فصل: تفسير الآيات (146- 147):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (146- 147):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
وقوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ...} الآية: الضمير في يعرفونه عائدٌ على الحق في القبلة، والتحوُّل إلى الكعبة، قال ابن عبَّاس وغيره، وقال مجاهدٌ وغيره: هو عائدٌ على محمَّد صلى الله عليه وسلم، أي: يعرفون صدْقَه ونبوَّته.
* ت *: بل وصفاتِهِ.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق}: الفريقُ: الجماعةُ، وخص، لأن منهم من أسلم ولم يكتم والإشارة بالحق إلى ما تقدَّم على الخلاف في ضمير {يَعْرِفُونَهُ} {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ظاهرٌ في صحَّة الكفر عناداً.
وقوله تعالى: {الحق مِن رَّبِّكَ}، أي: هو الحق، {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين}: الخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ أمَّته، وامترى في الشيء، إِذا شك فيه؛ ومنه: المراءُ، لأن هذا يشك في قول هذا.

.تفسير الآيات (148- 151):

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ}: الوجهةُ: من المواجهة؛ كالقبلة، والمعنى: ولكلِّ صاحبِ ملَّة وجهةٌ هو مولِّيها نفْسَه، قاله ابن عَبَّاس وغيره.
وقرأ ابن عامر: {هُوَ مَولاَّهَا}، أيْ: اللَّه مُوَلِّيها إياهم، ثم أمر تعالى عباده باستباق الخَيْرات، والبدارِ، إلى سبيل النجاة، وروى ابن المُبَارك في رقائقه بسنده؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الخَيْرِ فَلْيَنْتَهُزْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي، متى يُغْلَقُ عَنْهُ» انتهى.
ثم وعظهم سبحانه بذكْر الحشر موعظةً تتضمَّن وعيداً وتحذيراً.
* ص *: {أينما} ظرفٌ مضمَّن معنى الشرط في موضعِ خَبَرِ كان. انتهى.
وقوله: {يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا} يعني به البعْثَ من القبور.
وقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} معناه: حيثُ كنْتَ، وأَنى توجَّهْتَ من مشارقِ الأرض، ومغاربِها، وكرَّرت هذه الآية؛ تأكيداً من اللَّه سبحانه؛ لأن موقع التحويلِ كان صَعْباً في نفوسهم جدًّا، فأكَّد الأمر؛ ليرى الناسُ التهمُّم به، فيخفَّ عليهم وتسكُنَ نفوسُهم إليه.
وقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ...} الآية: المعنى: عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لذلك؛ لئلاَّ يكون للناسِ عليكم حجةٌ، والمراد ب النَّاس العمومُ في اليهودِ والعربِ وغيرهم {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}، أي: من المذكورين ممَّن تكلَّم في النازلة في قولهم: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ} [البقرة: 142].
وقوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني...} الآية: فيه تحقيرٌ لشأنهم، وأمر باطراح أمرهم، ومراعاة أمره سبحانه، قال الفَخْر: وهذه الآية تدلُّ على أن الواجب علَى المَرْء في كلِّ أفعاله وتروكه؛ أن ينصب بين عينيه خشيةَ ربه تعالى، وأن يعلم أنه ليس في أيدي الخَلْقِ شيء البتَّةَ وألاَّ يكون مشتغل القَلْب بهم، ولا ملتفت الخاطر إلَيْهِم. انتهى.
قال: * ص *: {إِلاَّ الذين} استثناءٌ متَّصِلٌ، قاله ابن عباس وغيره، أي: لئلاَّ تكون حجةٌ من اليهود المعاندين القائلين ما ترك قبلتنا، وتوجَّه للكعبة إِلاَّ حبًّا لبلده، وقيل: منقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم؛ فإِنهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبَه، وزعم أبو عُبَيْدة مَعْمَرُ بْنُ المثنى: إن إِلاَّ في الآية بمعنى الواو، قال ومنه: [الوافر]:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوه ** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ

