فصل: تفسير الآيات (174- 176):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (174- 176):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب...} الآية.
قال ابن عَبَّاس وغيره: المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمْر محمَّد صلى الله عليه وسلم، و{الكتاب}: التوراة والإِنجيل.
* ع *: وهذه الآية وإِن كانَتْ نزلَتْ في الأحبار، فإِنها تتناوَلُ من علماء المسلمين مَنْ كتم الحقَّ مختاراً لذلك بسبب دُنْيَا يصيبُهَا، وفي ذكر البَطْنِ تنبيهٌ على مذمَّتهم؛ بأنهم باعوا آخرتهم بحظِّهم من المطعم الذي لا خَطَرَ له، وعلى هُجْنَتِهمْ بطاعة بُطُونهم، قال الرَّبِيع وغيره: سمى مأكولهم ناراً؛ لأنه يؤول بهم إِلى النار، وقيل: يأكلون النار في جَهَنَّمَ حقيقةً.
* ت *: وينبغي لأهل العلْمِ التنزُّه عن أخْذ شيء من المتعلِّمين على تعليم العلْم، بل يلتمسُونَ الأجر من اللَّه عزَّ وجلَّ، وقد قال تعالى لنبيِّه- عليه السلام-: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً...} [الأنعام: 90] الآية، وفي سنن أبي دَاوُدَ، عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قال: عَلَّمْتُ نَاساً مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الكِتَابَ، وَالقُرْآنَ، وأهدى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْساً، فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلأسْأَلَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ أهدى إِلَيَّ قَوْساً مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقاً مِنْ نَارٍ، فاقبلها»، وَفِي روايةٍ: فَقُلْتُ مَا ترى فِيهَا، يَا رَسُولَ اللَّهُ؟ قَالَ: «جَمْرَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْكَ تَقَلَّدْتَهَا أَوْ تَعَلَّقْتَهَا» انتهى.
وقوله تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله}: قيل: هي عبارةٌ عن الغضب عليهم، وإِزالة الرضَا عنهم؛ إِذ في غير موضعٍ من القُرآن ما ظاهره أن اللَّه تعالى يكلِّم الكافرين، وقال الطبريُّ وغيره: المعنى: لا يكلِّمهم بما يحبُّونَهُ.
{وَلاَ يُزَكِّيهِمْ}، أي: لا يطهِّرهم من موجباتِ العذابِ، وقيل: المعنى: لا يسمِّيهم أزكياء.
وقوله تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار}: قال جمهور المفسِّرين: ما تعجُّب، وهو في حيِّز المخاطبين، أي: هم أهلٌ أن تَعْجَبُوا منْهم، وممَّا يطول مُكْثُهم في النَّار، وفي التنزيل: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] و{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38].
وقال قتادة، والحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْر، والربيع: أظهر التعجُّب من صبرهم على النار لَمَّا عملوا عملَ مَنْ وَطَّن نفْسه علَيْها، وتقديره ما أجرأَهم علَى النَّارِ؛ إِذ يعملون عملاً يؤدِّي إِليها، وذهب مَعْمَرُ بْنُ المثنى؛ إِلى أن ما استفهامٌ، معناه: أيُّ شَيْءٍ صبرهم عَلَى النار، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: {ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق...} الآية: المعنى: ذلك الأمر بأنَّ اللَّه نزَّل الكتابَ بالحَقِّ، فكفروا به، والإِشارة إِلى وجوب النَّار لهم.
و{الكتاب}: القُرْآن، و{بالحق}، أي: بالإِخبار الحقِّ، أي: الصادقة.
و{الذين اختلفوا في الكتاب} هم اليهودُ والنصارى، في قول السُّدِّيِّ، وقيل: هم كفَّار العرب؛ لقول بعضهم: هو سِحْرٌ، وبعضهم: أساطير، وبَعْضهم: مفترًى، إِلى غير ذلك.
و{بَعِيدٍ}، هنا: معناه من الحقِّ، والاستقامة.

.تفسير الآية رقم (177):

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
وقوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب...} الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: الخِطَابُ بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى: ليس البرُّ الصلاةَ وحْدها، وقال قتادة، والربيع: الخطاب لليهودِ والنصارى؛ لأنهم تكلَّموا في تحويل القبلة، وفضَّلت كل فرقة تولِّيها، فقيلَ لهم: ليس البرَّ ما أنتم فيه، ولكنَّ البرَّ من آمن باللَّه.
