فصل: تفسير الآيات (62- 66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (62- 66):

{أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)}
وقوله سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ...} الآية، وعن حبيب بن مسلمة الفهري؛ وكان مجابَ الدعوة، قال: سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَجْتَمِعُ مَلأٌ فَيَدْعُوَ بَعْضُهُمْ وَيُؤَمِّنُ بَعْضُهُمْ إلاَّ أَجَابَهُمْ اللّهُ تعالى»، رواه الحاكم في المستدرك، انتهى من سلاح المؤمن، وعن أبي هريرةَ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ادْعُوا اللّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ» رواه الترمذيُّ؛ وهذا لفظه. قال صاحب السلاح: ورواه الحاكمُ في المستدرك وقال: مستقيمُ الإسناد، انتهى. و{السوء} عامٌّ في كل ضرُّ يَكْشِفُه اللّهُ تعالى عن عبادِه، قال ابن عطاء اللّه: ما طُلِبَ لَك شيءٌ مثلَ الاضْطِرَارِ، ولا أسْرَع بالمواهِب لكَ مثلَ الذِّلةِ والافتقارِ، انتهى. والظلماتُ عام؛ لظلمةِ الليل؛ ولظلمةِ الجهل والضلال، والرزقُ من السماءِ. هو بالمطر؛ ومن الأرض بالنبات؛ هذا هو مشهور ما يحُسُّه البشرُ، وكم للَّهِ بَعْدُ مِنْ لُطْفٍ خَفِي. ثم أمرَ تعالى نبيَّه عليه السلام أن يُوقِفَهُمْ عَلَى أَنَّ الغَيبَ مِما انفَرَدَ اللّه بعلمِه؛ ولذلكَ سُمِّي غَيْباً لغيبِه عن المخلوقين. رُوِيَ: أنَّ هذهِ الآيةَ مِن قوله: {قُل لاَّ يَعْلَمُ} إنما نَزَلَتْ لأَجْلِ سؤالِ الكفّارِ عن السَّاعَةِ الموعودِ بِهَا، فجاءَ بلفظ يَعُمَّ السَّاعَةَ وغيرَها، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون إيان يبعثون.
* ص *: {أَيَّانَ} اسم استفهامٍ بمعنى: متى، وهي معمولةً ل {يُبْعَثُونَ}، والجملة في موضع نصب ب {يَشْعُرُونَ}، انتهى.
وقرأ جمهور القراء: {بَلِ ادارك} أصله: تَدَارَكَ. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {بل ادرك} على وزن افتعل وهي بمعنى تَفَاعَلَ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر: {بَلْ أَدْرَكَ} وهذه القراءاتُ تحتملُ مَعْنَيَيْن: أحدهما: ادَّرَكَ علمُهم، أي: تَناهى، كما تقول ادَّركَ النباتُ، والمعنى: قد تَنَاهى علمهُم بالآخرة إلى أَن لا يعرفوا لها مقداراً، فيؤمنوا وإنما لهم ظنونٌ كاذبةٌ، أو إلى أن لا يعرفوا لها وقْتاً، والمعنى الثاني: بل ادَّرَكَ بمعنى: يُدْرِك أي أنهم في الآخرة يُدْرِكُ علمُهم وقتَ القيَامَةِ، ويرونَ العذابَ والحقائقَ التي كذَّبوا بها، وأمَّا في الدنيا؛ فلا، وهذا هو تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، فقوله {فِي الأخرة} على هذا التأويل: ظَرْفٌ؛ وعلى التأويل الأول: {فِي} بمعنى الباء. ثم وَصَفَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بأنهم في شكٍ منها، ثم أردف بصِفَةِ هي أبلغُ من الشَّكِ وهي العَمَى بالجُمْلَةِ عن أمر الآخرة، و{عَمُونَ}: أصله: عميون فَعِلُونَ كَحَذِرُون.

