فصل: تفسير الآيات (80- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (80- 82):

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)}
وقوله سبحانه: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ...} الآية: أخبر تعَالَى عَنْ الذين أوتوا العلم والمعرفةَ باللّهِ وبِحَقِّ طاعتِه أَنَّهُمْ زَجَرُوا الأَغْمَارَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا حَالَ قَارُوْنَ وَحَمَلُوهُمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ المُثْلَى؛ مِنْ أَنَّ النَّظَرَ والتَّمَنِّي إنَّما يَنْبَغِى أنْ يَكونَ في أمورِ الآخرةِ، وأنَّ حالةَ المؤمنِ العاملِ الذي ينتظرُ ثوابَ اللّهِ تعالى خيرٌ مِن حالِ كلِّ ذِي دُنيا. ثم أخبر تعالى عن هذه النَّزْعَةِ وهذه القوَّةِ في الخبر والدينِ أَنَّها {لاَ يُلَقَّاهَا} أي: لا يُمَكَّنُ فيها ويُخَوَّلُها إلا الصَّابِرُ عَلى طَاعَةِ اللّه وعن شهواتِ نفسه؛ وهذا هو جماع الخير كله.
وقال الطبري: الضمير عائد على الكلمة؛ وهي قوله: {ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}، أي: لا يُلَقَّنُ هذه الكلمة إلا الصابرون؛ وعنهم تصدر، ورُوِيَ في الخسف بقارونَ ودارِه أن موسى عليه السلام لما أمَضَّه فعلُ قارونَ به وتعدّيه عليه؛ استجارَ باللّه تعالى وطلب النصرة؛ فأوحى اللّه إليه، أَني قد أمرتُ الأرض أَنْ تطيعكَ في قارونَ وأتباعه، فقال موسى: يا أرض؛ خذيهم فأخذتهم إلى الركب، فاستغاثوا: يا موسى؛ يا موسى؛ فقال: خذيهم، فأخذتهم شيئاً فشيئاً إلى أن تم الخسفُ بهم، فأوحى اللّه إليه: يا موسى؛ لَوْ بِيَ استغاثوا وإليَّ تابوا لرحمتِهُم. قال قتادةُ وغيره: رُوِيَ أَنه يخسفُ به كل يوم قامةً؛ فهو يتجلجل إلى يوم القيامة.
* ت *: وفي الترمذي؛ عن معاذ بن أنس الجُهَنِيِّ، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَرَكَ اللَّبَاسَ تَوَاضُعاً لِلَّهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، دَعَاهُ اللّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ على رُؤُوسِ الخَلاَئِقِ؛ حتى يُخَيِّرَهُ؛ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» وروى الترمذيُّ عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان لنا قِرَامُ سِتْرٍ فيه تماثيلُ على بابي فرآه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: «انْزَعِيهِ فَإنَّهُ يُذَكِّرُنِي الدُّنْيَا»، الحديثَ وروى الترمذي عن كعب ابن عياض قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي: المَالُ»؛ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ وفيه عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ لاِبْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سوى هذه الْخِصَالِ: بَيْتٍ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَحِلْفُ الْخَبَزِ والمَاءِ». قال النضر بن شميلٍ: جِلْفُ الخبز يعني: ليس معه إدام. انتهى. فهذه الأحاديث وأشباهها تزهِّد في زينةِ الدنيا وغضارة عيشها الفاني.
وقوله: {ويكأن} مذهبُ الخليلِ وسيبويه: أن وي حرف تنبيه منفصلة من كأن، لكنْ أُضيفت لكثرة الاستعمال.
وقال أبو حاتم وجماعة: ويْكَ: هي وَيْلَك حذفتِ اللامُ منها لكثرةِ الاستعمال.
وقالت فرقة: و{يكأن} بجملتها كلمة.

.تفسير الآيات (83- 84):

{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)}
وقوله تعالى: {تِلْكَ الدار الأخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً...} الآية: هذا إخبار مستأنف من اللّه تعالى لنبيه عليه السلام، يرادُ به جميعُ العالمِ، ويتضمنُ الحضَّ على السعيِ، حسبَ ما دلت عليه الآيةُ، ويتضمنُ الانحناءَ على حالِ قارونَ ونظرائه، والمعنى: أَنَّ الآخرةَ ليست في شيء من أمر قارون؛ وأشباهه؛ وإنما هي لمن صفتُه كذا وكذا، والعلو المذموم: هو بالظلم والتجبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وذلك أَن تريد أن يكون شراكُ نعلك أفضلَ من شراكِ نعلِ أخيك»، والفسادُ يعمُّ وجوهَ الشر.

