فصل: تفسير الآيات (13- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (13- 21):

{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ} أي: من المنافقين {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} أي: لا موضعَ قيام ومُمَانَعة، فارْجِعوا إلى منازِلكم وبيوتِكم، وكان هذا على جِهَة التخذيل عن رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، والفريقُ المتسأذِنُ هو أوسُ بن قيظي؛ استأذنَ في ذلك على اتِّفَاقِ من أصحابهِ المنافقين؛ فقالَ: {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أيْ: مُنْكَشِفَة للعدو فأكذَبَهم اللّه- تعالى- ولو دخلت المدينة {مِّنْ أَقْطَارِهَا} أي: من نواحيها، واشتد الخوف الحقيقي، ثم سُئِلوا الفتنةَ والحَرْبَ لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لبادروا إليها وآتوها محبين فيها ولم يَتَلَبَّثُوا في بُيوتهم لحفظها إلاَّ يسيراً.
قيل: قَدْرَ ما يأخذون سلاحَهم. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد كانوا عاهدوا اللّه إثْر أُحُدٍ لاَ يُولُّونَ الأدْبَارَ وفي قوله تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً} تَوَعُّدٌ وباقي الآية بَيِّن. ثم وبَّخَهُمْ بقوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} وهم الذين يُعَوِّقُونَ الناسَ عن نُصْرة الرسولِ ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك ويَسْعَوْنَ على الدين، وأما القائلون لإخوانهم هَلُمَّ إلينا فقال ابن زيد وغيره: أراد من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النَّسَب وقَرَابته هلُم، أَي: إلى المنَازِل والأكل والشربِ، واترك القتالَ. ورُوِيَ: أَنَّ جماعةً فَعَلَتْ ذلك وأصلُ {هَلُمَّ}: ها المم. وهذا مِثْلُ تعليل رَدَّ من ارْدُدْ والبأسُ: القتالُ: و{إِلاَّ قَلِيلاً} معناه إلا إتياناً قليلاً، و{أَشِحَّةً} جمع شَحِيحٍ والصَّوَابِ تَعْمِيمُ الشُّحِّ أنْ يكون بِكُلّ ما فيه للمؤمنين منفعة.
وقوله: {فَإِذَا جَاءَ الخوف} قيل: معناه: فإذا قوي الخوفُ رأيتَ هؤلاءِ المنَافقين ينظرونَ إليك نَظَرَ الهَلِعِ المُخْتَلِطِ؛ الذي يُغْشَى عَليه، فإذا ذهب ذلك الخوفُ العظيمُ وَتَنَفَّسَ المختَنِقُ: {سَلَقُوكُم} أي: خاطبوكم مخاطبة بليغة، يقال: خطيب سَلاَّقٌ ومِسْلاَقٌ ومِسْلَقٌ ولِسَان أيضاً كذلك إذا كان فصيحاً مقتدراً ووصف الألسِنة بالحدّة لقَطْعِها المعاني ونفوذِها في الأقوال، قالت فرقةٌ: وهذا السَّلْقُ هو في مخادعةِ المؤمنِين بما يُرْضيهِم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة.
وقوله: {أَشِحَّةً} حال من الضمير في {سَلَقُوكُم}.
وقوله: {عَلَى الخير} يدل على عموم الشح في قوله أولاً: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} وقيل: المراد بالخير: المال، أي: أشحة على مال الغنائِم، واللّه أعلم. ثم أخبرَ تعالى عنهم أنهم لم يؤمنوا، وجمهورُ المفسرينَ على أن هذه الإشارةَ إلى منافقينَ لم يكن لهم قط إيمان، ويكونُ قولهُ: {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أي: أنها لم تُقْبَل قط، والإشارة بذلك في قوله {وَكَانَ ذلك} إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين، والضميرُ في قوله: {يَحْسَبُونَ الأحزاب} للمنافقين، والمعنى: أنهم من الفزع والجزع بحيثُ رَحَلَ الأحزابُ وهزمهَم اللّه تعالى، وهؤلاء يظنون أنها من الخُدَعِ؛ وأنَّهم لم يَذْهَبوا، {وَإِن يَأْتِ الأحزاب}، أي: يرجعوا إليهم كرةً ثانية {يَوَدُّواْ} من الخوف والجبن {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ} أي: خارجون إلى البادية.
