فصل: تفسير الآيات (10- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (10- 14):

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} أي: فارِغاً من كلِّ شيء إلا من ذكر موسَى.
قاله ابن عباس.
قال مالك: هو ذَهَابُ العَقْلِ، وقالت فرقة: {فَارِغاً} من الصبر.
وقوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي: أَمرِ ابْنِهَا، ورُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: كادتْ أُمُّ مُوسَى أن تَقُول: «وابناه وَتَخْرُجَ سَائِحَةً عَلَى وَجْهِهَا». والرَّبْطُ على القلبِ: تأنيسُه وتقويَتُه، {وَلِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي: من المُصَدِّقين بوعدِ اللّهِ سبحانه وما أوحي إليها به، و{عَن جُنُبٍ} أي: ناحيةٍ، فمعنى {عَن جُنُبٍ}: عن بُعْد لَمْ تَدنُ مِنْهُ فَيُشْعَرَ لها.
وقوله: {وَهُم لاَ يَشْعُرُونَ} معناه: أنها أختُه، ووعدُ اللّه المسارُ إليه هو الذي أوحاه إليها أولاً، إمَّا بمَلَكٍ أو بمَنَامَةٍ، حسْبَمَا تَقَدَّمَ، والقَوْلُ بالإلْهَامِ ضَعِيفٌ أن يقالَ فيه وعدٌ.
وقوله: {أَكْثَرَهُمْ} يريد به القِبْطَ، والأَشُدُّ: شِدةُ البَدَن واستحكام أمره وقوتِه، و{استوى} معناه: تَكَامَلَ عَقْلُه، وذلك عند الجمهور مع الأربعين. والحكمُ: الحِكْمَةُ، والعلمُ: المَعرِفَةُ بشرعِ إبراهيمَ عليه السلام.

.تفسير الآيات (15- 24):

