ بها.
وقال الحسن وغيره: الخطاب بقوله تعالى: {وءَاتُوهُم}: للناس أجمعين في أَنْ يتصدَّقُوا على المكاتَبِينَ.
وقال زيد بن أسلم: إنَّما الخطاب لولاة الأمور.
وقوله سبحانه: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} الآية: رُوِيَ: أَنَّ سبب الآية هو أَن عبد اللّه بن أُبَيِّ ابن سلولَ كانت له أَمَةٌ، فكان يأمرُها بالزنا والكَسْبِ به، فشكَتْ ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية فيهِ، وفيمن فَعَلَ فعلَه من المنافقين.
وقوله: {إن أَرَدْنَ تَحَصُّناً} راجع إلى الفتيات؛ وذلك أَنَّ الفتاةَ إذا أَرادت التَّحَصُّنَ فحينئذ يمكن ويُتَصَوَّرُ أَنْ يكونَ السيد مُكْرِهاً، ويمكن أن ينهى عن الإكراه، وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصنَ فلا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ للسيد: لا تُكْرِهها: لأَنَّ الإكراه لا يُتَصوَّرُ فيها وهي مريدة للفساد، فهذا أمر في سادة وفتياتٍ حالُهم هذه، وذهب هذا النظرُ عن كثير من المفسرين: فقال بعضُهم: قولُه: {إن أردن} راجِعٌ إلى الأيامى في قوله: {وَأَنكِحُواْ الأيامى مِنكُمْ}، وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: {إِن أَرَدْنَ} مَلْغِيٌّ ونحو هذا مِمَّا هو ضعيف، واللّه الموفق للصواب برحمته.
قلت: وما اختاره * ع * هو الذي عَوَّلَ عليه ابن العرَبيِّ وَنَصَّهُ، وإنما ذكر اللّه تعالى إِرادة التَّحَصّنِ من المرأة؛ لأَنَّ ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأَمَّا إذا كانت هي راغبةً في الزنا، لم يتحصل الإكراه فحصلوه إنْ شاء اللّه، انتهى من الأحكام وقرأ ابن مسعود وغيره: {فَإنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ لهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثم عَدَّد سبحانه نِعَمَهُ على المؤمنين في قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} ليقع التحفظ مِمَّا وقع أولئك فيه.

.تفسير الآيات (35- 37):

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}
وقوله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض...} الآية: النور في كلام العرب الأضواء المُدْرَكَةُ بالبصر، ويُسْتَعْمَلُ مجازاً فيما صَحَّ من المعاني ولاح؛ فيقال: كلام له نور، ومنه الكتاب المنير واللّه تعالى ليس كمثله شيء فواضح أَنَّهُ ليس من الأضواء المُدْرَكَةِ، ولم يبقَ إلاَّ أَنَّ المعنى مُنَوِّرُ السموات والأرض، أي: به وبقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها كما تقول الملك نور الأمة أي قِوام أمورها وصلاحُ جملتها، والأمر في الملك مجاز، وهو في صفة اللّه تعالى حقيقة مَحْضَةٌ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وغيره: {اللّه نَوَّرَ} بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء والضمير في {نوره} يعود على اللّه تعالى؛ قاله جماعة، وهو إضافة خلق إلى خالق، كما تقول: ناقة اللّه، وبيت اللّه، ثم اختلفوا في المراد بهذا النور، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو المؤمن، وقيل: هو الإيمان والقرآن، وفي قراءة أُبَيِّ ابن كعب: {مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِينَ} والمشكاة: هي الكُوَّةُ غير النافذة فيها القنديل ونحوه، وهذه الأقوال الثلاثة يَطَّرِدُ فيها مقالة جزء من المثال بجزء من المُمَثَّلِ، فعلى قول مَنْ قال: المُمَثَّلُ محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول كعب الأحبار فرسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم هو المشكاةُ أو صدره، والمصباح هو النبوءة وما يَتَّصِلُ بها من علمه وهداه، والزجاجة: قلبه، والشجرة المباركة: هي الوحي، والزيت: هو الحجج والبراهين. وعلى قول مَنْ قال: إنَّ المُمَثَّلَ به هو المؤمن وهو قول أُبَيِّ بن كعب، فالمشكاة صدره، والمصباح: الإيمان، والعلم، والزجاجة: قلبه، والشجرة القرآن، وزيتها: هو الحجج، والحكمة التي تضمنها قولُ أُبَيٍّ فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي في قبور الأموات، وتحتمل الآية معنى آخر، وهو أَنْ يريدَ: مَثَلُ نورِ اللّه الذي هو هداه في الوضوح كهذه الجملة من النور، الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة؛ التي هي أبلغ صفات النور، الذي هو بين أيديكم أَيُّها البشر؛ وقال أبو موسى: المشكاة: الحديدة أو الرَّصَاصَةُ التي يكون فيها القنديل في جوف الزجاجة، والأَوَّلُ أَصَحُّ.