{فِي الأعراب} وهم أهل العَمُودِ لِيَسْلَمُوا من القتال. {يَسْأَلُونَ} أي من وَرَدَ عليهم. ثم سَلَّى سبحانه عَنْهُم وحَقَّر شَأْنَهُم بِأَنْ أخْبَرَ أنهمْ لَو حَضَرُوا لَمَا أَغْنَوا وَلَمَا قَاتَلُوا إلا قِتَالاً قَلِيلاً؛ لا نفعَ لَه. ثُم قال تعالى على جهة الموعظة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} حين صَبَرَ وجَادَ بنفسهِ، و{أُسْوَةٌ} معناه قُدْوَة، وَرَجَاءُ اللّه تَابع للمَعْرِفة به ورجاء اليومِ الآخر؛ ثمرة العمل الصالح، وذكرُ اللّه كثيراً من خَير الأعمال فَنَبَّه عليه.
* ت *: وعن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنا مَعَ عَبْدِي إذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» رواه ابن ماجه، واللفظ له وابن حِبَّانَ في صحيحه ورواه الحاكم في المستدرك من حديث أبي الدرداء.
وروى جابرُ بن عبد اللّه؛ قال: خرج علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «ياأيها النَّاسُ، إن لِلَّهِ سَرَايا مِنَ المَلاَئِكَةِ تَحُلُّ وَتَقِفُ على مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الأَرْضِ، فارتعوا فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ، قَالُوا: وأَيْن رِيَاضُ الجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ؛ فاغدوا وَرُوحُوا فِي ذِكْرِ اللّهِ؛ وذَكِّرُوهُ أنْفُسَكُمْ مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللّهِ؛ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللّهِ عِنْدَهُ؛ فَإنَّ اللّهَ يُنْزِلُ العَبْدَ مِنْهُ، حَيثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ» رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيحُ الإسناد.
وعن معاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: سَأَلْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللّهِ تعالى؟ قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ» رواه ابن حِبَّانَ في صحيحه، انتهى من السِّلاَحِ. ولَولاَ خشيةُ الإطالةِ، لأتَيْتُ في هذا الباب بأحاديثَ كَثِيرَةٍ، وروى ابنُ المُبَاركَ في رقائِقه قال أخبرنا سُفْيانُ ابن عيينة عن ابن أبي نجِيحٍ عن مجاهدٍ قَالَ: لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً والذَّاكرَاتِ؛ حَتَّى يَذْكُرَ اللّهَ قَائِماً وَقَاعِداً وَمُضْطَجِعاً، انتَهى. وفي مصحف ابن مسعود «يَحْسَبُونَ الأحزاب قَدْ ذَهَبُواْ فَإِذَا وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا وَدُّوا أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب».

