فصل: تفسير الآيات (36- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (36- 41):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)}
وقوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر...} الآية، الرجاء في الآية: على بابه، وذهب أبو عُبَيْدَةَ إلى أن المعنى؛ وخافوا، و{تَعْثًواْ} معناه: تُفْسِدُوا، و{السبيل}: هي طريق الإيمان، ومنهجُ النجاة من النار، و{مَا كَانُواْ سابقين}، أي: مفلتين أخذنا وعقابنا، وقيل: معناه: وما كانوا سابقينَ الأمَمَ إلى الكُفْر، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآيات (42- 45):

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}
وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}، قيل: معناه: إن اللّه يعلم الذين تدعون من دونه من جميع الأشياء، وقيل: ما نافية؛ وفيه نظر، وقيل: ما استفهامية، قال جابر: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون}: العَالِمُ: مَنْ عَقَلَ عَنِ اللّهِ تعالى فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وانتهى عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
قوله تعالى: {وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} أي: لا للعبث واللعب؛ بل ليدل على سلطانه؛ وتثبيت شرائعه، ويضع الدلالة لأهلها ويعم بالمنافع؛ إلى غير ذلك مما لا يحصى عداً. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره؛ وتلاوة القرآن الذي أُوحِيَ إليه وإقامة الصلاة، أي: إدامتها؛ والقيام بحدودها. ثم أخبر سبحانه حُكْماً منه أن الصلاة تنهى صاحبَها وممتثلَها عن الفحشاء والمنكر.
قال * ع *: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجبِ من الخشوعِ، والإخبات وتذكرِ اللّه، وَتَوَهِّمِ الوقوف بين يديه، وإنَّ قلبه وإخلاصه مُطّلَعٌ عليه مَرْقُوبٌ صَلُحَتْ لذلك نَفْسُهُ، وتذلَّلَتْ، وخَامَرَها ارتقابُ اللّه تعالى؛ فاطَّرَدَ ذلك في أقواله، وأفعاله، وانتهَى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكَدْ يَفْتُرُ من ذلك حتى تظله صلاةٌ أخْرى؛ يرجع بها إلى أفضل حاله؛ فهذا معنى هذا الإخبار؛ لأن صلاةَ المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، وقد رُوِيَ عن بعض السلف: أنه كان إذا أقام الصلاة ارتعد، واصفر لونُه، فكُلِّم في ذلك، فقال: إني أقف بين يدي اللّه تعالى.
قال * ع *: فهذه صلاة تنهى ولابد عن الفحشاء والمنكر، وأما من كانت صلاته دائرةً حول الإجزاء، بلا تذكر ولا خشوع، ولا فضائل؛ فتلك تترك صاحبَها من منزلته حيثُ كانَ.
وقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة: معناه: ولذكر اللّه إياكم؛ أكبر من ذكركم إياه.
وقيل: معناه: ولذكر اللّه أكبر؛ مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. وقال ابن زيد وغيره: معناه: ولذكر اللّه أكبر من كل شيء. وقيل لسلمان: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ فقال: أَمَا تَقْرَأُ {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ}. والأحاديثُ في فَضْلِ الذّكْر كثيرةٌ؛ لا تنحصر.