.تفسير الآيات (67- 82):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)}
وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا ترابا وَءَابَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين}، هذه الآية معنَاها واضحٌ مما تَقَدَّمَ في غيرها. ثم ذكر- تعالى- استعجالَ كفارِ قريشٍ أمْرَ السَّاعَةِ والعذابَ بقولِهم: {متى هذا الوعد} على معنى التَّعْجِيزِ، و{رَدِفَ} مَعْنَاه: قَرُبَ وأزِفَ؛ قاله ابن عباس وغيرُه، ولكنَّها عبارةٌ عَما يجيءُ بعدَ الشيء قريباً منه، والهاءُ في {غَائِبَة} للمبَالَغَةِ، أي مَا مِنْ شَيْءٍ في غايةِ الغَيْبِ والخفاءِ إلاَّ فِي كِتَابٍ عِندَ اللّهِ وفي مكنونِ علمِه، لا إله إلا هو. ثم نبَّه تعالى على أنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إسرائيل أكثر الأشياءِ التي كان بينهُم اختلافٌ في صِفَتِها، جاء بها القرآن على وجهها، {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ} كما أنه عمَىً على الكافرين المحتومِ عليهم، ثم سلَّى نبيَّه بقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} فشبَّهَهُمْ مرةً بالموتى، ومرةً بالصُّمِّ من حيث إنَّ فائدةَ القولِ لهؤلاءِ مَعْدُومَةٌ.
وقرأ حمزة: {وَمَا أَنتَ تَهْدِي العمي} بفعلٍ مستقبل، ومعنى قوله تعالى {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم}، أي: إذا انْتَجَزَ وعدُ عذابِهمُ الذي تَضَمَّنَه القولُ الأزلي من اللّه في ذلك، وهذا بمنزلة قوله تعالى: {حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 71].
فمعنى الآية وإذا أراد اللّهُ أن يُنْفذَ في الكافرينَ سَابقَ عِلمِهِ لَهُم من العذابِ أخْرَجَ لهم دابَّةً من الأرض، ورُوِيَ أَن ذلك حين ينقطعُ الخيرُ، ولا يؤمَر بمعروف، ولا يُنْهى عن منكر، ولا يِبْقَى مَنيبٌ ولا تائبٌ، و{وَقَعَ} عبارةٌ عن الثبوت واللُّزُوم، وفي الحديث أن الدابةَ وطلوعَ الشمسِ من المغْرِب مِنْ أولِ الأشراط، وهذه الدَّابَّةُ رُوِيَ أنَّها تَخْرُجُ من الصَّفَا بمكَّةَ؛ قاله ابن عمر وغيره، وقيل غيرُ هذا.
وقرأ الجمهور: {تُكَلِّمُهُمْ} من الكلام. وقرأ ابن عباس وغيرُه، {تُكَلّمُهُمْ} بفَتْحِ التاءِ وتخفيفِ اللام، من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ، وسئل ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم أو تكلمهم؟ فقال: كل ذلك، واللّهِ تفعلُ: تُكَلِّمُهُمْ وَتَكْلُمُهُمْ، وروي أنها تَمُرُّ على الناسِ فَتَسِمُ الكافرَ فِي جبهتِه وتَزْبُرُهُ وتَشْتُمُه وربما خَطَمَتْه، وَتَمْسَحُ على وجهِ المؤمنِ فتبيضه، ويعرفُ بعدَ ذلكَ الإيمانُ والكفرُ مِن أثرها، وفي الحديث: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى، فَتَجْلُو وُجُوهَ المؤمِنِينَ بالعَصَا؛ وتَخْتِمُ أَنْفَ الكَافِرِ بِالخَاتِمِ، حَتَّى أنَّ النَّاسَ لَيَجْتَمِعُونَ، فَيَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذا: يَا كَافِرُ» رواه البَزَّار، انتهى من الكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ.
وقرأ الجمهور: {إنَّ النَّاسَ} بكسر إن.
وقرأ حمزةُ والكسائيّ وعاصمٌ: {أنَّ} بفتحها.
وفي قراءة عبد اللّه: {تُكَلِّمُهُمْ بَأَنَّ}، وعلى هذه القراءة؛ فيكونُ قوله: {أَنَّ النَّاسَ} إلى آخرها مِنْ كلامِ الدابَّةِ، وروي ذلك عن ابن عَبَّاس. ويحتملُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلاَمِ اللّهِ تعالى.

