فصل: تفسير الآيات (212- 217):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (212- 217):

{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)}
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} أي: لأَنَّ السماء محروسة بالشُّهُبِ الجارية إثرَ الشياطين، ثم وَصَّى تعالى نبيه بالثبوت على التوحيد والمراد: أُمَّتُهُ فقال: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ...} الآية.
وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين...} الآية: وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآيةُ خرج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حتى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ: «يَا صَبَاحَاهُ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِباً، قَالَ: فَإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» الحديث، وَخَصَّ بإنذاره عشيرته؛ لأَنَّهم مَظَنَّةَ الطواعية، وإذ يمكنه من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم، ولأَنَّ الإنسان غير مُتَّهَمٍ على عشيرته، والعشيرة: قرابة الرجل، وخفض الجناح: استعارة معناه: لِينُ الكلمة، وبسط الوجه، والبِرُّ، والضمير في {عَصَوْكَ} عائد على عشيرته، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالتوكل عليه في كل أموره، ثم جاء بالصفات التي تؤنس المتوكل وهي العزة والرحمة.

.تفسير الآيات (218- 220):

{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)}
وقوله: {الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} يراك عبارة عن الإدراك، وظاهر الآية أَنَّه أراد قيام الصلاة، ويحتمل سائر التصرفات؛ وهو تأويلُ مجاهدٍ وقتادة.
وقوله سبحانه: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} قال ابن عباس وغيره: يريد أهل الصلاة، أي: صلاتك مع المُصَلِّين.

.تفسير الآيات (221- 226):

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)}
وقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أي: قل لهم يا محمد: هل أخبركم {على مَن تَنَزَّلُ الشياطين}؟ والأَفَّاكُ: الكَذَّابُ، والأثيم: الكثير الإِثم، ويريد الكهنة؛ لأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الكَلِمَةَ الوَاحِدَةَ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ، حَسْبَمَا جاء في الحديثِ، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع، والضمير في {يُلْقُونَ} يحتمل أنْ يكون للشياطين، ويحتمل أنْ يكون للكهنة، ولما ذكر الكهنة بإفكهم وحالهم التي تقتضي نفي كلامهم عن كلام الله تعالى عقب ذلك بذكر الشعراء وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن إذ قال بعض الكفرة في القرآن أنه شعر والمراد شعراء الجاهلية ويدخل في الآية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور.
وقوله: {الغاوون}. قال ابن عباس: هم المستحسنون لأشعارهم المصاحبون لهم.
وقال عِكْرَمةُ: هم الرَّعَاعُ الذين يتبعون الشاعر ويغتنمون إنشاده.
وقوله: في كل واد يهيمون، عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله، قاله ابن عباس وغيره، ورى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال «مَنْ مَشَى سَبْعَ خُطْوَاتٍ في شِعْرٍ كُتِبَ مِنَ الغاوِينَ» ذكره أسدُ بنَ مُوسَى وذكره النقاش.

.تفسير الآية رقم (227):

