فصل: تفسير الآيات (16- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (16- 22):

{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
وقوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع...} الآية، تَجافَى الجنبُ عن موضِعِه إذا تَرَكه قال الزجاج وغيره: التَّجافِي التَّنَحِّي إلى فوق.
قال * ع *: وهذا قول حسن، والجنوبُ جَمْعُ جَنْبٍ، والمضاجِعُ مَوْضِع الاضْطجَاع للنوم.
* ت *: وقال الهرَوِيُّ: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} أي: ترتفعُ وتَتَباعَدُ والجَفاء بَيْن النَّاسِ هُو التَّبَاعُدُ، انتهى. وَرَوَى البُخَاري بسنَدِهِ عن أبي هريرة أن عَبدَ اللّه بن رَوَاحَةَ رَضِيَ اللّه عنه قَالَ: [الطويل]
وَفِينَا رَسُولُ اللّهِ يَتلُو كِتَابَه ** إذَا انشق مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ

أَرَانَا الهدى بَعْدَ العمى فَقُلُوبُنَا ** بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ** إذَا استثقلت بِالْكَافِرِينَ المَضَاجِعُ

انتهى. وجمهور المفسرين: على أن المرادَ بهذا التجافي صلاةُ النوافلِ بالليلِ.
قال * ع *: وعلى هذا التأويل أكثَرُ الناسِ، وهو الذي فيه المدحُ وفيه أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم يَذكر عليه السلام قِيامَ الليل؛ ثم يستشهدُ بالآية؛ ففي حديثِ معاذٍ «أَلاَ أَدُلُّكَ على أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئ الخَطِيئَةَ كَمَا تُطْفِئ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم قَرَأ {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}، حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ}» رَواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح؛ ورَجَّحَ الزَّجَاجُ ما قاله الجمهور بأنهم: جُوزُوا بإخفاءٍ، فَدَلَّ ذلك على أن العَمَلَ إخْفَاءٌ أيضاً، وهو قيامُ الليل {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً} أي: من عذابه {وَطَمَعاً}، أي: في ثوابه.
قال * ص *: {تتجافى} أَعربه أبو البقاء: حالاً، و{يَدْعُونَ}: حالٌ أو مُسْتَأنَفٌ و{خَوْفاً وطَمَعاً}: مَفْعُولاَن من أجله أو مصدران في موضع الحال؛ انتهى. وفي الترمذي عن معاذ بن جَبَلٍ قال: قلتُ: يَار رَسُولَ اللّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإنَّهُ لَيَسِيرٌ على مَنْ يَسَّرَهُ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رمضَانَ، وتَحُجُّ البَيْتَ، ثمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ على أَبْوَابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جِنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم تَلاَ: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ}. ثم قال: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْر وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بلى، يَا رَسُولَ اللّهِ. قال: رَأْسُ الأَمْرِ الإسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بلى يَا رَسُولَ اللّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، وَإنَّا لَمُؤَاخِذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ به؟ا فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبَّ النَّاسَ فِي النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!» قال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى.
وقرأ حمزةُ وحده: {أُخْفِيْ} بسكون الياء كأنه قال: أُخْفِيْ أَنَا.
وقرأ الجمهور {أُخْفِيَ} بفتح الياء، وفي معنى هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: «قال اللّه- عز وجل-: أعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْراً بَلْهَ مَا اطلعتم عَلَيْهِ، واقرءوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ...} الآية» انتهى.
قال القرطبيُّ في {تذكرته}: وبَلْهَ معناه: غَيْر، وقيل: هو اسم فِعْلٍ بمعنى دَعْ، وهذا الحديث خَرَّجَه البخاري، وغيره.
* ت *: وفي رواية للبخاري قال أبو هريرة: واقرءوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ...} الآية. انتهى.
وقال ابن مسعودٍ: في التوراة مكتوبٌ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، وباقي الآية بَيِّن؛ والضمير في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} لكفار قريش، ولا خلافَ أن العذابَ الأكبرَ هو عذابُ الآخرةِ، واخْتُلِفَ في تَعْيين العذاب الأَدْنَى؛ فقيل هو السنون التي أجاعَهم اللّه فيها، وقيل هو مصائبُ الدنيا من الأمراض؛ ونحوها، وقيل هو القَتْل بالسَّيْف كَبَدْرِ وغيرها.
وقوله سبحانه: {إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} ظاهر الإجرام هنا أنه الكفر، وروى معاذ بن جبل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ، فَقَدْ أَجْرَمَ: مَنْ عَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، وَمَنْ نَصَرَ ظَالِماً».