.تفسير الآيات (83- 87):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)}
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً}: هو تذكيرٌ بيومِ القيامةِ، والفوجُ: الجماعة الكثيرة، و{يُوزَعُونَ} معناه: يُكَفُّونَ في السَّوق، أي يَحْبِسُ أولُهُم عَلى آخرهم؛ قاله قتادة، ومنه وَازَع الجيشَ، ثم أخبر تعالى عن توقيفِه الكفرةَ يومَ القيامةِ وسؤالِهم على جهة التوبيخ: {أَكَذَّبْتُم...} الآية، ثم قال: {أمَّاذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} على معنى استيفاء الحُجَجِ، أي: إن كان لكم عملٌ أو حُجَّةٌ فهاتوها. ثم أخبر عن وقوع القول عليهم، أي: نفوذُ العذابِ وحَتْمُ القَضَاءِ وأنهم لا ينطقونَ بحجَّةٍ، وهذا في موطن من مواطِنِ القيامةِ. ولما تكلَّم المحاسِبيُّ على أهوال القيامة، قال: واذكرِ الصِّراطَ بِدقَّتهِ وهو له؛ وزلَّتِه وعَظِيم خطره؛ وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فيا له مِنْ مَنظرٍ؛ ما أفْظَعَهُ وأهْوَلَهُ، فتَوهَّمْ ذلِكَ بقلبٍ فارغٍ، وعقلٍ جامعٍ، فإن أهوالَ يومِ القيامةِ إنما خَفَّتْ علَى الذِينَ تَوَهَّمُوهَا في الدنيا بعقولهم، فتحملوا في الدنيَا الهُمُومَ خَوْفاً مِن مَقامِ رَبِّهِمْ، فَخَفَّفَها مَوْلاَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْهم، انتهى من كتاب التوهم.
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} وهو القَرْنُ في قول جمهور الأمة، وصاحب الصور هو إسرافيل عليه السلام، وهذه النفخةُ المذكورة هنا هي نفخة الفَزَع، ورَوى أبو هريرةَ أنها ثلاثُ نفخات: نفخةُ الفَزَعِ، وهو فزع حياةِ الدُّنيَا وليْسَ بالفَزَع الأكْبَرِ، ونفخةُ الصَّعْقِ، ونفخةُ القيام من القبور. وقالت فرقة: إنما هما نفختان: كأنهم جَعَلُوا الفَزَعَ والصَّعْقَ في نفخةٍ وَاحِدَةٍ مستدلين بقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى...} الآية [الزمر: 68].
قالوا: وأخرى لا يقال إلا في الثانية.
قال * ع *: والأول أصحُّ، وأخرى يقال في الثالثةِ، ومنه قوله تعالى: {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20].
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن شَاءَ الله} استثناءٌ فيمن قَضَى اللّه سبحانه مِنْ ملائكتِه، وأنبيائه، وشهداءِ عبيدِه أن لا ينالهم فزعُ النَّفْخِ في الصورِ، حَسَبَ ما ورد في ذلك من الآثار.
قال * ع *: وإذا كان الفزعُ الأَكْبَرُ لاَ ينالهُم فَهُمْ حَرِيُّونَ أن لا ينالَهم هَذا.
وقرأ حمزة: {وَكُلُّ أَتَوْهُ} على صيغة الفعل الماضي، والدَّاخِرُ: المُتَذَلِّلُ الخاضِعُ، قال ابن عباس وابن زيد: الداخرُ: الصاغرُ، وقد تظاهرَتِ الرواياتُ بأنَّ الاستثناءَ فِي هذِه الآيةِ إنما أريد به الشهداءُ: لأنهم أحياءٌ عند ربهم يُرْزَقُونَ، وهم أهلٌ للفزعِ؛ لأنَّهُمْ بشر لكن فُضِّلُوا بالأمن في ذلك اليوم.
* ت *: واختار الحليميُّ هذا القولَ قال: وهو مروي عن ابن عباس: إن المستَثْنَى هم الشهداء. وضعَّفَ ما عداه من الأقوال، قال القرطبي، في تذكرته: وَقَدْ وَرَدَ في حديث أبي هريرة؛ بِأَنَّهُمُ الشُّهَدَاءُ، وهو حديثٌ صحيح، انتهى.

.تفسير الآيات (88- 90):

{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}
وقوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً...} الآية، هذا وصفُ حالِ الأشياءِ يومَ القيامةِ عَقِبَ النَّفْخِ في الصُّورِ، والرؤية: هي بالعَيْن، قال ابن عباس: جامدةً: قائمةً، والحَسَنَةُ الإيمانُ، وقال ابن عباس وغيره: هي لا إله إلا اللّه ورُوِيَ عَنْ علي بن الحسين أنه قال: كُنْتُ في بعض خَلَواتِي فَرفَعْتُ صَوْتي: ب لا إله إلا اللّه فسمعتُ قائلاً يقول: إنها الكلمةُ التي قال اللّه فيها: من جاء بالحسنة فله خير منها.
وقال ابن زيد: يُعْطَى بالحَسَنَةِ الواحدةِ عَشْراً.
قال * ع *: والسيئةُ التي في هذه الآية هي الكُفْر والمَعَاصِي. فيمن حتَّم اللّه عليه من أهل المشيئة بدخول النار.

.تفسير الآيات (91- 93):

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}
وقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ} المعنى قل يا محمد؛ لقومك: إنما أمرتُ أن أعبدَ ربَّ هذه البلدة، يعني: مكةَ، {وَأَنْ أَتْلُواْ القرءان} معناه تَابعْ فِي قراءتِك، أي: بَيْنَ آياتِه واسْرُدْ.
قال * ص *: {وَأَنْ أَتْلُوَاْ} معطوفٌ على {أَنْ أَكُونَ}.
وقرأ عبد اللّه: {وَأَنِ اتل} بغير واو وقوله: {ومَنْ ضَلّ} جوابُه محذوفٌ يدلُّ عليه ما قبلَه، أي: فَوَبَالُ ضلالهِ عَلَيْهِ، أو يكونَ الجوابُ: فَقل، ويُقَدَّرُ ضميرٌ عائدٌ من الجوابِ على الشرط؛ لأنه اسمٌ غَيرُ ظَرْفٍ، أي: من المنذرين له، انتهى. وتلاوة القرآن سببُ الاهتداءِ إلى كل خير.
وقوله تعالى: {سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ} توعُّدٌ بعذابِ الدُّنيَا كَبَدْرِ ونَحوه، وبعذاب الآخرة.
{وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيه وعيدٌ.