{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}
وقوله تعالى {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات...} الآية: هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام كحَسَّان بن ثابت وكَعْبِ بن مالك وعبد الله بن رَوَاحَةَ وكُلِّ مَنِ اتصف بهذه الصفة ويُرْوَى عن عطاءِ بن يَسَارٍ وغيرِهِ أَنَّ هؤلاءِ شَقَّ عليهم ما ذُكِرَ قَبْلُ في الشعراء فذكروا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فنزلت آيةُ الاستثناء بالمدينة.
وقوله تعالى {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} يحتملُ أنْ يريد في أشعارهم وهو تأويل ابن زيد ويحتمل أنَّ ذلك خُلُقٌ لهم وعبادة؛ قاله ابن عباس فكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدَحُ عن غير حَقٍّ فهو داخل في هذه الآية وكل تقيٍّ منهم يُكْثِرُ من الزُّهْدِ ويمسك عن كل ما يُعَابُ فهو داخل في الاستثناء.
* ت * قد كتبنا- والحمد للَّه- في هذا المختصر جملةً صالحة في فضل الأذكار عسى اللَّه أنْ ينفع به من وقع بيده ففي جامع الترمذي عن أبي سعيد الخُدْريِّ، قال سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العِبَاد أَفْضَل دَرَجَة عِنْدَ اللَّهِ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَال: «الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً قُلْتُ: وَمِنَ الْغَازي فِي سَبِيلِ اللَّه عزَّ وجَلَّ؟! قَالَ: لَوْ ضَرَبَ بسَيْفِهِ الكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَماً- لكانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ تَعَالى أَفْضَلَ مِنْهُ» وروى الترمذيُّ وابن ماجه عن أبي الدَّرْدَاءِ قال: قالَ رَسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِن إنْفَاقِ الذَّهَبِ والوَرَقِ؛ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تُلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بلى، قَالَ: ذِكْرُ اللّهِ تعالى» قَالَ الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ في كِتَابِهِ المستَدرَكُ على الصَّحِيحَيْنِ: هذا حدِيثٌ صحيحُ الإسْنادِ، انتهى من حليةِ النَّوَوِيَّ. وقوله: {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} إشارةٌ إلى مَا رَدَّ به حَسَّانُ وَعَلِيٌّ وغيرهُما على قريش.
قلت: قيل: وَأَنْصَفُ بَيتٍ قَالَتْهُ العَرَبُ: قَوْلُ حَسَّانٍ لأَبي سُفْيَانَ أَو لأَبِي جَهْلٍ: [الوافر]
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ** فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ

وَبَاقِي الآيةِ وَعِيدٌ لظلمةِ كُفَّارِ مَكَّةَ وتهديدٌ لَهُمْ.

.تفسير سورة النمل:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)}
قَولُه تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} تقدَّمَ القولُ في الحروفِ المقطَّعةِ، وعَطفِ الكِتَابِ على القرآنِ وهما لمُسَمًّى واحدٍ؛ من حَيْثُ هُما صِفَتَانِ لمعنَيينِ، فالقُرْءَان: لأنه اجتمَعَ، والكتابُ: لأنه يُكْتَبُ، وإقامةُ الصَّلاَةِ: إدامتُها وأداؤُهَا عَلى وَجْهِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {زينَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} أي: جَعَلَ سُبْحَانَه عقابَهم على كُفرِهم أَن حَتَّمَ عَليهم الكُفْرَ، وحَبَّبَ إليهم الشِّركَ وزَيَّنه في نُفُوسِهِم. والعَمَهُ: الحيرةُ والتردُّدُ في الضَّلالِ. ثم تَوَعَّدَهُمْ تَعَالى بسُوءِ العذَابِ؛ فَمَنْ نَالَهُ مِنهُ شيءٌ في الدُّنْيَا بَقِيَ عليه عَذابُ الآخرةِ، وَمَنْ لَمْ يَنَلْه عَذَابُ الدُّنْيَا كَانَ سُوء عَذابِه في مَوْتِه وفي ما بَعْدَه.

.تفسير الآيات (6- 9):

{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان} تُلَقَّى: مضاعفُ لَقِيَ يَلْقَى، ومعناه تُعْطَى، كما قَال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
وهذه الآيةُ ردٌّ على كُفَّارِ قُرَيْشٍ في قَوْلهم: إنَّ القُرْآن مِن تلقاءِ مُحَمَّدٍ؛ و{مِن لَّدُنْ} معناه: مِن عِنْدِهِ؛ وَمِنْ جِهَتِهِ. ثم قَصَّ تعالى خَبرَ موسى؛ حين خَرَجَ بزوجِه؛ بنت شُعيب عَليهِ السَّلاَمُ يُرِيدُ مصرَ، وقد تقدَّم في طه قصصُ الآيةِ.
وقوله: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ...} الآية، أصلُ الشِّهَاب: الكوكبُ المنقضُّ فأثر مسترقِ السمعِ؛ وكل ما يُقال له شهابٌ من المنيرات؛ فعلى التَّشْبِيهِ، والقبسُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يكون اسماً، ويُحْتملُ أن يكونَ صفةً. وقرأ الجمهورُ بإضافة شِهَابٍ إلى قَبَسٍ، وقرأ حَمزَةُ والكِسائِيُّ وعاصمُ بتنوينِ {شِهَابٍ قَبَسٍ}: فَهَذَا على الصِّفَةِ.
* ص *: وقوله: {جَاءَهَا} ضميرُ المفعولِ، عائدٌ على النَّارِ، وقيل على الشَّجَرَةِ، انتهى. و{بُورِكَ} معناه: قُدِّسَ ونُمِيَ خَيْرُه، والبركة، مختصَّة بالخير.
وقولهِ تعالى: {مَن فِي النار} قال ابنُ عباس: أرادَ النُّورَ، وقال الحسنُ وابنُ عباس: وأراد ب {مَنْ حَولَهَا} الملائكةٍ وموسى.
قال * ع *: ويُحتمَلُ أن تكونَ {مَنْ} للملائكةِ؛ لأن ذلكَ النورَ الذي حَسِبَه موسى ناراً؛ لم يخْلُ من ملائكة، {وَمَنْ حَوْلَهَا} لموسَى والمَلائِكَةِ المُطِيفينَ بهِ.
وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب {أن بُوركَتِ النَّارُ وَمَنْ حَولَها}.
وقوله تعالى: {وسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العالمين}، هو تنزيهٌ للَّه تعالى مما عَسَاهُ أن يَخْطُرَ ببالٍ؛ وفي معنى النِّداءِ من الشَّجَرَةِ، أي: هو منزَّه عن جَميعِ ما تَتَوَّهَمهُ الأَوهَامُ؛ وعنِ التَّشبيهِ والتَّكْيِيفِ، والضميرُ في {إِنَّهُ} للأمرِ والشأنِ.