وقوله تعالى: {وَآتَى المال على حُبِّهِ...} الآيةَ: هذه كلُّها حقوقٌ في المال سوى الزكاةِ، قال الفَخْر: وروَتْ فاطمةُ بنْتُ قَيْسٍ، أنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، وتَلاَ: {وَآتَى المال على حُبِّهِ...}، وعنه صلى الله عليه وسلم «لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ طَاوِياً إلى جَنْبِهِ» انتهى.
قال ابن العربيِّ في أحكامه: وإِذا وقع أداء الزكاة، ثم نزلَتْ بعد ذلك حاجةٌ، فإِنه يجبُ صرف المال إِليها باتفاق من العلماءِ، وقد قال مالك: يجبُ على كافَّة المسلمين فِدَاءُ أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالَهُمْ، وكذلك إِذا منع الوالي الزكاةَ، فهل يجبُ على الأغنياء إِغناءُ الفقراء؟ الصحيحُ: وجوبُ ذلك علَيْهم. انتهى.
ومعنى: {أتى}: أعطى على حبِّه، أي: على حبِّ المال، ويحتملُ أن يعود الضميرُ على اسْمِ اللَّه تعالى من قوله: {مَنْ آمَنَ بالله}، أي: من تَصَدَّقَ مَحَبَّة في اللَّه وطاعته.
* ص *: والظاهر أن الضمير في حُبِّهِ عائدٌ على المال؛ لأن قاعدتهم أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إِلاَّ بدليلٍ. انتهى. قال:
* ع *: والمعنَى المقصودُ أن يتصدَّق المرءُ في هذه الوجوهِ، وهو صحيحٌ شحيحٌ يخشَى الفَقْر، ويأمل الغنى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم. والشحُّ؛ في هذا الحديث: هو الغريزيُّ الذي في قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} [النساء: 128] وليس المعنَى أنْ يكون المتصدِّق متَّصِفاً بالشحِّ الذي هو البُخْل.
{وَفِي الرقاب}، أي: العتق، وفَكّ الأسرى.
{والصابرين}: نصبٌ على المدح، أو على إِضمار فعْلٍ، وهذا مَهْيَعٌ في تكرار النعوتِ.
و{البأسآء}: الفَقْر والفاقة.
{والضراء}: المرض، ومصائبُ البدن، وعن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَنْ يدعى إِلَى الجَنَّةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» رواه الحاكم في المستَدْرَكِ، وقال: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ. انتهى من السلاح.
وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن صُهَيْب، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِذَا أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» انتهى.
{وَحِينَ البأس}، أي: وقْتَ شدَّة القتال، هذا قولُ المفسِّرين في الألفاظ الثلاثة، تقولُ العربُ: بَئِسَ الرَّجُلُ إِذَا افتقر، وبَؤُسَ إِذا شَجُع، ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البَرَّة بالصدْقِ في أمورهم، أي: هم عند الظنِّ بهم والرجاء فيهم؛ كما تقول: صَدَقَنِي المَالُ، وصَدَقَنِي الرُّمْحُ، ووصفهم تعالى بالتقى، والمعنى: هم الذين جَعَلُوا بينهم وبين عذاب اللَّه وقايةً.

.تفسير الآيات (178- 179):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص...} الآيةَ: {كُتِبَ}: معناه: فُرِضَ، وأُثْبِتَ، وصورةُ فَرْضِ القصاصِ، هو أنَّ القاتل فُرِضَ عليه، إِذا أراد الوليُّ القتل، الاِستسلامُ لأمر اللَّه، وأن الوليَّ فرض عليه الوقوفُ عند قتل وليِّه، وترك التعدِّي على غيره، فإِن وقع الرضَا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباحٌ، والآية معلِّمة أن القِصَاصَ هو الغايةُ عند التَّشَاحِّ، و{القصاص}: مأخوذ من: قَصِّ الأثر؛ فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل، فقص أثره فيها.