.تفسير الآيات (85- 88):

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}
وقوله تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} قالت فرقة: معناه فرض عليك أحكام القرآنِ.
وقوله تعالى: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} قال الجمهور: معناه: لرادك إلى الآخرة، أي: باعِثُكَ بعد الموت، وقال ابن عباس وغيره: المعاد: الجنة، وقال ابن عباس؛ أيضاً ومجاهد: المعادُ: مكة، وفي البخاري بسنده عن ابن عباس: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ}: إلى مكة، انتهى. وهذه الآية نزلت بالْجُحْفَةِ؛ كما تقدَّم، والمعاد: الموضع الذي يعاد إليه.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} هو تعديد نعم، والظهيرُ: المعينُ.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله}: بأقوالهم؛ ولا تَلْتَفِتْ نحوهم؛ وامضِ لِشَأْنِكَ، وادعُ إلى ربك، وآيات الموادَعَةِ كلُّها منسوخةٌ.
وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ وَجْهَهُ} قالت فرقة: المعنى: كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا هو سبحانه؛ قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي رحمه اللّه وقال الزَّجَّاجُ: إلا إياهُ.

.تفسير سورة العنكبوت:

وهي مكية إلا الصدر منها العشر الآيات؛ فإنها مدنية، نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة، هذا أصح ما قيل هنا.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}
قوله تعالى: {الم} تقدم الكلام على هذه الحروف.
وقوله تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} نزلت هذه الآيةُ في قوم من المؤمنينَ بمكةَ؛ وكان كفار قريش يؤذونهم، ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك؛ وربما استنكر بعضهم أن يُمَكِّنَ اللّهُ الكفرةَ من المؤمنين. قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآيةُ مسليةً، ومعلمةً أن هذه هي سيرة اللّه في عباده اختباراً للمؤمنين. ليعلم الصادقَ من الكاذِبَ، وحِسبَ بمعنى: ظَنَّ.
{والذين مِن قَبْلِهِمْ} يريد بهم: المؤْمنين مع الأَنبياءِ في سالفِ الدَّهرِ.

.تفسير الآيات (4- 7):

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)}
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات} أم: معادلةٌ للهمزة؛ في قوله: {أَحَسِبَ} [العنكبوت: 2] وكأنه تعالى قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يُفْتَنُوْنَ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئاتِ؛ في تعذيب المؤمنين؛ وغير ذلك على ظنهم؛ أنهم يسبقون عقابَ اللّه تعالى؛ ويعجزونه، ثم الآيةُ بَعْدَ تَعُمّ كلّ عاصٍ، وعاملٍ سيئةٍ من المسلمين؛ وغيرهم، وفي الآية وعيد شديد للكفرة الفاتنين، وفي قوله تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله} تثبيت للمؤمنين، وباقي الآية بَيِّنٌ، واللّه الموفق.
وقال * ص *: قول * ع *: أم: معادِلة للألْفِ في قوله: {أحَسِبَ} يقتضي أنها هنا متصلة؛ وليس كذلك؛ بل أم هنا: منقطعةٌ مقدرة ب بل؛ للإضراب، بمعنى: الانتقال؛ لا بمعنى الإبطال، وهمزة الاستفهام؛ للتقرير والتوبيخ؛ فلا تقتضي جواباً، انتهى.
وقوله تعالى: {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم}. إخبار عن المؤْمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من الْبِدَارِ إلى اللّه تعالى؛ نوه بهم عز وجل وبحالهم؛ ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة؛ وهم الذين فتنهم الكفار.
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ}، أي: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.

.تفسير الآيات (8- 11):

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}
وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} رُوِيَ عن قتادةَ وغيره: أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص؛ وذلك أنه هاجر؛ فحلفت أمه أن لا تستظلَّ بظلٍّ حتى يرجع إليها؛ ويكْفُرَ بمحمدٍ، فلجَّ هو في هجرته، ونزلت الآية.
وقيل: بل نزلت في عياش بن أبي ربيعة؛ وكانت قصته كهذه ثم خَدَعَهُ أبو جهل؛ ورده إلى أمه. الحديث في كتب السيرة، وباقي الآية بيِّن. ثم كرر تعالى التمثيلَ بحالة المؤْمنين العاملين؛ ليحركَ النفوس إلى نيل مراتبهم.
قال الثعلبي: قوله تعالى: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} أي: في زُمْرَتهم.
وقال محمد بن جرير في مدخل الصالحين: وهو الجنة.
وقيل: {فِي} بمعنى: مع والصالحون: هم الأنبياء والأولياء، انتهى.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بالله} إلى قوله: {المنافقين}، نزلت في المتخلفين عن الهجرة؛ المتقدِّم ذكرهم؛ قاله ابن عباس. ثم قررهم تعالى على علمه بما في صدورهم، أي: لو كان يقينُهم تامّاً وإسلامُهم خالصاً؛ لما توقَّفُوا ساعة ولَرَكِبُوا كلَّ هول إلى هجرتهم ودار نبيهم.
وقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} هنا؛ انتهى المدني من هذه السورة.

.تفسير الآيات (12- 13):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)}
وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا...} الآية، رُوِيَ: أن قائلَ هذه المقالةِ هو: الوليد بن المغيرة، وقيل: بل كانت شائعة من كفار قريش؛ لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} لأنه يلْحق كل داع إلى ضلالة؛ كفل منها حَسْبَمَا صَرَّحَ به الحديثُ المشهور.