.تفسير الآيات (10- 14):

{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}
وقوله سبحانه: {وَأَلْقِ عَصَاكَ...} الآية، أمره تعالى بهذَينِ الأمرين إلقاءِ العصا، وأمرِ اليَدِ تَدريباً له في استعمالِهمَا، والجان: الحياتُ؛ لأنها تَجِنُّ أنفُسُهَا؛ أي: تَسْتُرُهَا. وقالت فرقةٌ: الجانُّ: صِغَارُ الحَيَّاتِ.
وقوله تعالى: {ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ}، أي: ولَّى فَارّاً. قال مُجاهدٌ: ولم يرجعْ، وقال قَتَادَةُ: ولم يَلْتَفِتْ.
قال * ع *: وعَقَّبَ الرجلُ إذا ولَّى عَنْ أمر؛ ثم صرف بدَنه أو وَجْهِه إليه. ثم ناداه سُبحانه مُؤْنِساً له: {ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}.
وقولُهُ تعالى: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ} قال الفرَّاءُ؛ وَجَمَاعَةٌ: الاستثْنَاءُ منقطعٌ، وهو إخبارٌ عن غَيرِ الأنبياء، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قال: لكنْ من ظَلَمَ من النَّاسِ ثُمَّ تَابَ؛ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، وهذهِ الآيةُ تَقْتَضِي المغفرَةَ للتَّائِبِ، والجَيْبُ الفَتْخْ في الأوبِ لرأْسِ الإنسان.
وقولُهُ تعالى: {فِي تِسْعِ ءايات} مُتَّصِلٌ بقوله: {أَلقِ}، {وأَدخِلْ يَدَكَ} وفيه اقتضَابٌ وحذفٌ، والمعنى في جُملةِ تسعِ، آياتٍ، وقد تَقَدَّمَ بَيَانُها، والضميرُ في {جَاءَتْهُم} لفِرْعَوْنَ وقومِه، وظاهِرُ قَولِهِ تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها} حُصُولُ الكفْرِ عِنَاداً؛ وهي مَسْأَلَةُ خلافٍ؛ قد تَقَدَّمَ بيانُها و{ظُلْماً} معناهُ: على غيرِ استحقَاقٍ للجُحْدِ، والعُلُوُّ في الأرضِ أعظمُ آفةٍ على طَالبهِ، قال اللّه تعالى: {تِلْكَ الدار الأخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} [القصص: 83].