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}
وقوله تعالى: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}.
قال السدي: كان موسى في وقتِ هذه القصةِ على رَسْمِ التعلُّقِ بفرْعَونَ، وكان يَرْكَبُ مَرَاكِبَه حتى إنه كان يُدْعَى مُوسَى بنَ فِرْعَوْنَ، فركب فرعونُ يوماً وسارَ إلى مدينةٍ من مدائنِ مِصْرَ، فركبَ مُوسَى بَعْدَه ولَحِق بتلكَ المدينَةِ في وقتِ القائِلة، وهو حينُ الغَفْلَة؛ قاله ابن عباس، وقال أيضاً: هو بين العِشَاء والعَتَمَة، وقيل غيرُ هذا.
وقوله تعالى: {هذا مِن شِيعَتِهِ} أي من بني إسرائيل، و{عَدُوِّهِ} هم القِبْطُ، والوَكْزُ: الضَّرْبُ باليدِ مجموعةً، وقرأ ابن مسعود: {فَلَكَزَهْ} والمعنى: واحد؛ إلا أن اللَّكْزَ في اللَّحْيِ، والوَكْزَ علَى القَلْبِ، و{قضى عليه} معناه: قَتَلَه مُجْهِزاً، ولم يُرِدْ عَلَيْهِ السلامُ قَتَلَ القِبْطِيِّ، لَكِنْ وَافَقَتْ وَكْزَتُهُ الأَجَلَ؛ فَنَدِمَ، ورأَى أنَّ ذلك من نَزْعِ الشيطانِ. في يده، إن نَدَامَةَ موسى عليه السلام حَمَلَتْهُ على الخُضُوعِ لربِّه والاسْتِغْفَارِ من ذنبه، فغفر اللّه له، ذلك، ومع ذلك لَم يَزَلْ عليه السلام يُعيد ذلك على نفسه مع علمه أَنه قَد غُفِر له، حتى إنَّهُ في القِيَامِةِ يَقُولُ: وَقَتَلْتُ نَفْساً لَمْ أُومَرْ بقَتْلِهَا؛ حَسْبَمَا صَحَّ فِي حدِيثِ الشفاعة، ثم قال موسى عليه السلام معاهداً لربه: رَبِّ بنعمتِكَ عليّ وبسبب إحسانِك وغُفْرانِك، فأنا مُلْتَزِمٌ أَلاَّ أكون مُعِيناً للمجرمين؛ هذا أحسن ما تأول.
وقال الطبري: إنه قَسَمٌ؛ أقسم بنعمة اللّهِ عندَه.
قال * ع *: واحتج أهلُ الفضلِ والعلمِ بهذهِ الآيةِ في مَنْعِ خِدْمَة أهل الجَوْرِ ومَعُونَتِهم في شيء من أمورهم، ورأوا أنها تَتَنَاوَلُ ذلكَ؛ نص عليه عطاء بن أبي رباح وغيره.
قال ابن عباس: ثم إنَّ مُوسَى عليه السلام مرَّ وَهُوَ بحالةِ التَّرَقُّبِ؛ وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قَاتَلَ القبطيَّ بالأَمسِ يُقاتِلُ آخرَ مِن القِبْطِ، وكان قَتَلُ القبطيّ قد خفي على الناس واكْتَتَم، فلما رأَى الإسرائيلي موسى، استصرخه، بمعنى صاحَ بهِ مستغيثاً فلما رأى موسى عليه السلام قِتَالهُ لآخرَ؛ أعظم ذلكَ وقال له مُعَاتباً ومُؤَنِّباً: {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} وكانت إرادة موسى عليه السلام مع ذلك، أن ينصرَ الإسرائيلي، فلما دنا منهما، وحبس الإسرائيلي وفَزَعَ منه، وظن أنه ربما ضَرَبَه، وفزع من قوتِهِ التي رأى بالأمس، فناداه بالفضيحةِ وشهَّر أمرَ المقتُولِ، ولما اشْتَهِرَ أنَّ مُوسَى قَتَل القَتِيلَ، وكان قول الإسرائيلي يَغْلِبُ على النفُوسِ تصديقُه على موسَى، مَعَ ما كانَ لِمُوسَى مِنَ المقدِّمَاتِ أتى رأْيُ فِرْعَونَ ومَلاَئِه علَى قَتْلِ مُوسَى، وغَلَبَ على نفسِ فرعون أنه المشارُ إليه بفَسَادِ المَمْلَكَةِ، فأنْفَد فيهِ مَنْ يطلُبه ويأْتي بهِ للقَتْلِ، وألْهَمَ اللّهُ رَجُلاً؛ يقالُ إنه مؤمِنٌ مِن آل فرعَونَ أو غيره، فجاء إلى موسَى وبَلَّغَهُ قبلَهُم و{يَسْعَى} معناه: يُسْرِعُ في مَشْيه؛ قاله الزجاج وغيره، وهو دونَ الجَرْيِ، فقال: {ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ.
..} الآية.
* ت * قال الهروي: قوله تعالى: {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي: يؤامُرُ بعضُهُم بعضاً في قَتلِك، وقال الأزهري: الباءُ في قوله: {يَأتَمِرُونَ بِك} بمعنى: في يقال: ائتَمَرَ القومُ إذا شَاوَرَ بَعْضُهمْ بَعْضاً، انتهى. وعن أبي مجلز واسمه لاحق بن حميد قال: من خاف من أمير ظُلُماً فقال: رضيت باللّه، رَبّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً وبالقرآن حَكَماً وإماماً نجَّاه اللّه منه؛ رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، انتهى من السلاح. و{تِلْقَاء} معناه نَاحِيَةَ مدين، وبينَ مِصرَ ومَدْيَنَ مسيرةَ ثَمانِيَةَ أيامٍ، وكانَ مُلْكُ مدين لغير فرعونَ، ولما خَرَجَ عليه السلام فارّاً بنفسهِ منفرداً حافياً؛ لا شيءَ معه ولا زادَ وغيرَ عارفٍ بالطريقِ؛ أسْنَدَ أمرَه إلى اللّهِ تعالى وقال: {عسى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السبيل} ومشى عليه السلامُ حتى وَرَدَ ماءَ مدينَ، وَوُرُودُهُ المَاءَ، معناه: بلُوغُه، ومدينُ: لا ينْصَرِفُ إذ هو بلدٍ معروفٌ، والأمَّة: الجمعُ الكثيرُ، و{يَسْقُونَ} معناه: ماشيتَهم، و{مِن دُونِهِمْ} معناه: ناحيةً إلى الجهةِ الَّتي جَاء مِنها، فَوَصَل إلى المرْأَتَيْنِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلى الأُمَّةِ، و{تَذُودَانِ} معناه: تَمْنعَانِ، وتَحْبِسَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الماءِ؛ خوفاً من السُّقَاةِ الأقوياء، و{أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}، أي: لا يستطيعُ؛ لِضَعْفِهِ أن يُبَاشِرَ أمْرَ غَنَمِه.
وقوله تعالى: {فسقى لَهُمَا}.
قالت فرقة: كانت آبارهم مغطاةً بحجارةٍ كبارٍ، فَعَمَدَ إلى بِئْرٍ، وكان حَجَرُهَا لاَ يرفعُه إلاَّ جَماعَة، فَرَفَعَهُ وسقى للمرأتين. فَعَنْ رَفْعِ الصَّخْرَةِ وصِفتْه إحداهُما بالقوة، وقيل وصفَتْه بالقوة؛ لأنه زَحَمَ النَّاسَ وغَلَبَهُمْ عَلى المَاءِ حتى سَقَى لهما.
وقرأ الجمهور {يُصْدِر الرِّعَاء} على حَذْفِ المفعولِ تقديرُه: مواشِيَهم، وتَولّى موسى إلى الظلِّ وتعرَّضَ لسؤَال ما يَظْعَمُه بقوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ولم يُصَرِّحْ بسؤالٍ؛ هكَذا، رَوَى جَمِيعُ المفسرينَ أنَّه طلبَ في هذا الكلامَ ما يأكلُه، قال ابن عباس: وكان قَدْ بَلَغَ به عليه السلام الجوعُ إلى أن اخْضَرَّ لونُه من أكل البَقْل، وَرُئِيَتْ خُضْرة البقْلِ في بَطْنِهِ، وإنه لأَكْرَمُ الخلقِ يومئِذٍ على اللّه، وفي هذا مُعْتَبَرٌ وحاكمٌ بهَوَانِ الدُّنْيا على اللّه تعالى، وعن معاذ بن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ طَعَاماً، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ لَبِسَ ثَوْباً، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» رواه أبو داود؛ واللفظُ له، والترمذيُّ وابن ماجه والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط البخاريِّ، وقالَ الترمذيُّ: حسنٌ غريبٌ، انتهى من السِّلاح.