وقال ابن العربي في أحكامه: قوله: و{لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} فيه أربعة أقوال.
الأول: ذكر اللّه لكم أفضلُ من ذكرِكم له؛ أضاف المصدر إلى الفاعل.
الثاني: ذكر اللّه أفضل من كل شيء.
الثالث: ذكر اللّه في الصلاة؛ أفضل من ذكره في غيرها؛ يعني: لأنهما عبادتان.
الرابع: ذكر اللّه في الصلاة؛ أكبر من الصلاة؛ وهذه الثلاثة الأخيرة من إضافة المصدر إلى المفعول، وهذه كلها صحيحةٌ، وإن للصلاةِ بركةً عظيمةً، انتهى.
قال * ع *: وعندي، أن المعنى: ولذكر اللّه أكبر على الإطلاق، أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجُزء الذي منه في الصلاة؛ يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة، لأنَّ الانتهاءَ لا يكونُ إلا من ذَاكِرٍ للَّهِ تعالى، مراقب له، وثوابُ ذلك الذكر أن يذكُرَه اللّه تعالى، كما في الحديث الصحيح:
«وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» والحركاتُ التي في الصلاة؛ لا تأثيرَ لها في نهي، والذكرُ النافع هو مع العلم؛ وإقبال القلب وتفرُّغه إلا من اللّه تعالى. وأما ما لا يتجاوز اللسانَ ففي رتبة أخرى، وذكر اللّه تعالى للعبد؛ هو إفاضةُ الهدى ونور العلم عليه؛ وذلك ثمرة ذكر العبدِ ربَّه. قال اللّه عز وجل: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وعبارة الشيخ ابن أبي جمرة: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} معناه: ذكره لك في الأزل أن جعلك من الذاكرينَ له؛ أكبرٌ من ذكرِك أنت الآن له، انتهى.
قال القُشَيْريُّ في رسالته الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه؛ وهو العمدة في هذا الطريق؛ ولا يصل أحد إلى اللّه سبحانه إلا بدوام الذكر، ثم الذكرُ على ضربين: باللسان، وذكرٌ بالقلب، فذكر اللسان: به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب، والتأثيرُ لذكر القلب، فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه، وقلبه؛ فهو الكامل في وصفه، سمعتُ أبا علي الدقاق يقول: الذكر: منشورُ الولاية، فمن وُفِّقَ للذكر؛ فقد وُفِّقَ للمنشور، ومن سُلِبَ الذكرَ فقد عُزِلَ والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات. وأسند القشيريُّ عن المظفر الجصاص قال: كنت أنا ونصرَ الخراط ليلةً في موضع؛ فتذاكرنا شَيْئاً من العلم؛ فقال الخراط: الذاكر للَّه تعالى فائدته في أول ذكره: أنْ يعلمَ أنَّ اللّه ذكَره؛ فبذكر اللّه له ذِكرُه، قال: فخالفته، فقال: لو كان الخضرُ ها هنا لشهد لصحته، قال فإذا نحن بشيخٍ يجيء بين السماء والأرض، حتى بلغ إلينا وقال صدق؛ الذاكر للَّه بفضل اللّه، وذكره له ذكرَه، فعلمنا أنه الخضر عَليه السلام، انتهى. وباقي الآيةِ ضَرْبٌ من التَوعُّدِ وحثٌّ على المراقبةِ، قال البَاجِيُّ في سنن الصالحين: قال بعض العلماء: إن اللّه عز وجل يقول: «أَيُّمَا عَبْدٍ اطلعت عَلَى قَلْبِهِ؛ فَرَأَيْتُ الغَالِبَ عَلَيْهِ التَّمَسُّكَ بِذِكْرِي؛ تَوَلَّيْتُ سِيَاسَتَهُ وَكُنْتُ جَلِيسَهُ وَمُحَادِثَهُ وَأَنِيسَهُ» انتهى.