روي عن ابن عَبَّاس؛ أنَّ هذه الآية مُحْكَمة، وفيها إِجمال فسَّرته آية المائدة، وأن قوله سبحانه: {الحر بِالْحُرِّ} يعمُّ الرجال والنساء، وأجمعتِ الأمة على قتل الرجُلِ بالمرأةِ، والمرأة بالرجل.
وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ...} الآيةَ: فيه تأويلاتٌ:
أحدها: أنَّ مَنْ يرادُ بها القاتلُ، و{عُفِيَ}: تتضمن عافياً، وهو وليُّ الدم، والأخُ: هو المقتولُ، و{شَيْءٌ}: هو الدمُ الذي يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابْنِ عَبَّاس، وجماعة من العلماء، والعَفْوُ على هذا القولِ على بابه.
والتأويلُ الثَّاني: وهو قول مالكٍ؛ أنَّ مَنْ يراد بها الوليُّ، وعُفِيَ: بمعنى: يُسِّرَ، لا على بابها في العَفْو، والأخُ: يراد به القاتل، و{شَيْءٌ}: هي الديةُ، والأخوَّة على هذا أخوَّة الإِسلام.
والتأويل الثالثُ: أنَّ هذه الألفاظ في معنى: الَّذين نزلَتْ فيهم الآيةُ، وهم قومٌ تقاتَلُوا، فقتل بعضُهم بعضاً، فأُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يصلحَ بينهم، ويُقَاصَّهم بعضَهم من بعض بالدِّيَات على استواء الأحرار بالأحرار، والنساء بالنساء، والعبيد بالعبيد، فمعنى الآية: فمن فضِل له من إِحدى الطائفتين على الأخرى شيْءٌ من تلك الدِّيَاتِ، وتكون: {عُفِيَ} بمعنى فَضِلَ.
وقوله تعالى: {فاتباع}: تقديره: فالواجبُ والحُكْمُ: اتباع، وهذا سبيلُ الواجباتِ؛ كقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] وأما المندوبُ إِلَيْه، فيأتي منصوباً؛ كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4]، وهذه الآية حضٌّ من اللَّه تعالى على حسن الاقتضاءِ من الطالِبِ، وحُسْنِ القضاء من المُؤَدِّي.
وقوله سبحانه: {ذلك تَخْفِيفٌ} إِشارة إِلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية، وكانت بنو إِسرائيل لا ديَةَ عندهم، إِنما هو القِصَاصُ فَقَطْ، والاعتداء المتوعَّد عليه في هذه الآية، هو أنْ يأخذ الرجُلُ ديةَ وليِّه، ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم.
واختلف في العذابِ الأليم الَّذي يلحقه، فقال فريقٌ من العلماء، منهم مالك: هو كَمَنْ قتل ابتداءً، إِن شاء الوليُّ قتله، وإِن شاء، عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وغيره: يقتل البتَّةَ، ولا عَفْوَ فيه، ورُوِيَ في ذلك حديثٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة}: المعنى: أن القصاص إِذا أقيم، وتحقَّق الحكْمُ به، ازدجر مَنْ يريد قتْلَ أحدٍ مخافَةَ أن يقتصَّ منه، فَحَيِيَا بذلك معاً، وأيضاً: فكانت العربُ إِذا قتل الرجلُ الآخَر، حمي قبيلاَهُما، وتقاتلوا، وكان ذلك داعياً إلى موت العددِ الكثيرِ، فلمَّا شرَعَ اللَّه سبحانه القِصَاص، قنع الكلُّ به، ووقَف عنده، وتركوا الاقتِتال، فلهم في ذلك حياةٌ، وخُصَّ أولو الألباب بالذِّكْر، تنبيهاً عليهم؛ لأنهم العارفون القابلُون للأوامر والنواهِي، وغيرُهم تَبَعٌ لهم.
و{تَتَّقُونَ} معناه: القتل، فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعيةً لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن اللَّه سبحانه يثيبُ على الطاعة بالطاعة.

.تفسير الآيات (180- 182):

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت...} الآية: {كُتِبَ}: معناه: فُرِضَ وأُثْبِتَ، وفي قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ} مجازٌ؛ لأن المعنى: إِذا تخوَّف وحضرتْ علاماتُهُ.