أي: والَّذين ظلموا، وَالفَرْقَدَان، ورُدَّ بأنَّ إِلاَّ بمعنى الواو ولا يقوم علَيْه دليلٌ. انتهى.
وقوله تعالى: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أمر باستقبال القبْلَة، وهو شرطٌ في الفرض إِلاَّ في القتالِ حالة الالتحامِ، وفي النوافل إِلا في السفرِ الطويلِ للرَّاكب، والقدرةُ على اليقينِ في مصادفتها تَمْنَعُ من الاِجتهادِ، وعلى الاِجتهادِ تَمْنَعُ من التقليد.
وقوله سبحانه: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} عطْفٌ على قوله: {لَئِلاَّ} وقيل: هو في موضع رفع بالاِبتداء، والخبرُ مضمرٌ، تقديره: ولأتمَّ نعمتي عليكم، عرَّفتكم قبلتي، ونحوهُ، {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ترجٍّ في حقِّ البشر، والكافُ في قوله: {كَمَا} ردٌّ على قوله: {وَلأُتِمَّ}، أي: إِتماماً كما، وهذا أحسنُ الأقوال، أي: لأتم نعمتي عليكم في بيان سُنَّة إِبراهيم عليه السلام؛ {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ} إِجابة لدعوته في قوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129].
وقيل: الكاف من {كمَا} رَدٌّ على {تَهْتَدُونَ}، أي: اهتداء كما.
قال الفَخْر: وهنا تأويلٌ ثالثٌ، وهو أن الكاف متعلِّقة بما بعدها، أي: كما أرسلنا فيكم رسولاً، وأوليتكم هذه النعم، {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي..} الآيةَ: انتهى.
* ت *: وهذا التأويل نقله الدَّاوُودِيُّ عن الفراء. انتهى، وهذه الآيةُ خطابٌ لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم و{ءاياتنا} يعني: القُرآن، و{يُزَكِّيكُمْ}، أي: يطهركم من الكفر، وينمِّيكم بالطاعة، و{الكتاب}: القُرآن، و{الحكمة}: ما يتلقى عنه صلى الله عليه وسلم من سنَّةٍ، وفقْهٍ، ودينٍ، وما لم تكونوا تعلمون قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب.

.تفسير الآيات (152- 153):

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
قوله تعالى: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ...} الآية: قال سعيد بن جُبَيْر: معنى الآية: اذكروني بالطاعةِ، أذكركم بالثواب.
* ت *: وفي تفسير أحمد بن نصر الداووديِّ: وعن ابن جُبَيْر: اذكروني بطاعتِي، أذكرْكُمْ بمغفرتي، وروي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، فَقَدْ ذَكَر اللَّهَ، وإِنْ قلَّت صلاته، وصيامه، وتلاوته القُرآن، ومن عَصَى اللَّه، فقد نَسِيَ اللَّه، وإِن كَثُرَتْ صلاته، وصيامه، وتلاوته القُرآن» انتهى.
وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن أنس بن مالك، قال: «مَا مِنْ بُقْعَةٍ يُذْكَرُ اللَّهُ عَلَيْهَا بصَلاةٍ أو بذكْرٍ إِلاَّ افتخرت على ما حَوْلَهَا من البِقَاعِ، واستبشَرَتْ بذكْر اللَّه إِلى منتهاها منْ سبعِ أرَضِينَ، وما مِنْ عَبْدٍ يقومُ يصلِّي إِلا تزخرفَتْ له الأرض» قال ابنُ المُبَارك: وأخبرنا المسعوديُّ عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: الذاكِرُ في الغافِلِينَ؛ كالمقاتل خَلْف الفارِّين. انتهى.
وقال الربيعُ والسِّدّي: المعنى: اذكروني بالدعاءِ والتسبيحِ ونحوه، وفي صحيح البخاريِّ ومسلمٍ وغيرهما عن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه-، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإِ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلإِ خَيْرٍ مِنْهُمْ...»الحديثَ. انتهى.
{واشكروا لِي}، أي: نعمي وأيادِيَّ، {وَلاَ تَكْفُرُونِ}: أي: نعمي وأياديَّ.
* ت *: وعن جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ على عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ وَقَدْ أدى شُكْرَهَا، فَإِنْ قالها الثانيةَ، جدَّد اللَّهُ لها ثوابَهَا، فَإن قالها الثالثةَ، غفر اللَّه له ذُنوبَه» رواه الحاكمُ في المستَدْرَكِ، وقال: صحيح. انتهى من السِّلاح.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين}، أي: بمعونته وإِنجاده.