.تفسير الآيات (46- 49):

{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}
وقوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ}. هذه الآية مَكيةٌ، ولم يكن يومئذٍ قتالٌ، وكانتِ اليهودُ يومئذٍ بمكة؛ وفيما جاورها، فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدالٌ واحتجاجٌ في أمر الدينِ؛ وتكذيب، فأَمر اللّه المؤمنين ألا يجادلوهم إلا بالتي هي أحسن؛ دعاءً إلى اللّه تعالى وملاينةً، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين؛ وحصلت منه أذية؛ فإن هذه الضيفة استُثْنِيَ لأهل الإسلام معارضَتُهَا؛ بالتغيير عليها، والخروج معها عن التي هي أحسن. ثم نُسِخَ هذا بَعْدُ بآية القتال؛ وهذا قول قتادة؛ وهو أحسن ما قيل في تأويل الآية.
* ت *: قال، عز الدين بن عبد السلام في اختصاره لقواعد الأحكام؛ فائدة: لا يجوز الجدالُ والمناظرةُ إلا الإظهار الحقِّ ونُصْرَتِهِ؛ ليُعْرَفَ ويُعْمَلَ به، فمن جادل لذلك؛ فقد أطاع، ومن جادَلَ لغرضٍ آخر، فقد عصى وخَابَ، ولا خير فيمن يتحيَّلُ لِنُصْرَةِ مذهبه؛ مع ضعفه وبُعْدِ أدلته من الصواب، انتهى.
تنبيه: رَوَى الترمذيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ: «الحَيَاءُ وَالْعِيُّ: شُعْبَتَانِ مِنَ الإيمَانِ، والبَذَاءُ وَالبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النَّفَاقِ» وروى أبو داود والترمذيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ اللّهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ بِلِسَانِهَا» حديث غريب، انتهى؛ وهما في مصابيح البغوي. وروى أبو داودَ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الكَلاَمِ لِيَسْبِيَ بِه قُلُوبَ الرِّجَالِ، أَوِ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلِ اللّهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً» انتهى.
وقوله تعالى: {وَقُولُواْ ءَامَنَّا} الآية، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرأون التوراةَ بالعبرانيةِ؛ ويفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ»، وقُولُوا: {ءَامَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وَرَوَى ابنُ مسعود؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوْكُمْ؛ وَقَدْ ضَلُّوا: إمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وإمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ». وقوله تعالى: {فالذين ءاتيناهم الكتاب} يريدُ: التوراة والإنجيل؛ كانوا في وقت نزول الكتاب عليهم يؤمنون بالقرآن. ثم أخبر عن معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن منهم أيضاً مَنْ يؤمن به ولم يكونوا آمنوا بَعْدُ، ففي هذا إخبارٌ بغيب؛ بَيَّنَه الوجودُ بَعْدَ ذلك.
قوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا إِلاَّ الكافرون} يُشْبِهُ أَن يُرَادَ بهذا الانحناءِ كفارُ قريش. ثم بيَّن تَعَالى الحجةَ وأوضحَ البرهانَ: أَن مما يقوى أَنَّ نزولَ هذا القرآن مِن عِنْدِ اللّه؛ أن محمداً عليه السلام جاء به في غاية الإعجاز والطُّول والتَّضَمُنِ للغيوب، وغير ذلك؟ وهو أمِّيَّ؛ لا يقرأ ولا يكتب؛ ولا يتلو كتاباً ولا يخط حروفاً؛ ولا سبيلَ له إلى التعلم، ولو كان ممن يقرأ أو يخط، لارتاب المبطلون، وكان لهم في ارتيابهم مُعَلَّق، وأما ارتيابهُم مع وضوحِ هذهِ الحجةِ؛ فظاهرٌ فسادهُ {بَلْ هُوَ ءايات بينات} يعني: القرآن، ويحتمل: أن يعودَ على أمرِ محمد صلى الله عليه وسلم و{الظالمون} و{المبطلون} يَعُمُّ لفظهما كلَّ مكذِّبٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ عَظُمَ الإشارةَ بهما إلى قريش؛ لأنهم الأهم؛ قاله مجاهد.

.تفسير الآيات (50- 52):

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}
{وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايات مِّن رَّبِّهِ} الضمير في: {قَالُوا} لقريش ولبعض اليهود؛ لأنهم كانوا يعلِّمون قريشاً مثل هذه الحجة؛ على ما مر في غير ما موضع. ثم احتج عليهم في اقتراحهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات؛ ومعجز للجن والإنس؛ فقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب...}.
وقوله: {ءَامَنُواْ بالباطل} يريد: الأصنام وما في معناها.

.تفسير الآيات (53- 56):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)}
وقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} يريد: كفارَ قريش، وباقي الآية بَيِّنٌ مما تقدم مكرّراً واللّه الموفق بفضله. و{بَغْتَةَ}: معناه: فجأة: وهذا هو عذاب الدنيا؛ كيوم بدر ونحوه. ثم توعدهم سبحانه بعذاب الآخرة في قوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ...} الآية.
وقوله تعالى: {ياعبادي الذين ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون...} الآيات، هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الكائنين بمكَّة على الهِجْرَة. قال ابن جُبَيْر، وعطاء ومجاهده: إن الأَرْض التي فيها الظلم والمنكر؛ تترتب فيها هذه الآية وتلزمُ الهجرةُ عنها إلى بلد حق؛ وقاله مالك.