والخير في هذه الآية: المالُ، واختُلِفَ في هذه الآية، هل هي مُحْكَمَةٌ، أو منسوخةٌ، فقال ابنُ عبَّاس، وقتادةُ، والحَسَن: الآيةُ عامَّة، وتقرَّر الحكم بها برهةً، ونسخ منها كلّ من يرث بآية الفرائض، وقال بعضُ العلماء: إِن الناسخ لهذه الآية هي السُّنَّة المتواترةُ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أعطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». و{بالمعروف}: معناه بالقصد الَّذي تعرفه النفوسُ دون إِضرار بالورثة، ولا تَنْزِير للوصية و{حَقّاً}: مصدر مؤكِّد، وخُصَّ المتقون بالذكر؛ تشريفاً للرتبة؛ ليتبادر النَّاس إِليها.
وقوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ...} الآية: الضمير في {بَدَّلَهُ} عائدٌ على الإيصاء، وأمر الميت، وكذلك في {سَمِعَهُ}، ويحتمل أن يعود الذي في {سَمِعَهُ} على أمر اللَّه تعالى في هذه الآية، والأول أسبق للناظر، و{سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: صفتان لا يخفى معهما شيْءٌ من جَنَفِ الموصِينَ، وتبديلِ المتعدينَ، والجَنَفُ: الميل.
ومعنى الآية على ما قال مجاهد: من خشي أن يحيف الموصِي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمَّد الإِذاءة، فذلك هو الجَنَفُ في إِثم، وإِن لم يتعمَّد، فهو الجنف، دون إِثم، فالمعنى: مَنْ وعظه في ذلك وردَّه عنه، وأصلح ما بينه وبين ورثَتِهِ، وما بين الورثة في ذاتهم، فلا إِثم عليه؛ {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بالموصِي، إِذا عملت فيه الموعظة، ورجع عما أراد من الإذاءة.
وقال ابن عبَّاس وغيره: معنى الآية: {مَنْ خَافَ}، أي: علِم، ورأى بعد موت الموصِي؛ أن الموصِيَ حَافَ، وجَنَف، وتعمَّد إذاءة بعض ورثته، {فَأَصْلَحَ} ما بين الورثة، {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وإِن كان في فعله تبديلٌ مَّا؛ لأنه تبديلٌ لمصلحة، والتبديلُ الذي فيه الإِثم إِنما هو تبديلُ الهوى.

.تفسير الآيات (183- 184):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}
قوله جلَّت قدرته: {ياأيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام...} الآية: {كُتِبَ}: معناه فُرِضَ، والصيام؛ في اللغة: الإِمساك، ومنه قوله سبحانه: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} [مريم: 26] وفي الشرع: إِمساكٌ عن الطعام والشراب مقترنةٌ به قرائنُ؛ مِنْ مُراعاة أوقاتٍ، وغير ذلك.
وقوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ}: اختلف في موضع التشبيه: قالتْ فرقة: التشبيهُ: كُتِبَ عليكم كصيامٍ قد تقدَّم في شرع غيركم، ف الَّذِينَ عامٌّ في النصارى وغيرهم.
و{لَعَلَّكُمْ}: ترجٍّ في حقهم.
و{تَتَّقُونَ}: قيل على العموم؛ لأن الصيام؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «جُنَّةٌ ووِجَاءٌ، وسببُ تقوى؛ لأنه يميتُ الشهوات». و{أَيَّامًا معدودات}: قيل: رمضان، وقيل: الثلاثةُ الأيام من كل شهرٍ، ويومُ عاشوراءَ الَّتي نُسخَتْ بشهر رمضان.
* ص *: و{أَيَّامًا}: منصوبٌ بفعل مقدَّر يدلُّ عليه ما قبله، أي: صوموا أياماً، وقيل: {أَيَّامًا}: نصب على الظرف انتهى.