.تفسير الآيات (23- 25):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ} اخْتُلِفَ فِي الضمير الذي في {لِّقَائِهِ} على من يعود؟ فقال قتادة وغيره: يعود على موسى، والمعنى: فلا تكن يا محمد، في شك من أنك تلقى موسى، أي: في ليلة الإسراء، وهذا قول جماعة من السلف، وقالت فرقة: الضميرُ: عائد على الكتابِ، أي: فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب.
* ص *: وقيل: يعود على الكتابِ على تقدير مُضْمَرٍ، أي: من لقاء مثله، أي: أتيناك مثلَ مَا آتينا موسى، والتأويل الأول هو الظاهر، انتهى. والمِرْيَةُ: الشَّكُّ، والضميرُ فِي جَعَلْنَاهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على الكتابِ أو على موسى؛ قاله قتادة.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ}، حُكْم يَعُمّ جميعَ الخلق، وذهب بعضهم إلى تخصيص الضمير وذلك ضعيف.

.تفسير الآيات (26- 30):

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ} معناه يُبَيِّنْ؛ قاله ابن عباس، والفاعل ب {يَهْدِ} هو اللّه؛ في قول فرقة، والرسولُ؛ في قول فرقة، وقرأ أبو عبد الرحمن: {نهد} بالنون وهي قراءة الحَسَنْ وقتادة، فالفاعلُ اللّهُ تعالى، والضميرُ في {يَمْشُونَ} يُحْتَمَلُ أن يكونَ للمخاطَبِينَ أو للمُهْلَكِينَ، و{الجرز}: الأرض العاطِشَةُ التي قد أكلت نباتها من العطشِ والقيظِ؛ ومنه قيل للأكول جَرُوزٌ. وقال ابن عباس وغيره: {الأرض الجرز}: أرض أبين من اليمن وهي أرض تشرب بسيولٍ لا بِمَطَرٍ، وفي البخاري: وقال ابن عباس: {الجرز}: التي لم تُمْطَرْ إلا مَطَراً لاَ يُغْنِي عنها شَيْئاً. انتهى.
ثم حكى سبحانه عن الكفرةِ أنهم يَسْتَفْتِحُونَ؛ ويستعجلون فَصْلَ القضاءِ بينهم وبين الرُّسُلِ على معنى الهُزْءِ. والتكذيب، و{الفتحُ}: الحُكْمُ، هذا قول جماعةٍ من المفسرينَ، وهو أقوى الأقوال.
قال مجاهد و{الفتح} هنا هو حُكْم الآخرة. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالإعراض عن الكفرةِ وانْتِظَار الفَرَجِ، وهذا مما نَسَخَتْه آية السَّيْفِ.
وقولُه: {إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} أي: العذابَ بمعنى هذا حُكْمُهُمْ وإن كانوا لا يَشْعُرونَ.