.تفسير الآيات (14- 18):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ...} الآية، العطفُ بالفاءِ يقتضي ظاهرُه أنه لَبِثَ هذه المدةَ رسولاً؛ يدعو إلى عبادة اللّه تعالى، و{الطوفان}: العظيمُ الطامي، ويقال ذلك لكل طامٍ خَرَجَ عن العادة من ماء، أو نار، أو موت.
وقوله: {وَهُمْ ظالمون} يريد: بالشرك. ثم ذكر تعالى قصةَ إبراهيم عليه السلام وقومِه، وذلك أيضاً تمثيل لقريش.
وقوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} قال ابن عباس: هو نحت الأصنام.
وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان؛ وغير ذلك.

.تفسير الآيات (19- 25):

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ...} الآية، هذه الحالةُ هي على ما يظهر مع الأحيان من إحياءِ الأرض، والنبات؛ وإعادته؛ ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور، ثم أمر تعالى نبيَّه محمَّداً صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أن يكون إبراهيم عليه السلام بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج بالسير في الأرضِ، والنظر في أقطارها، و{النشأة الأخرة}: نشأةُ القيام من القبور.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء...} الآية، قال ابن زيد: لا يعجزه أهلُ الأرض في الأرض، ولا أهلُ السَّمَاءِ في السماء؛ إن عصوه. وقيل: معناه: ولا في السماء لو كنتم فيها. وقيل: المعنى: ليس للبشر حيلةٌ إلى صعودٍ أو نزول؛ يفلتون بها. قال قتادة: ذَمَّ اللّه قوماً هانوا عليه؛ فقال: {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي...} الآية.
قال * ع *: وما تَقَدَّمَ من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ...} إلى هذه الآيةِ المستأَنفةِ؛ يُحْتَمَلُ أَن يكونَ خطاباً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويكون اعتراضا في قصَّة إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يكونَ خطاباً لإبراهيم عليه السلام؛ ومجاورة لقومه؛ وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه.
وقوله تعالى: {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} أي بأن جعلها برداً وسلاماً.
قال كعب الأحبار رضي اللّه عنه: ولم تحرقِ النارُ إلا الحبلَ الذي أوثقوه به؛ وجعل سبحانه ذلك آية، وعبرةً، ودليلاً على توحيده لِمن شرح صدره؛ ويسره للإيمان. ثم ذكر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قررهم على أنَّ اتخاذَهم الأوثانَ؛ إنما كان اتباعاً من بعضهم لبعضٍ؛ وحفظاً لمودتهم الدنيوية؛ وأنهم يوم القيامة يَجْحَدُ بعضُهم بعضاً، ويتَلاَعَنُون؛ لأن توادَّهم كان على غير تقوى، {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].

.تفسير الآيات (26- 35):

{فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}
وقوله تعالى: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} معناه: صدق، وآمن: يتعدى باللام والباء، والقائل {إِنِّي مُهَاجِرٌ} هو إبراهيم عليه السلام. قاله قتادةُ والنخعيُّ؛ وقالت فرقةٌ: هو لوط عليه السلام.
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا...} الآية، الأجرُ الذي آتاهُ اللّه في الدنيا: العافيةُ من النار ومن المَلِكِ الجائرِ. والعملُ الصالحُ؛ أو الثناءُ الحسنُ؛ قاله مجاهد ويدخل في عموم اللفظ غيرُ ما ذُكِرَ.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الأخرة لَمِنَ الصالحين}، أي: في عداد الصالحين الذين نالوا رضا اللّه عز وجل، وقول لوط عليه السلام: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل}، قالت فرقة: كان قطعُ الطريقِ بالسلب فاشياً فيهم، وقيل غيرُ هذا، والنادي، المجلس الذي يجتمع الناس فيه. واخْتُلِفَ في هذا المُنْكَرِ الذي يأتونه في ناديهم: فقالت فرقة: كانوا يحذفونَ الناسَ بالحصباءِ؛ ويَسْتَخِفُّونَ بالغريب والخاطر عليهم؛ وروته أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم: وَكَانَتْ خُلقهُمْ مُهْمَلَةً؛ لاَ يَرْبِطُهُمْ دِينٌ؛ وَلاَ مُرُوءَةٌ، وقال مجاهد: كانوا يأتون الرجالَ في مَجَالِسِهِمْ؛ وبعضُهُمْ يرى بَعْضاً.
وقال ابن عباس: كانوا يَتَضَارَطُونَ ويَتَصَافَعُونَ في مجالسهم، وقيل غير هذا، وقد تقدم قصص الآيةِ مكَرِّراً والرجزُ: العذابُ.
وقوله تعالى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا}؛ أي: من خبرها وما بقي من آثارها، والآية: موضع العبرة، وعلامة القدرة، ومزدجر النفوس عن الوقوع في سُخْط اللّه تعالى.