.تفسير الآيات (15- 18):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وسليمان عِلْماً...} الآية، هذا ابتداءُ قصَصٍ فيه غيُوبٌ وعَبَرٌ.
{وَوَرِثَ سليمان دَاوُدَ}، أي: ورثَ مُلكَه وَمنزِلَتَهُ من النبوَّة؛ بعدَ موتِ أبيهِ، وقوله: {عُلِّمنَا مَنْطِقَ الطَّيرِ} إخارٌ بنعمةِ اللّه تعالى عندهما؛ في اَّنَّ فَهَّمهُمَا مِنْ أصواتِ الطير المعانيَ التي في نفوسِها، وهذا نحو ما كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْحِجَارَةِ بالسَّلاَمِ عَلَيْهِ؛ وغير ذلك حسب ما هو في الآثار.
قال قَتَادَةُ وغيره: إنَّمَا كان هذا الأمرُ في الطيرِ خاصةً، والنملةُ طائِرٌ؛ إذ قد يوجَدُ لَهَا جَنَاحَان.
وقالت فُرقَةٌ: بل كَانَ ذَلِكَ في جَمِيعِ الحيَوانِ؛ وإنما خَصِ الطيرَ؛ لأْنَّه كان جُنداً من جنودِ سليمان؛ يحتاجُهُ في التَّظلِيلِ من الشَّمس؛ وفي البَعْثِ في الأمور. والنَّمْلُ حيوانُ فَطِنٌ قويٌّ شَمَّامٌ جِدّاً؛ يدَّخِرُ ويتخذُ القرى وَيَشُقُّ الحَبَّ بقطعتينِ لِئَلاَّ يُنْبِتَ، ويشُقَّ الكزبرةَ بأربعِ قطعٍ؛ لأَنها تُنْبِت إذاً قُسِّمَتْ شقينِ، ويأكلُ في عامِهِ نصفَ مَا جمعَ، ويَسْتَقِي سائِرَهُ عُدَّةً. قال ابن العربي في أحكامه: ولا خلافَ عندَ العُلَمَاءِ في أَنَّ الحيواناتِ كلَّها لَهَا أفهامٌ وعقولٌ، وقد قال الشافعيُّ: الحمَامُ أعقلُ الطَّيرِ، انتهى.
وقوله: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} معناه: يَصْلُحُ لنا ونَتَمَنَّاهُ؛ ولَيستْ على العموم. ثُمَّ ذَكَرَ شُكْرَ فَضلِ اللّه تعالى، واخْتُلِفَ في مقدار جُنْدِ سُليمانَ عليه السلام اختلافاً شديداً؛ لا أرَى ذكرَه؛ لعَدَمِ صحةِ التَّحدِيدِ، غيرَ أنَّ الصَّحِيحَ في هذا أنَّ مُلكَه كَانَ عَظيماً مَلأَ الأَرْضَ، وانقادت له المعمُورةُ كُلُّها، وَكَانَ كُرسيُّه يَحملُ أجْنَادَه من الأنسِ والجنِّ، وكانتِ الطيرُ تُظِلُّه منَ الشَّمسِ، ويبعَثُها في الأمور، و{يُوْزَعُونَ} مَعناهُ: يَرُدُّ أولهُم إلى آخرهم، ويكُفُّونَ، قال قَتَادَةُ: فكأنَّ لِكُلِّ صَنْفٍ وَزْعَةً، ومنه قَوْلُ الحسنِ البصريِّ حين وَلِيَ قضَاءَ البَصْرَةِ: لابد للحَاكِم من وَزْعَةً، ومنه قَوْلُ أبي قُحَافَةَ للجاريةِ: ذلك يا بُنَيَّةُ الوازِع؛ ومنه قولُ الشاعر: [الطويل]
على حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ** فَقُلْتُ: أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ

أي: كافٌّ، وهَكَذا نقل ابنُ العربيِّ عن مَالكٍ؛ فقال: {يُوزَعُونَ} أي: يُكَفَّونَ.
قال ابن العربي: وقد يكُونُ بمعنى يُلهَمُونَ؛ من قوله {أَوْزِعْنِي أن أَشكُرَ نعمَتَكَ} أي: ألْهِمني، انتهى من الإِحكام.