.تفسير سورة الأحزاب:

وهي مدنية بإجماع فيما علمت.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}
قوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله...} الآية. قوله: {اتق} معناه: دُمْ على التَّقْوَى، ومتى أُمر أحدُ بشيء وهو به مُتَلَبِّسٌ؛ فإنما معناه الدوامُ في المستقبلِ على مثل الحالةَ الماضِيةَ. وحذره تعالى من طاعة الكافرين والمنافقين تنبيهاً على عداوتِهم، وأَلاَّ يَطْمَئِنَّ إلى ما يُبْدُونَه من نَصَائِحِهم. والباء في قوله: {وكفى بالله} زائدةٌ على مذهب سِيبَوَيْهِ، وكأنه قال وكفى اللّه، وغيرُهُ يَرَاهَا غَيْرَ زائدةٍ متعلقَة ب كفى على أنه بمعنى: اكتف باللّه. واختلف في السبب في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} فقال ابن عباس: سببُهَا أن بعضَ المنافقينَ قَال: إن محمداً له قلبَانِ، وقيل غير هذا.
قال * ع *: ويظهَرُ مِنْ الآية بِجُمْلَتِهَا أنَّها نَفيٌ لأشْيَاءَ كانت العربُ تعتقِدُها في ذلك الوقتِ، وإعلام بحقيقةِ الأمرِ، فمنها أن العربَ كانتْ تَقُول: إن الإنسانَ له قلبٌ يأمره، وقلب ينهاه، وكان تضادُّ الخواطِر يحملُها على ذلك، وكذلك كانت العربُ تعتقد الزوجة إذا ظاهر منها بمنزلة الأم، وتراه طلاقاً، وكانت تعتقد الدَّعِيَّ المُتَبَنَّى ابْناً، فَنَفَى اللّه ما اعتقدوه من ذلك.
وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} سببُها أمرُ زيد بن حارثة كانوا يَدْعُونَه: زيدَ بن مَحَمدٍ و{السبيل} هنا سبيلُ الشرع والإيمان. ثم أمر تعالى في هذه الآية بدعاء الأدعياء لآبائهم، أي: إلى آبائهم للصُّلْبِ، فمن جُهل ذلك فيه؛ كان مولىً وأَخاً في الدين، فقال الناسُ زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة، إلى غير ذلك و{أَقْسَطُ}: معناه: أعدل.
وقوله عزَّ وجل: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ...} الآية: رَفَعَ الحرجَ عَمَّنْ وَهِمَ وَنَسِيَ وأخْطَأَ، فَجَرَى على العَادَةِ من نسبة زيدٍ إلى محمدٍ، وغير ذلك. مما يشبهه، وأبقى الجناح في المُتَعَمِّدِ، والخطأُ مرفوعٌ عَنْ هذهِ الأمة عقابُه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وقال عليه السلام: «مَا أخشى عَلَيْكُمُ الخَطَأَ وَإنَّمَا أَخْشَى العَمْدُ». قال السُّهَيْلِيُّ: ولَمَّا نزلت الآيةُ وامتثَلَهَا زيدُ فقال: أنا زيد بن حارثة؛ جَبَرَ اللّه وَحْشَتَهُ وشَرَّفَه بأن سَمَّاه باسْمِه في القرآن فقال: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} [الأحزاب: 37] ومَنْ ذَكَرَهُ سبحَانه باسْمِه في الذِّكْرِ الحكيم، حتى صَار اسمُه قرآناً يتلى في المحاريبِ، فقد نَوَّه بهِ غَايَةَ التَّنْوِيهِ، فَكَانَ فِي هذا تأنيسٌ له وَعِوَضٌ مِن الفَخْرِ بَأُبُوَّةِ سيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم له؛ أَلاَ ترى إلى قول أُبي بن كعب حين قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللّهَ تعالى أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ كَذَا، فبكى أُبَيٌّ وَقَالَ: أَوَ ذُكِرْتُ هُنَالِكَ»، وكان بكاؤه من الفرح حِينَ أخْبِرَ أن اللّه تعالى ذَكَرَهُ؛ فكَيْفَ بمَنْ صَار اسمُه قرآناً يتلى مخَلَّداً لا يَبِيدُ، يتلُوهُ أهْلُ الدُّنْيَا إذا قرؤوا القرآن، وأهْل الجَنَّةِ كذلِكَ فِي الجِنَانِ، ثم زَادَهُ فِي الآية غَايةَ الإحْسَانِ أنْ قال: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] يعني بالإيمان؛ فدلَّ على أنه عند اللّه من أهل الجِنَانِ، وهذه فضيلةٌ أخرى هي غايةُ منتهى أمنية الأنْسَان، انتهى.