.تفسير الآيات (22- 25):

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)}
وقوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب...} الآية. قالت فرقة: لما أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحفر الخندقِ أعلمهم بأنهم سَيُحْصَرَون، وأمرهم بالاستعدادِ لذلك، وأعْلمهم بأنهم سَيُنْصَرُوْنَ بعد ذلك فلما رأوا الأحزاب: {قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} الآية، وقالت فرقة: أرادوا بوعد اللّه ما نَزَل في سورة البقرة من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} إلى قوله {قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
قال * ع *: وَيُحْتَمَلُ أنهم أرادوا جميعَ ذلك. ثم أثنى سُبحانه على رجالٍ عَاهدوا اللّه على الاسْتِقَامَةِ فَوَفَّوْا، وَقَضَوْا نَحْبُهُمْ، أي: نَذْرَهُمْ، وَعَهَدَهُمْ، والنَّحْبُ فِي كَلاَمِ العَرَبِ: النَّذْرُ والشَّيءُ الذي يلتزمُهُ الإنسان، وقَد يُسَمَّى المَوْتُ نَحْباً، وبهِ فسَّر ابن عبَّاس وغيرُه هذه الآيةَ، ويقال للذي جاهد في أمرٍ حتى ماتَ: قضى فيه نحبه، ويقالُ لمن مات: قَضَى فلانُ نَحْبَه؛ فمن سَمَّى المفسرون أنّه أُشِيرَ إليه بهذه الآية أنس بن النضر عَمُّ أنسِ بن مالكٍ، وذلك أنه غَابَ عن بَدْرِ فساءَه ذلك، وقال لَئِنْ شَهدت مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم مَشْهَداً ليَرَيَنَّ اللّهُ ما أصْنَعُ. فلما كان أحَدٌ أبلَى بلاءً حَسَناً حَتَّى قُتِلَ وَوُجِدَ فيه نَيِّفٌ على ثمانينَ جُرْحاً، فكانوا يَروْنَ أن هذه الآيةَ في أنس بن النضر ونظرائه.
وقالت فرقة: الموصوفون بقَضَاء النَّحْبِ؛ هم جماعةٌ من أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَّوْا بِعُهُودِ الإسْلاَمِ عَلَى التَّمَامِ، فالشُّهَداءُ منهم، والعَشَرَةُ الذين شَهِدَ لهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بالجنّةِ منْهم، إلى مَن حَصَل في هذه المرتبةِ مِمَّنْ لَم يُنَصَّ عليه، ويُصَحَّحُ هذه المقالةَ أيضاً مَا رُوِيَ أن رَسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كان عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَنِ الَّذِي قضى نَحْبَهُ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ على بَابِ المَسْجِدِ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: هَأَنَذَا، يا رسُولَ اللّه، قَالَ: هَذَا مِمَّنْ قضى نَحْبهُ». قال * ع *: فهذا أدل دليل على أَن النَّحْبَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِه المَوْتُ.
وقال معاوية بن أبي سفيان: إني سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: طَلْحَةُ مِمَّنْ قضى نَحْبَهُ، وَرَوَتْ عَائِشَة نَحوَه.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} يريدُ ومنهم من ينتظر الحصولَ في أعلى مَراتِب الإيمان والصلاحِ، وهم بسبيل ذلك ومَا بدّلوا ولا غيّرُوا واللامُ في: {لِّيَجْزِيَ} يحتمل أن تكونَ لامَ الصيرورة أو لامَ كي، وتعذيبُ المنافقينَ ثمرةُ إدامتِهم الإقامةَ على النفاقِ إلى مَوْتِهم، والتوبَة موازيةُ لتلك الإدامة، وثمرة التوبة تركهُمْ دونَ عذاب، فهما درجتان: إدامَةُ على نفاقٍ أو تَوْبَةُ منه، وعَنْهُمَا ثمرتان: تعذيبٌ أو رحمة. ثم عدَّدَ سبحانه نعمه على المؤمنين في هَزْمِ الأحزَاب؛ فقال: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ}.

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}
وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم} يريد: بني قُرَيْظَةَ، وذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا غَدَرُوا وَظَاهَرُوا الأحْزَابَ، أرادَ اللّهُ النِّقْمَة مِنْهُمْ فَلَمَّا ذَهَبَ الأَحْزَابُ؛ جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ الظُّهْرِ؛ فَقَالَ: يَا مْحَمَّدُ، إنَّ اللّهَ يَأْمُرُكَ بِالخُرُوجِ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ، فنادى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، وَقَالَ لَهُمْ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَخَرَجَ النَّاسُ إلَيْهِمْ، وَحَصَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَمْساً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلُوا على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ؛ فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِأَنْ تُقْتَلَ المُقَاتَلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالْعِيَالُ وَالأَمْوَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الأَرْضَ وَالثِمَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الأَنْصَارِ، فَقَالَتْ لَهُ الأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالٌ كَمَا لَكُمْ أَمْوَالٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقَعَةٍ» فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِرِجَالِهِمْ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقِهُمْ، وَفِيهِمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضِيرِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَدْخَلَهُمْ فِي الْغَدْرِ، و{ظاهروهم}: معناه: عاوَنُوهم، والصياصي: الحُصُون، واحدُها صيصيةٍ وهي كل ما يَتَمَنَّعُ به ومنه يقال لقرون: البقر الصياصي، والفريقُ المقتولُ: الرجالُ والفريقُ المأسور: العيالُ والذُّرِّيَّة.