وقوله: {فِي زُجَاجَةٍ} لأَنَّه جسم شَفَّافٌ، المصباحُ فيه أنور منه في غير الزجاجة، والمصباح: الفتيل بناره.
وقوله: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي في الإنارة والضوء، وذلك يحتمل معنيين: إمَّا أَنْ يريد أَنَّها بالمصباح كذلك، وإمَّا أَنْ يريد أَنَّها في نفسها؛ لصفائها وجودة جوهرها، وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور؛ قال الضَّحَّاكُ: الكوكب الدُّرِّيُّ: الزهرة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {تَوَقَّدَ} بفتح التاء والدال، والمراد: المصباح، وقرأ نافع وغيره: {يُوقَدُ} أي: المصباح.
وقوله: {مِن شَجَرَةٍ} أي من زيت شجرة، والمباركة: المُنَمَّاةُ.
وقوله تعالى: {لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قال الحسن: أي: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا؛ وإنَّما هو مَثَلٌ ضربه اللّه تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إمَّا شرقِيَّةً وإمَّا غربِيَّةً، وقيل غيرُ هذا.
وقوله سبحانه: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء...} الآية مبالغة في صفة صفائه وحُسْنِهِ.
وقوله: {نُّورٌ على نُورٍ} أي: هذه كلها ومعان تكامل بها هذا النورُ المُمَثَّلُ به، وفي هذا الموضع ثُمَّ المثالُ، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} قال ابن عباس وغيره: هي المساجد المخصوصةُ بعبادة اللّه التي من عادتها أنْ تُنَوَّرَ بهذا النوع من المصابيح. وقوله: {أَذِنَ الله}: بمعنى: أمر وقضى، و{تُرْفَعَ} قيل: معناه تُبْنَى وتُعَلَّى؛ قاله مجاهد وغيره؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت...} [البقرة: 127].
وقال الحسن: معناه تُعظَّم ويُرْفَعُ شأنها، وذكر اسمه تعالى هو بالصلاة والعبادة قولاً وفعلاً، و{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} أي: في المساجد، {بالغدو والأصال} قال ابن عباس: أراد ركعتي الضُّحَى. والعصر، وإنَّ ركعتي الضحى لفي كتاب اللّه وما يغوص عليها إلاَّ غَوَّاصٌ؛ ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمرَ اللّه تعالى وطلبهم رضاه، لا يشغلهم عن الصلاة وذكرِ اللّه شيءٌ من أمور الدنيا.