.تفسير الآيات (154- 157):

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ في سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ...} الآية: سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأُحُدٍ من المؤمنين: مَاتَ فلانٌ، ماتَ فلانٌ، فكره اللَّه سبحانه؛ أن تُحَطَّ منزلةُ الشهداءِ إِلى منزلة غيرهم، فنزلَتْ هذه الآية، وأيضاً: فإِن المؤمنين صَعْبٌ عليهم فراقُ إِخوانهم وقراباتِهِمْ، فنزلَتِ الآيةُ مسلِّية لهم، تعظِّم منزلة الشهداءِ، وتخبر عن حقيقةِ حالِهِمْ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم؛ ويظهر ذلك من حديث أُمِّ حارثَةَ في السِّيَرِ.
* ت *: وخرَّجه البخاريُّ في صحيحه عن أنسٍ، قال: أُصِيبَ حارثةُ يوم بَدْر أصابه غَرْبُ سَهْمٍ، وهو غلامٌ، فجاءَتْ أُمُّهُ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَتْ: يا رسُولَ اللَّهِ، قد عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ، وَأَحْتَسِب، وَإِن تَكُن الأخرى، ترى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: «وَيْحَكِ، أَوَ هُبِلْتِ، أَو جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هَيَ؛ إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى»... الحديثَ. انتهى.
* ع: والفرق بين الشهيدِ وغيرهِ إِنما هو الرِّزْقُ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى فضَّلهم بدوام حالِهِمُ التي كانَتْ في الدنيا فرزَقهُم.
* ت *: وللشهيدِ أحوالٌ شريفةٌ منها ما خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ؛ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، ويرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ الْعِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقْرِبَائِهِ» قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ، زاد ابن ماجَة: «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ»، قال القرطبيُّ في تذكرته: هكذا وقع في نسخ الترمذيِّ وابن ماجة: ستَّ خِصَالٍ وهي في متن الحديث سَبْعٌ، وعلى ما في ابن ماجة: ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ تكون ثمانياً، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سَلْمَان النَّجَّاد بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ ثَمَانِ خِصَالٍ» انتهى. وخرَّج الترمذيُّ، والنسائِيُّ عنْه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ» انتهى.
* ع *: روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ»، وروي: «أَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ»، ورويَ: «أنهم في قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ»، إِلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوالٌ لِطَوَائِفَ، أو للجميع في أوقات متغايرة.
* ت *: وكذا ذكر شَبِيبُ بن إِبراهيم في كتاب الإِفصاح أنَّ المنعَّمين على جهاتٍ مختلفةٍ؛ بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم، قال صاحب التذكرة: وهذا قول حَسَنٌ، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع.
انتهى.
قال * ع *: وجمهور العلماء على أنهم في الجَنَّة؛ ويؤيِّده قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ حَارِثَةَ: «إِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى».
وقال مجاهد: هم خارجُ الجَنَّةِ ويعلَّقون من شجرِهَا، وفي مختصر الطبريِّ، قال: ونهى عزَّ وجَلَّ أنْ يقال لِمَنْ يقتلُ في سبيلِ اللَّهِ أمْوَاتٌ، وأعْلَمَ سبحانه أنهم أحياءٌ، ولكنْ لا شعورَ لَنَا بذلك؛ إذ لا نُشَاهِدُ باطنَ أمرهم، وخُصُّوا مِنْ بين سائر المُؤمنين، بأنهم في البَرْزَخِ يرزَقُون من مطاعِم الجَنَّة ما يُرْزَقُ المؤمنون من أهْل الجنة على أنه قد ورد في الحديثِ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ»، ومعنى: يُعَلَّق: يأكل؛ ومنه قوله: ما ذقْتُ عَلاقاً، أي: مأكلاً، فقد عم المؤمنين؛ بأنهم يرزقُونَ في البرزخ من رزق الجنة، ولكن لا يمتنعُ أن يخصَّ الشهداء من ذلك بقَدْر لا يناله غيرهم، واللَّه أعلم. انتهى.