وقوله سبحانه: {وَأَرْضاً لَّمْ تطؤُوهَا} يريد بها: البلاد التي فتحت على المسلمين بعدُ كالعراقِ والشامِ واليمنِ وغيرها، فوعَدَ اللّه تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة، وأخبر أنه قد قضى بذلك قاله عكرمة.

.تفسير الآيات (28- 34):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}
وقوله تعالى: {ياأيها النبي قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا...} الآية، ذَكَرَ جُلُّ المفسرين أن أزواج النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَأَلْنَه شَيْئاً من عَرَضِ الدنيا، وآذَيْنَه بزيادة النَفَقَة والغَيْرَة، فَهَجَرَهُنَّ وآلى أَلاَّ يقربَهن شَهْراً، فنزلت هذه الآية، فبدأَ بعائشة، وقال: «يا عَائشَةُ، إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلِي حتى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ تَلاَ عَلَيْهَا الآيةَ، فَقَالَتْ لَهُ: وَفِي أَيِّ هَذَا أُسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإنِّي أُرِيدُ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ثم قَالَتْ: وَقَدْ علِمَ أَن أَبَوَيَّ لاَ يَأْمُرَانِي بِفُراقِهِ، ثُمَّ تَتَابَع أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على مِثْلِ قَوْلِ عَائِشَةَ فاخترن اللّهَ وَرَسُولَهُ رَضِيَ اللّه عنهن». قالتْ فِرْقَةٌ قَوْله: {بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ} يَعُمُّ جَمِيعَ المَعَاصِي ولزمهنَّ رضي اللّه عنهنَّ بحَسْبِ مَكَانَتُهُنَّ، أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمَ غيرَهن، فَضُوعِفَ لهنَّ الأجْرُ والعذابُ.
وقوله: {ضِعْفَيْنِ} معناه: يكونُ العذابُ عذابَين، أي: يضاف إلى عذابِ سائِر النَّاس عذابٌ آخرُ مِثْلهُ و{يَقْنُتْ}: معناه: يُطِيعُ ويَخْضَعُ بالعبُوديَّة؛ قاله الشعبي وقتادة والرزقُ الكريمُ: الجنة. ثم خاطَبَهُنَّ اللّهُ سبحانه بأنّهنّ لَسْنَ كأحدٍ مِن نساءِ عَصْرِهنَّ؛ فَمَا بَعْدُ، بَلْ هُنَّ أَفْضَلُ بشرطِ التَّقْوَى، وإنما خصصنا النساء لأَن فيمن تقدم آسية ومريم فتأملْهُ؛ وقد أشار إلى هذا قتادة. ثم نَهَاهُنَّ سبحانه عما كانت الحالُ عليه في نساء العرَب من مكالَمَةِ الرجال برَخيمِ القولِ؛ و{لاَ تَخْضَعْنَ} معناه: لا تُلِنَّ.
قال ابن زيد: خَضْعُ القَوْل ما يُدْخل في القُلُوبَ العزَل؛ والمرضُ في هذه الآية قال قتادة: هو النفاق.