.تفسير الآية رقم (6):

{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)}
وقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أزالَ اللّه بهذه الآية أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها أن النّبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذَكَرَ اللّهُ تعالى؛ أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يُحِبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكثرَ من نَفسِهِ، حَسَبَ حديثِ عمر بن الخطاب، ويلزمُ أن يَمْتَثِلَ أوامرَهُ، أحبت نفسُهُ ذلك أو كرِهَتْ، وَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: «أَنَاْ أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنَاً أَوْ ضِيَاعاً فإلَيَّ وَعَلَيَّ، أَنا وَلِيُّهُ، اقرءوا إنْ شِئْتُم: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ...}». * ت *: ولفظ البخاريِّ من رواية أبي هريرةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلاَّ وَأَنَا أولى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقرءوا إنْ شِئْتُمْ: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضِيَاعاً، فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهِ». قال ابن العربيِّ: في أحكامه: فهذا الحديث هو تفسير الولاية في هذه الآية. انتهى.
قال * ع *: وقال بعض العارفين: هو صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ لأنَّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدوعهم إلى النجاة.
قال * ع *: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُون فِيهَا تَقَحَّمَ الفَرَاشِ». قال عياض في الشفا: قال أهل التفسير في قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: ما أنفذه فيهم من أمر؛ فهو ماضٍ عليهم؛ كما يمضي حكمُ السيد على عبده، وقيل اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس. انتهى، وشَرَّفَ تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهاتِ المُؤْمِنِينَ في المَبَرَّةِ وحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وفي مصحف أُبَيّ بن كعبٍ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ} وقرأ ابن عباس {مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ} ووافقه أُبَيٌّ على ذلك. ثم حكم تعالى: بَأَن أُولى الأرْحَامِ بَعْضُهم أولى ببعض في التوارُث، مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوه الإسلام، و{فِي كتاب الله} يُحْتَمَلُ أَن يُرِيْدَ القُرْآن أو اللوح المحفوظ.
وقوله: {مِنَ المؤمنين} متعلق ب {أَوْلى} الثانية.
وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} يريدُ الأحسانَ في الحياةِ والصِّلَة والوَصِيَّةِ عند الموتِ والكتابُ المسطورُ: يحتَمِلُ الوجْهَين اللذين ذكرنا.

.تفسير الآيات (7- 8):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين ميثاقهم} المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين، وهذا الميثاق.
قال الزجاج وغيره: إنه الذي أخذ عليهم وَقْتَ استخراج البَشَرِ من صلب آدم. كالذر، بالتبليغ وبجميعِ ما تَضَمَّنَتْهُ النبوَّة. وروي نحوُه عَنْ أُبَيِّ بْنُ كعب.
وقالت فرقة: بل أشار إلى أَخذ الميثاقِ عليهم وَقْتَ بَعْثِهِم وإلقاءِ الرسالة إليهم، وذكر تَعَالَى النبيينَ جملةً، ثم خَصَّصَ أولِي العَزْمِ منهم تشريفاً لهم، واللام في قوله {لِّيَسْئَلَ} يحتمل أن تَكونَ لاَم كَي، أو لامَ الصَّيْرُورَة.