قلت: وعن عمر- رضي اللّه عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحَدٍ، يَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، ويُسْمعُهُمُ الدَّاعِي، فَيْنَادِي مُنَادٍ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ لَمِنَ الْكَرَمُ اليَوْمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِع} [السجدة: 16]؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُواْ {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} إلى آخر الآية، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الجَمْعِ لَمِنِ الكَرَمُ اليَوْمَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ رَبَّهمْ» مختصراً رواه الحاكم في {المستدرك على الصحيحين} وله طرق عن أَبي إسحاقَ، انتهى من {السلاح}، ورواه أيضاً ابن المبارك من طريق ابن عباس قال: «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نادى مُنَادٍ: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ منْ أَصْحَابُ الكَرَم، لِيَقُمْ الحَامِدُونَ لِلَّهِ تعالى على كُلِّ حَالٍ، فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلَى الجَنَّةِ، ثُمَّ يُنَادِي ثَانِيَةً: سَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ؛ لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانَتْ جُنُوبُهُمْ تتجافى عَنِ المَضَاجِعِ؛ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ؛ قَالَ: فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجنَّة، ثُمَّ يُنَادِي ثَالِثَةً: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ؛ لِيَقُمَ الَّذِينَ كَانَتْ: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَاء الزكواة يخافون يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} فيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجَنَّة» انتهى من التذكرة. والزكاة هنا عند ابن عباس: الطاعة للَّه.
وقال الحسن: هي الزكاةُ المفروضة في المال، واليوم المخوف: هو يوم القيامة، ومعنى الآية: إنَّ ذلك اليوم لِشِدَّةِ هوله القلوبُ والأبصارُ فيه مضطربةٌ قِلِقَةٌ متقلبة.
قلت: ومن الكلم الفارقية: سعادة القلبِ إقباله على مُقَلِّبِهِ والعالِم بحال مَآله ومُنْقَلَبهِ، القلوبُ بحارٌ جواهرُها المعارفُ، وسواحلها الألسنة وغواصها الفكرة النافذة، غَوَّاصُ بحر الصُّوَرِ يغوصُ بصورته في طلب مكسبه، والعارِفُ يغوص بمعنى قلبه في بحار غَيْبِ رَبِّهِ، فيلتقط جواهرَ الحكمة ودُرَرَ الدِّرَايَةِ قلوبُ العارفين، كالبحار تنعقد في أصداف ضمائرهم جواهِرُ المعارف والأسرار، القلوب كالأراضي إلى من أسلمت إليه قلبك بذر فيه ما عنده أَمَّا مَنْ بذر نفسه ووسواسه العفن المسوس أو بذر فيه معرفته بالرب المقدس، انتهى.
قلت: فإنْ أردت سلامتك في ذلك اليوم فليكن قلبك الآن مقبلاً على طاعة مولاك؛ فإنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاَّ مَنْ أَتَى اللّه بقلب سليم.
قال الواحِدِيُّ: تتقلب فيه القلوبُ بين الطمع في النجاة والخوفِ من الهلاك، والأبصارُ تتقلَّبُ في أيِّ ناحية يؤخذ بهم أذاتَ اليمين أم ذاتَ الشمال، ومن أيِّ جهة يُؤتون كتبَهم، انتهى.

.تفسير الآيات (38- 40):

{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}
وقوله سبحانه: {لِيَجْزِيَهُمُ} أي فعلوا ذلك ليجزيهم {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي: ثواب أحسن ما عملوا، ولمَّا ذكر تعالى حالة المؤمنين وتنويره قلوبَهم عَقَّبَ ذلك بذكر الكَفَرَةِ وأعمالهم، فقال: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وهي جمع قاعٍ، والقاع: المنخفض البساط من الأرض، ويريد ب {جَآءَهُ}: جاء موضعه الذي تَخَيَّلَهُ فيه، ويحتمل أنْ يعودَ الضمير في: {جَآءَهُ} على السراب ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يَدُلُّ عليه الظاهر تقديره: فكذلك الكافر يومَ القيامة، يَظُنُّ عملَه نافعاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
وقوله: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي بالمجازات الضمير في {عِندَهُ} عائد على العَمَلِ، وباقي الآية وعبدٌ بَيِّنٌ.