وقال عكرمة: الفِسْق، والغزل، والقولُ المعروفُ هو الصوابُ الذي لا تنكره الشريعةُ ولا النفوسُ. وقرأ الجمهور: {وقِرْن} بكسر القَافِ، وقرأ نافعُ وعاصِمُ: {وقَرْن} بالفتح، فأما الأولى فيصح أن تكونَ من الوَقار، ويصحُّ أن تَكُونَ من القَرَارِ، وأما قراءة الفتح فعلى لغة العرب قَرِرْتُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَقِرَ بفتح القاف في المكان، وهي لغة ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف وذكرها الزَّجاجُ وغيره، فأمرَ اللّه تعالى في هذه الآية نسَاءَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بملازَمةِ بيُوتِهن، ونَهاهُنَّ عن التبرجِ؛ والتبرّجُ إظهَارُ الزينَةِ والتَّصَنُّعُ بِهَا، ومنه الروجُ لظهُورها وانكشافِها للعيون، واخْتَلَفَ الناسُ في {الجاهلية الأولى} فقالَ الشعبي: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقيل: غيرُ هذا.
قال * ع *: والذي يظهر عندي؛ أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فَأَمِرْنَ بالنَّقْلَةِ عن سِيرَتِهنَّ فِيها، وهي ما كانَ قَبْل الشَّرْعِ مِن سِيرةِ الكَفَرَةِ، وجَعْلِها أولى بالإضافة إلى حالةِ الإسْلام، وليس المعنى. أن ثُمَّ جاهليةً أخِرَة، و{الرجس} اسم يقعُ على الإثم وعلى العذابِ وعلى النَجَاسَات والنقائِص، فأذْهَبَ اللّه جميعَ ذلك عن أهْل البَيْتِ، قالت أم سلمةَ نزلت هذه الآية في بَيْتي؛ فدعا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عليّا وفاطِمَةَ وحَسَنَا وحُسَيْنا فَدَخَلَ مَعَهم تَحْت كساءِ خيبري، وقال «هؤلاءِ أهل بيتي، وقرأ الآية، وقَال اللَّهمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتِ إلى خَيْرَ» والجمهورُ على هذا، وقال ابن عباس وغيره: أهل البيتِ: أزواجه خاصة، والجمهور على ما تقدم.
قال * ع *: والذي يظهر لي: أن أهل البيت أزواجه وبنتُه وبنوها وزوجُها أعنى عليّاً، ولفظ الآية: يقتضي أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن.
قال * ص *: و{أَهْلَ البيت}: منصوبٌ على النداءِ أو على المدْحِ أو على الاخْتِصَاصِ وَهُوَ قَلِيلٌ في المخاطب، وأكْثَرُ ما يكونُ في المتكلِّم، كقوله [الرجز]
نَحْنُ بَنَاتِ طَارِقْ ** نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ

انتهى.
واسْتَصْوَبَ ابنُ هشامٍ نصبَه على النداء، قاله في المغني: وقوله تعالى: {واذكرن} يُعْطِي أنْ أهْل البيتِ نساؤه، وعلى قول الجمهور: هي ابتداء مخاطبةِ والحكمةُ السّنّةُ، فقولُه: {واذكرن} يحتمل مَقْصِدَيْنِ: كِلاهما مَوْعِظَة أحدُهمَا: أن يريدَ تَذَكَّرْنَه، واقْدِرْنَه قَدْرَه، وفَكِّرْنَ فِي أنّ مَنْ هذِهِ حَالُه يَنْبَغِي أن تَحْسُنَ أَفْعَالُه، والثاني: أن يُرِيْدَ: {اذكرن} بمعنى: احْفَظْنَ واقْرَأْنَ وَأَلْزِمْنَهُ أَلسنتَكنَّ.
* ت *: ويحتمل أن يُرَادَ ب {اذكرن} إفشاؤه ونشرُه للناس، واللّه أعلم. وهذا هو الذي فهمُه ابنُ العربيِّ من الآية، فإنَّه قال: أمر اللّه أزواجَ رسولهِ أن يُخْبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن وبما يَرَيْنَ من أفعالِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأقواله، حتى يبلغَ ذلك إلى الناسِ، فيعملوا بما فيه ويَقْتَدُوا به، انتهى. وهوَ حسن وهو ظاهر الآية وقد تقدم له نحو هذا في قوله تعالى: {وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء: 128] الآية.
ذكره في أحكام القرآن.