.تفسير سورة القصص:

وهي مكية إلا قوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} فإنها نزلت بالجحفة في وقت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قاله ابن سلام وغيره.
وقال مقاتل: فيها من المدني: {الذين آتيناهم الكتاب} إلى قوله: {لا نبتغي الجاهلين}.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 9):

{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)}
قوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين * نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى...} الآية، معنى {نَتْلُواْ}: نَقُصُّ وخَصَّ تعالى بقوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} من حيث إنهم هم المنْتَفِعُونَ بذلكَ دونَ غيرهم، و{عَلاَ فِي الأرض} أي: عُلُوَّ طُغْيَانٍ وتَغَلَّبَ، و{فِي الأرض} يريد أرض مصر، والشيعُ: الفرقُ، والطائفةُ المستضعفةُ: هم بنو إسرائيل، {يُذَبِّحُ أَبْنِاءَهُمْ} خوفَ خرابِ مُلْكِه على ما أخبرته كَهَنَتُه، أو لأجل رؤيا رآها؛ قاله السدي. وطمع بجهله أن يَرُدَّ القدرَ، وأين هذا المنزعُ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: «إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْهُ، فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» يعني: ابنَ صَيَّادٍ؛ إذ خافَ عمرُ أَن يكونَ هو الدَّجَّالَ، وباقي الآيةِ بيِّن؛ وتقدَّم قصصُه. والأئمة: ولاة الأمور؛ قاله قتادة.
{وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} يريدُ: أرضَ مصرَ والشامِ، وقرأ حمزة: {وَيَرَى فِرْعَوْنُ} باليَاء وفتح الراء والمعنى: ويقعُ فرعونُ وقومُه فيما خافُوه وحذِرُوه من جهة بني إسرائيل، وظهورهم، وهامان: هو وزيرُ فرعونَ وأكبَرُ رجالِه وهذا الوَحْي إلى أم موسى، قيل: وَحْيُ إلهامٍ، وقيلَ: بمَلَكٍ.
وقيل: في مَنَام.
وجملة الأمرِ أنها عَلِمَتْ أنَّ هذا الذي وقع في نفسِها هو من عند اللّه، قال السدي وغيره: أُمِرَتْ أن تُرْضِعَهُ عَقِبَ الوِلاَدَةِ، وَتَصْنَعَ بهِ مَا فِي الآية؛ لأَن الخوفَ كانَ عَقِبَ كلِّ وِلاَدَة، واليمُّ: معظم الماء، والمرادُ: نِيلُ مِصر، واسم أم موسى يوحانذ ورُوِيَ في قَصَصِ هذهِ الآيةِ: أن أمَّ مُوسَى لَفَّتْهُ في ثِيابهِ وَجَعَلَتْ له تابوتاً صَغِيراً، وسَدَّتْه عليه بقُفْلٍ، وعَلَّقَتْ مِفْتَاحَه عَلَيْه، وأسلمَتْهُ ثقةً باللّه وانتظاراً لوعدِه سبحانه، فلما غابَ عنها عاودَها بثُّها وأَسِفَتْ عليه، وأَقْنَطَهَا الشيطانُ فاهْتَمَّتْ به وكَادَتْ تَفْتَضِحُ، وجعلتِ الأُخْتُ تَقُصُّهُ، أي: تَطْلُبُ أثَرَه وتَقَدَّم باقي القصةِ في طه وغيرِها، والالتقاط: اللقاء عن غير قصد، وآل فِرْعَوْنَ: أهله وجملتُه، واللامُ في {لِيَكُونَ}: لام العَاقِبَة.
وقال * ص *: {لِيَكُونَ}: اللامُ للتعليلِ المجازيِّ، ولمَّا كانَ مآله إلى ذلك، عبَّر عَنْه بلام العاقبة، وبلام الصَّيْرَوَرَةِ، انتهى.
وقرأ حمزة، والكسائي {وحْزُناً}- بضمِّ الحاءِ وسكونِ الزاي-، والخاطئ: متعمدُ الخطإ، والمخطئ الذي لا يتعمده.
وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: بأنه هو الذي يَفْسَدُ ملكُ فرعونَ على يده؛ قاله قتادة وغيره.