وروى النسائيُّ أن رجلاً قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ المُؤْمِنِينَ يُفْتَنُون فِي قُبُورِهِمُ إِلاَّ الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كفى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ على رَأْسِهِ فِتْنَةً» انتهى.
* ت *: وحديثُ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ» خرَّجه مالك رحمه اللَّه. قال الدَّاووديُّ: وحديث مالكٍ، هذا أصحُّ ما جاء في الأرواح، والذي روي أنها تجعل في حواصِلِ طيرٍ لا يصحُّ في النقل. انتهى.
قال أبو عُمَرَ بْنُ عبْدِ البَرِّ في التمهيد: والأشبه قولُ من قال: كَطَيْرٍ أو كصُوَرِ طيرٍ؛ لموافقته لحديثِ الموطَّإ، هذا وأسند أبو عمر هذه الأحاديثَ، ولم يذكر مطعناً في إسنادها. انتهى.
ثم أعلمهم تعالى أن الدنيا دارُ بلاءٍ ومحنةٍ، ثم وعد على الصَّبْر، فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} أي: نمتحنكم {بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف}، أي: من الأعداء في الحروبِ، {وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال} أي بالجوانحِ، والمصائبِ، {والأنفس} بالموت، والقَتْل، {والثمرات} بالعَاهَاتِ، والمرادُ بشيءٍ من هذا وشيءٍ من هذا، واكتفى بالأول إِيجازاً، ثم وصف سبحانه الصابرين الَّذين بشَّرهم بقوله: {الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون}، فجعل سبحانه هذه الكلماتِ ملجأً لذوي المصائبِ؛ لما جمعتْ من المعاني المباركةِ من توحِيدِ اللَّهِ سبحانه، والإِقرار له بالعبودية، والبعثِ من القبورِ، واليقينِ بأنَّ رجوع الأمر كلِّه إِليه؛ كما هو له، قال الفَخْرُ: قال أبو بَكْرٍ الوَرَّاق: {إِنَّا لِلَّهِ}: إقرارٌ منَّا له بالمُلْكِ، {وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} إِقرارٌ على أنفسنا بالهلاكِ.
واعلم أن قوله: {إِنَّا لِلَّهِ} يدلُّ على كونه راضيًا بكلِّ ما نَزَلَ به، ووردَتْ أخبارٌ كثيرةٌ في هذا البابِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فمنِ استرجع عند المصيبة، جَبَر اللَّه مصيبته، وأحْسَنَ عقباه، وجعل له خَلَفاً صالحاً يرضَاهُ.
انتهى.
ورُوِيَ: أنَّ مَصْبَاحَ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم انطفأ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون»، فَقِيلَ: أَمُصِيبَةٌ هِيَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ؛ كُلُّ مَا آذَى المُؤْمِنَ، فَهُوَ مُصِيبَةٌ» قال النوويُّ: ورُوِّينَا في كتاب ابن السُّنِّيِّ عن أبي هريرة، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ليسترجعْ أحدُكُمْ في كلِّ شيء، حتى في شِسْعِ نَعْلِه؛ فَإِنها من المصائِبِ» انتهى من الْحِلْيَةِ.
وقوله تعالى: {أولئك عَلَيْهِمْ صلوات مِّن رَّبِّهِمْ...} الآية: نِعَمٌ من اللَّه تعالى على الصابرين المسترجعين، وصلوات اللَّه على عبده: عفْوُهُ، ورحمتُه، وبركته، وتشريفه إِياه في الدنيا والآخرة، وكرَّر الرحْمَة، وهي من أعظم أجزاء الصلاة، لمَّا اختلف اللَّفْظ؛ تأكيداً منه تعالى وشهد لهم بإلهتداء.
* ت *: وفي صحيح البخاري: وقال عُمَرُ: نِعْمَ العدلان، ونَعْمُ العِلاَوة الَّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ، قالوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون...} إلى {المهتدون}، قال النوويُّ في الحلية: ورُوِّينا في سنن ابن ماجة، والبيهقيِّ بإِسناد حَسَنٍ عن عمرِو بْنِ حَزْمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلاَّ كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الكَرَامَةِ يَوْم القِيَامَةِ»، ورُوِّينا في كتاب الترمذيِّ، والسنن الكَبيِرِ للبيهقيِّ عن ابْنِ مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ عزى مُصَابًا، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» إِسناده ضعيف، ورُوِّينا في كتاب الترمذيِّ أيضاً عن أبي هريرة؛ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ عزى ثكلى، كُسِيَ بِرِدَاءٍ فِي الجَنَّةِ» قال الترمذيُّ ليس إِسناده بالقَوِيِّ. انتهى.