.تفسير الآيات (25- 28):

{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}
وقوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء...} الآية: في هذا الموضِع اختصارٌ يدلُّ عليه الظاهرُ، قدَّرَهُ ابنُ إسحاقٍ: فذهبتا إلى أبيهما فأخبرتاه بما كان من الرجل، فأمر إحدى ابنَتَيْه أنْ تدعوَه له، فجاءته، على ما في الآية. وقوله: {عَلَى استحياء} أي: خَفِرَةٍ، قد سَتَرَتْ وَجْهَهَا بِكُمِّ دِرْعِها؛ قاله عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. ورَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هريرةَ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ مِنَ الإيمَانُ فِي الجَنَّةِ، والبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ؛ والجَفَاءُ فِي النَّارِ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ انتهى.
والجمهورُ أن الداعِيَ لموسَى عليه السلامُ هو شُعَيْبُ عليه السلام وأن المرأتينْ ابنتَاه. ف {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ...} الآية، فَقَام يَتْبعُهَا فَهَبَّتْ رِيحٌ ضَمَّتْ قَمِيصَها إلى بَدَنِهَا فَتَحَرَّجَ مُوسَى عليه السلام من النظر إليها فقال امشي خلفي وأرشديني إلى الطرق فَفَهِمَتْ عَنْهُ؛ فذلك سَبَبُ وَصْفِهَا له بِالأَمَانَةِ؛ قاله ابن عباس. {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} فآنسَه بقَولهِ: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} فلما فَرَغ كلامُهُمَا قالت إحدى الابنتيْنِ {ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} فقال لها أبوها: ومن أين عَرَفْتِ هذا منه؟ قالت: أَمّا قوتُه فَفِي رفعِ الصَّخْرَةِ، وأمّا أمَانَتُهُ فَفِي تَحَرُّجِه عَنِ النَّظَرِ إلَيَّ؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم، فقال له الأَبُ عند ذلك: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ...} الآية، قال ابن العربي: فِي أحْكَامِهِ قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} يدلُّ على أنه عَرْضٌ لاَ عَقْدٌ؛ لأنه لو كان عَقْداً، لعَيَّن المعقودَ عَلَيْهَا؛ لأن العلماءَ وإنْ اخْتَلَفُوا في جوازِ البيعِ، إذَ قَال له: بعتُكَ أَحَدَ عَبْدَيَّ هذينِ بثَمَنِ كذا، فإنهم اتَّفَقُوا على أن ذلكَ لاَ يجُوزُ في النكاحَ؛ لأنه خيارٌ وشَيْءٌ مِن الخيارِ لاَ يُلْحَقَ بالنِّكَاحِ. ورُوِي أنه قال شعيبٌ: أَيَّتُهما تُرِيد؟ قال: الصغرى، انتهى. وتَأجَر معناه: تُثِيبُ وجَعَلَ شعيبُ الثمانيةَ الأعوامَ شَرْطاً وَوَكَلَ العَامَيْنِ إلى المُرُوءَةِ، ولما فَرَغَ كلامُ شُعَيْبٍ قَرَّره موسَى؛ وكَرَّرَ معناه على جهة التوثقِ في أن الشَّرط إنما وقع في ثمانِ حججٍ، و{أيما} استفهامٌ نُصِبَ ب {قَضَيْتَ} وما صلةٌ للتَّأكِيد ولا عدوان لاتِبَاعَةَ عَلَيَّ، والوكيل: الشَّاهدُ القائمُ بالأمر.