.تفسير الآيات (57- 63):

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}
وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} تحقيرٌ لأمرِ الدنيا ومخاوفِها، كأن بعضَ المؤمنين نظر في عاقبةٍ تلحقه في خروجه من وطنه؛ أنه يموت أو يجوع ونحو هذا؛ فحقَّر اللّه سبحانه شَأْنَ الدنيا، أي وأنتم لا محالة ميتون ومُحْشَرُون إلينا، فالبِدَارُ إلى طاعة اللّه والهجرة إليه أولى ما يُمْتَثَلُ. ذكر هشام بن عبد اللّه القرطبيُّ في تاريخه المسمى ب بهجة النفس قال: بينما المنصور جالسٌ في منزله في أعلى قصره؛ إذ جاءه سهم عائر فسقط بين يديه؛ فذُعِرَ المنصورُ منه ذُعْراً شديداً، ثم أخذه فجعل بقلِّبه، فإذا مكتوبٌ عليه بين الرِّيشَتَيْنِ: [الوافر]
أَتَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ إلَى التَّنَادِي ** وَتَحْسَبُ أَنَّ مَالَكَ مِنْ مَعَادِ

سَتُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِكَ وَالْخَطَايَا ** وََتُسْأَلُ بَعْدَ ذَاكَ عَنِ الْعِبَادِ

ومن الجانب الآخر: [البسيط]
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأَيَّامِ إذْ حَسُنَتْ ** وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ

وَسَاعَدَتْكَ اللَّيَالِي فاغتررت بِهَا ** وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الكَدَرُ

وفي الآخر: [البسيط]
هِيَ الْمَقَادِيرُ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا ** فاصبر فَلَيْسَ لَهَا صَبْرٌ على حَالِ

يَوْماً تُرِيكَ خَسِيسَ القَوْمِ تَرْفَعُه ** إلَى السَّمَاءِ وَيَوْماً تَخْفِضُ العَالِي

ثم قرأ على الجانب الآخر من السهم: [البسيط]
مَنْ يَصْحَبِ الدَّهْرَ لاَ يَأْمَنْ تَصَرُّفَهُ ** يَوْماً فَلِلدَّهْرِ إحْلاَءٌ وَإمْرَارُ

لِكُلِّ شَيْءٍ وَإنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ ** إذَا انتهى مَدُّهُ لابد إقْصَارُ

انتهى.
وقرأ حمزة: {لنثوينهم من الجنة غرفا}: من أثوى يُثْوِي بمعنى: أقام.
وقوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ...} الآية: تحريضٌ على الهجرة؛ لأَن بعضَ المؤمنين فكَّر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة، وقالوا: غربةٌ في بلد لاَ دَارَ لنا فيه ولا عقار، ولا من يطعم، فمثل لهم بأَكثر الدواب التي لا تتقوت ولا تدخر، ثم قال تعالى: {الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} فقوله: {لاَّ تَحْمِلُ} يجوز أن يريدَ مِن الحَمْلِ، أي: لا تَنْتَقِلُ ولا تنظر في ادخاره.
قاله مجاهد وغيره.
قال * ع *: والادِّخار ليسَ من خُلُق الموقنين، وقد قال رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لاِبْنِ عُمَرَ: «كَيْفَ بِكَ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةِ منَ النَّاسِ؛ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَةٍ بِضَعْف اليَقِينِ» ويجوز أن يريدَ من الحمالة؛ أي: لا تَتَكَفَّلُ لنفسها.
قال الداووديُّ: وعن علي بن الأقمر: {لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي: لا تدخر شيئاً لغدٍ، انتهى. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً» قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. انتهى.
ثم خاطب تعالى في أمر الكفار وإقامة الحجة عليهم، بأَنهم إن سُئِلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة، لم يكن لهم إلا التسليمُ بِأَنها للَّه تعالى، و{يُؤْفَكُونَ} معناه: يصرفون.