وقوله تعالى: {أَوْ كظلمات} عطف على قوله: {كَسَرَابٍ} وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي أَنَّهم من الضلال في مثل هذه الظلمات المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بَعْضُ الناس إلى أَنَّ في هذا المثالَ أجزاءً تقابل أجزاءً من المُمَثَّلِ به فقال: الظلمات: الأعمال الفاسدة والمُعْتَقَدَاتُ الباطلة، والبحر اللُّجِّيُّ: صَدْرُ الكافر وقلبه، واللجي معناه: ذو اللجة وهي مُعْظَمُ الماء وغَمْرُه، واجتماع ما به أَشَدُّ لظلمته، والموج: هو الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبَه، والسحاب هو شهوتُه في الكفر وإعراضه عن الإيمان.
قال * ع *: وهذا التأويل سائغ أَلاَّ يُقَدَّرُ هذا التقابل سائغ.
وقوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يراها} لفظ يقتضي مبالغةَ الظلمة، واخْتُلِفَ في هذه اللفظة، هل معناها أَنَّهُ لم يريده البتَّة؟ أو المعنى أَنَّه رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ وكاد أَلاَّ يراها، ووجه ذلك أَنَّ كاد إذا صَحِبَهَا حرف النفي، وَجبَ الفعل الذي بعدها، وإذا لم يصحبها انتفى الفعل، وكاد معناها: قارب.
وقوله تعالى: {وَمَن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} قالت فرقة: يريد في الدنيا، أي: مَنْ لم يهده اللّه لم يَهْتَدِ، وقالت فرقة: أراد في الآخرة، أي: مَنْ لم يرحمه اللّه ويُنَوِّرُ حاله بالمغفرة والرحمة فلا رحمة له.
قال * ع *: والأَوَّلُ أبينُ وأليق بلفظ الآية، وأيضاً فذلك متلازم، ونور الآخرة إنَّمَا هو لمن نُوِّرَ قلبه في الدنيا.

.تفسير الآيات (41- 44):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن في السماوات والأرض...} الآية: الرؤية هنا قلبية، والتسبيح: التنزيه والتعظيم، والآية عامَّةٌ عند المفسرين لكُلِّ شيء من العقلاء والجمادات.
وقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} قال الزَّجَّاجُ وغيره: المعنى: كُلٌّ قد علم اللّهُ صَلاَتَهُ وتسْبِيحَهُ.
وقال الحسن: المعنى: كُلٌّ قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه.
وقالت فرقة: المعنى: كل قد علم صلاةَ اللّهِ وتسبيحَ اللّهِ اللَّذَيْنِ أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خَلْقٍ إلى خالقٍ، وباقي الآية وعيد، و{يُزْجِي} معناه: يسوق، والرُّكام، الذي يركب بَعْضُه بعضاً ويتكاثف، والودق: المطر، قال البخارِيُّ: {مِن خلاله} أي: من بين أضعاف السحاب، انتهى.
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} قيل: ذلك حقيقةٌ، وقد جعل اللّه في السماء جبالاً من بَرَدٍ، وقالت فرقة: ذلك مجازٌ، وإنَّما أراد وصف كثرته، وهذا كما تقول: عند فلان جبال من مال وجبال من العلم.
قلت: وحَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى إنْ لم يمنع من ذلك مانع، ومن كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي أبي علي التنوخي، أحد الرواة عن أبي الحسن الدَّارَقُطْنِيِّ والمُخْتَصِّينَ به قال: أخبرنا أَبو بكر الصوليُّ عن بعض العلماء قال: رأيتُ امرأةً بالبادية، وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعِها، فجاء الناس: يُعَزُّنَها فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: اللهم أنتَ المَأْمُولُ لأَحْسَنِ الخَلَفِ وبيدك التعويضُ مِمَّا تَلِفَ، فافعل بنا ما أَنْتَ أهله، فإنَّ أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك، قال: فلم أبرحْ حتى مَرَّ رجل من الأَجِلاَّءِ، فحُدِّث بما كان؛ فَوَهَبَ لها خَمْسِمائَةٍ دينارٍ، فأجاب اللّه دعوتها وَفَرَّجَ في الحين كربتها، انتهى. وال {سنا} مقصوراً: الضوءُ، وبالمد: المَجْدُ، والباء في قوله {بالأبصار} يحتمل أنْ تكون زائدة.