.تفسير الآيات (29- 40):

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)}
وقوله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} قال ابن عباس: قضى أكملهمَا عَشْرَ سنينَ؛ وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أتاها نُودِىَ...}، تَقَدَّمَ قصصُها، فانظرْه في محالِّه، قال البخاريُّ: والجَذْوَةُ قطعةٌ غلِيظةٌ مِنَ الخَشَبِ فيها لَهَبٌ، انتهى. قال العِراقيُّ وآنس معناه: أبصر، انتهى.
وقوله: {مِنَ الشجرة} يقتضي: أن موسى عليه السلام سَمِعَ ما سَمِعَ من جهة الشجَرةِ، وسمع وأدرك غَيْرُ مُكَيَّفٍ ولا محَدَّدٍ.
قال السهيليُّ: قيل إن هذه الشجرةَ عَوْسَجَة، وقِيل: عُلَّيْقَة، والعَوْسَجُ إذا عَظُمَ قِيلَ له: الغَرْقَدُ، انتهى. {ولَمْ يُعَقِّبْ} معناه: لم يرجع على عَقِبهِ من تَوْلِيَتِه.
وقوله تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} ذهبَ مجاهد وابن زيدٍ إلى: أنَّ ذَلكَ حقيقةٌ أَمَرَهُ بِضَمِّ عَضُدِهِ وَذِرَاعِه؛ وهو الجَنَاحُ إلى جَنْبِه؛ لِيَخِفَّ بذلكَ فَزَعُه؛ ورهبُه، ومن شأن الإنسانِ إذا فَعَلَ ذلك في أوقات فزعه؛ أن يقوى قَلْبُهُ، وذهبت فرقةٌ إلى أن ذلك على المجازِ وأنه أُمِرَ بالعَزْمِ على ما أُمِرَ به، كما تقُولُ العربُ: اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ؛ وارْبِطْ جَأْشَكَ، أي: شَمِّرْ في أمْرِكَ وَدَعْ عَنْكَ الرَّهْبَ.
وقوله تعالى: {فذانك برهانان مِن رَّبِّكَ} قال مجاهد والسدي: هي إشَارة إلى العَصَا واليدِ.
وقرأ الجمهور: {رِدْءاً} بالهَمْزِ.
وقَرأ نافعٌ وَحْدَهُ {رِداً} بتنوين الدال دونَ هَمْزِ وذلك على التخفيف من رِدْءٍ، والرِّدْءُ: الوَزير المعين، وشَدُّ العَضُدِ: استعارةُ في المَعونةِ، والسلطان: الحجةُ.
وقوله: {بئاياتنا}: متعلقٌ بقوله {الغالبون} أي: تغلبون بآياتنا؛ وهي المعجزاتُ، ثم إن فرعون استمر في طريق مخرقته على قومِه، وأمر هامان بأنْ يَطْبُخَ له الآجُرَّ وأن يَبْنيَ له صَرْحاً أي سَطْحاً في أعلى الهواء، مُوْهِماً لِجَهَلَةِ قَوْمهِ أنْ يَطَّلِعَ بزَعْمِهِ في السَّمَاء، ثم قال: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} يعني: موسى في أنه أرسله مُرْسِلٌ و{نبذناهم} معناه: طرحناهم، واليَمُّ: بحرُ القُلْزُم في قول أكثر الناس؛ وهو الأشهرُ.

.تفسير الآيات (41- 43):

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}
وقوله تعالى: {وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار...} الآية، عبارةٌ عَنْ حالهِم وأفعالهِم، وخَاتِمَتِهم، أي: هم بذلك كالداعين إلى النار؛ وهم فيه أَئِمَّةٌ مِنْ حَيْثُ اشْتُهِرُوا، وبَقِي حديثُهم، فهم قدوةٌ لُكُلِّ كافرٍ وعَاتٍ إلى يَوْمِ القيامة، و{المقبوحين} الذينَ يُقَبِّحُ كُلُّ أَمرِهِم، قَولاً لهم وفِعْلاً بهم، قال ابن عباس: هم الذين قُبِحُوا بِسَوَادِ الوُجُوهِ وزُرْقَةَ العيون، و{يَوْمَ} طرفٌ مقَدَّمٌ {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} يعني: التوراةَ والقصدُ بهذا الإخبار التمثيلُ لقريشٍ؛ بما تقدم في غيرها مِنَ الأُمَمِ وبصائر نَصْبٌ على الحالِ، أي: طرائِقَ هاديةً.