.تفسير الآيات (19- 24):

{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)}
وقولُه تَعَالَى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّنْ قَولِهَا} التبسمُ هو ضِحْكُ الأنبيَاءِ في غالِبِ أمْرهم؛ لا يَليقُ بهم سِوَاهُ، وكان تَبَسُّمُه سروراً بنعمَةِ اللّه تَعالى عَلَيهِ في إسماعِهِ وتفهيمهِ. وفي قول النملة: {وهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ثناءٌ على سليمانَ وجنودِه يتضمنُ تنزيهِهم عن تعمدِ القبيحِ. ثم دعا سليمانُ عليه السلام ربَّه أنْ يُعينَه ويُفَرِّغَهُ لشُكرِ نعمتهِ، وهذا معنى إيزاعِ الشُّكرِ، وقال الثعلبيُّ وغيرَه: {أوزِعْنِي} معناه: ألهِمْنِي، وكذلك قال العِرَاقِيَّ: {أَوزِعْنِي} ألهِمْني، انتهى.
وقوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطير...} الآية، قالت فرقةٌ: ذلك بحسْبِ ما تقتَضِيه العنايةُ بالمَمْلَكَةِ والتَّهمُّمِ بكل جُزْءٍ منها، وهذا ظاهر الآيةِ أنَّه تَفَقَّدَ جميعَ الطيرِ، وقالت فِرقةٌ: بل تَفَقَّدَ الطيرَ؛ لأَنَّ الشَّمْسَ دَخَلَتْ مِنْ مَوضِعِ الهُدْهُدِ؛ فكان ذلك سببَ تفقدِ الطيرِ؛ ليَبِينَ مِنْ أين دَخَلَتِ الشمسُ، وقال عبدُ اللّهِ بن سلاَم: إنما طلبَ الهدهدَ؛ لأنه احتاجَ إلى معرفةِ الماءِ؛ على كَم هو مِنْ وَجهِ الأرضِ؛ لأنه كانَ نَزَلَ في مفازةٍ عَدِمَ فيها الماءَ، وأن الهُدْهُدَ كان يَرَى بَاطِنَ الأرضِ وظاهرَها؛ فكان يخبرُ سليمانَ بموضع الماءِ، ثم كانتِ الجنُّ تُخْرجُه في ساعةٍ، وقيل غير هذا؛ واللّه أعلم بما صح من ذلك. ثم توعد عليه السلام الهدهدَ بالعذابِ، فروي عن ابن عباس وغيره: أن تعذيبَه للطير كانَ بنتفِ ريشِه. والسلطانُ: الحجةُ؛ حيث وقع في القرآن العظيم؛ قاله ابن عباس. وفعلَ سليمانُ هذا بالهدهدِ إغلاظاً على العاصينَ؛ وعِقَاباً على إخلاله بنبوته ورتبته، والضميرُ في {مكث} يحتملُ أن يكونَ لسليمانَ أو للهدهدِ، وفي قراءة ابن مسعود {فتمكث ثم جاء فقال} وفي قراءة أُبَيِّ {فتمكث ثم قال أحطت}.
* ت *: وهاتان القراءتان تُبَيِّنَانِ أن الضميرَ في مكث للهدهدِ؛ وهو الظاهرُ أيضاً في قراءة الجماعة، ومعنى {مكثَ}: أقامَ.
وقوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} يعني: في الزمن.
وقوله: {أَحَطتُ} أي: عَلِمْتُ.
وقرأ الجمهورُ {سبأٍ} بالصرف على أنه اسمُ رجلٍ؛ وبه جاء الحديثِ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث فروةَ بن مسيك وغيره، سُئِلَ عليه السلامُ عَنْ سَبَإٍ فَقَالَ: «كَانَ رَجُلاً لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أرْبَعَة» ورواه الترمذي من طريقِ فروة بن مُسَيْك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {سَبَأَ} بفتح الهَمْزَةِ وتَرْكِ الصَّرْف؛ على أنه اسمُ بَلْدَةِ؛ وقاله الحسن وقتادة.
وقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أي: مما تحتاجُه المملكةُ، قال الحسن: من كل أمر الدنيا، وهذه المرأةُ هي بلقيس، وَوَصَفَ عرشَها بالعِظَم في الهيئةِ ورتبةِ المُلْكِ، وأكثَرَ بَعضِ النَّاسِ في قصَصها بما رأيتُ اختصارَه؛ لعدَمِ صحَّتِه، وإنما اللازم من الآية: أنها امرأةٌ مَلِكَةٌ عَلى مدائنَ اليمن، ذاتُ مُلْكٍ عظِيم، وكانتْ كافرةً من قومٍ كفارٍ.