.تفسير الآيات (9- 12):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ...} الآيات إلى قوله تعالى: {ياأيها النبي قُل لأزواجك} [الأحزاب: 28] نزلتْ في شأنِ غزوةِ الخندقِ، وما اتَّصَلَ بها مِن أمر بني قُرَيْظَةَ، وذلك أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أجلى بَنِي النَّضِيرِ مِنْ مَوْضِعِهِمْ عِنْدَ المَدِينَةِ إلى خَيْبَر، فاجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ اليَهُودِ، وَخَرَجُوا إلى مَكَّةَ مُسْتَنْهِضِينَ قُرَيْشاً إلى حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَسَّرُوهُمْ على ذَلِكَ، وَأَزْمَعَتْ قُرَيْشُ السَّيْرَ إلَى المَدِينَةِ، وَنَهَضَ اليَهُودُ إلى غَطَفَانَ، وبَنِي أَسَدٍ، وَمَنْ أَمْكَنَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وتِهَامَةَ، فاستنفروهم إلى ذَلِكَ وَتَحَزَّبُوا وَسَارُوا إلَى المَدِينَةِ، واتصل خَبَرُهُمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَحَفَرَ الخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَةِ، وَحَصَّنَهَا، فَوَرَدَتِ الأحْزَابُ، وحَصَرُوا المدينةَ، وذلك في شَوَّال سنة خمسٍ، وقيل: أرْبَعٍ مِن الهجرةِ، وكانت قريظة قَدْ عَاهَدُوا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعَاقدوه أَلاَّ يَلْحَقَهُ منهم ضَرَرٌ، فلمَّا تمكَّن ذلك الحِصَارُ، ودَاخَلَهم بَنُو النضيرِ غَدَرُوا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وَنَقَضُوا عهده، وضاق الحال على المؤمنين، ونَجَمَ النفاقُ وساءَت ظُنُون قَوْمٍ، ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مع ذلك يُبَشِّرُ وَيَعِدُ النَّصْرَ، فألقَى اللّه عز وجل الرُّعْبَ في قُلوب الكافرينَ، وتخاذلوا ويَئِسوا من الظَّفْرِ، وأرسل اللّه عليهم ريحاً وهي الصَّبَا، وملائكةً تُسَدِّدُ الرِّيحَ، وتفعل نحو فعلها، وتُلْقِي الرُّعْبَ في قلوب الكفرةِ، وهي الجنودُ التي لَم تُرَ، فارتَحَلَ الكَفَرَةُ وانقلبوا خائبين.
قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ} يريد: أهل نَجْدٍ مع عيينة بن حِصْن {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}: يريد أهل مكة وسائر تِهَامَة قاله مجاهد: {وَزَاغَتِ الأبصار} معناه مَالَتْ عن مواضِعَها وذلك فِعْلُ الوالِه الفزِع المُخْتَبِلِ. {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} عبارة عَمّا يَجِدُهُ الهَلِعُ من ثَوَرَانِ نَفْسِه وتفرقها ويجد كأَنَّ حُشْوَتَهُ وَقَلْبَهُ يَصَّعَّدُ عُلُوّاً، وَرَوَى أبو سعيد أن الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا يَوْمَ الخَنْدَق: يَا نَبِيَّ اللّه، بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ؛ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ قُولُوا: اللَّهُمَّ، استر عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا فَقَالُوهَا؛ فَضَرَبَ اللّهُ وُجُوهَ الكُفَّارِ بِالرِّيحِ فَهَزَمَهُمْ.
وقوله سبحانه: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا...} الآية: عبارةٌ عن خواطر خطرَتْ للمؤمنين لا يمكن البشرَ دفعُها، وأما المنافِقونَ فنَطَقُوا، ونَجَمَ نفاقُهم. و{ابتلي المؤمنون} معناه: اخْتُبِرُوا {وَزُلْزِلُواْ}: مَعْنَاه: حُرِّكُوا بعنف. ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمَرْضَى القلوبِ؛ على جِهَةِ الذَّمِّ لَهُمْ {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} فَرُوِيَ عَنْ يزِيدَ بْنِ رُومَانَ أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ قال: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أن نَفْتَتِحَ كنوز كِسْرَى وقيصر ومكة؛ ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط؛ ما يعدنا إلا غروراً، وقال غيره من المنافقين نحو هذا.