وقوله سبحانه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ}: التقدير: فأفْطَرَ، {فَعِدَّةٌ}، وهذا يسمونه فَحْوَى الخطابِ، واختلف العلماءُ في حَدِّ المرض الذي يقع به الفطْر، فقال جمهور العلماء: إِذا كان به مرضٌ يؤذيه، ويؤلمه أو يخاف تَمادِيَهُ، أو يخافُ من الصوم تزيُّده، صحَّ له الفطْرُ، وهذا مذْهَبُ حُذَّاقِ أصحاب مالكٍ، وبه يناظرونَ، وأما لفظ مالكٍ. فهو المرضُ الَّذي يَشُقُّ على المرء، ويبلغ به، واختلف في الأفضل من الفِطْرِ أو الصَّوْمِ، ومذهبُ مالكٍ استحباب الصومِ لمن قَدَرَ علَيْه، وتقصيرُ الصَّلاة حَسَنٌ؛ لأن الذمَّة تبرأ في رخصة الصلاة، وهي مشغولةٌ في أمر الصيام، والصوابُ: المبادرةُ بالأعمال.
والسَّفَرُ: سفَرُ الطاعةِ؛ كالحجِّ، والجهادِ؛ بإجماع، ويتصلُ بهذَيْن سفَرُ صلَةِ الرَّحِمِ، وطلبِ المعاشِ الضروريِّ.
وأما سفر التجارة، والمباحاتِ، فمختلَفٌ فيه بالمنع، والجواز، والقولُ بالجواز أرجحُ.
وأما سفر العصْيَان، فمختلف فيه بالجوازِ، والمنعِ، والقولُ بالمنع أرجحُ.
ومسافةُ سفر الفطر؛ عند مالك، حيث تقصر الصلاة ثمانيةٌ وأربعون ميلاً.
وقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ}، أي: فالحكم أو الواجب عِدَّةٌ، وفي وجوبِ تتابعها قولانِ، و{أُخَرَ} لا ينصرف للعَدْلِ.
وقوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ...} الآية: قرأ باقي السبعة غيْرَ نافعٍ وابنِ عامر: {فِدْيَةٌ}؛ بالتنوين {طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ بالإِفراد، وهي قراءة حَسَنةٌ؛ لأنها بيَّنت الحكم في اليوم.
واختلفوا في المراد بالآية، فقال ابن عُمَر وجماعةٌ: كان فرضُ الصيامِ هكذا على الناس؛ مَنْ أراد أن يصوم، صام، ومن أراد أن يفطر أطعم مسكيناً، وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. وقالتْ فرقةٌ: في الشيوخ الذين يطيقونه بتكلُّف شديدٍ، والآيةُ عند مالك: إِنما هي فيمَنْ يدركه رمضانٌ ثانٍ، وعليه صومٌ من المتقدِّم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوْمَ، فتركه، والفديةُ عند مالك وجماعةٍ من العلماء: مُدٌّ لكلِّ مسكين.
وقوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّه...} الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: المراد مَنْ أطعم مسكينَيْنِ فصاعدًا، وقال ابن شِهَابٍ: من زاد الإِطعام مع الصوم، وقال مجاهدٌ: مَنْ زاد في الإِطعام على المُدِّ، و{خَيْرًا} الأول قد نُزِّل منزلة مالٍ، أو نفعٍ، و{خَيْرٌ} الثاني والثالثُ صفةُ تفضيلٍ.
وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} يقتضي الحضَّ على الصوْمِ، أي: فاعلموا ذلك وصوموا.
* ت *: وجاء في فضل الصومِ أحاديثُ صحيحةٌ مشهورةٌ، وحدث أبو بكر بْنُ الخَطِيبُ بسنده عن سهل بن سعد الساعديِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْماً تَطوُّعاً، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الجَنَّةِ»، قال: وبهذا الإِسناد عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله. انتهى.
قال ابن عبد البَرِّ في كتابه المسمى ب بهجة المَجالِسِ قال أبو العالية: الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتَبْ.
قال الشيخُ الصالحُ أبو عبد اللَّه محمَّد البلاليُّ الشافعيُّ في اختصاره للإحياء: وذكر السُّبْكِيُّ في شرحه؛ أن الغِيبَةَ تمنع ثوابَ الصوْمِ إِجماعاً، قال البلاليُّ: وفيه نظر؛ لمشقَّة الاحتراز، نعم، إِن أكثر، توجَّهت المقالة. انتهى، وهذا الشيخ البلاليُّ لقيتُهُ، ورويتُ عنه كتابه هَذَا.
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ» قال أبو عمر في التمهيد: وذلك لأن الصوْمَ جُنَّةٌ يستجنُّ بها العَبْدُ من النار، وتُفْتَحُ لهم أبوابُ الجنة؛ لأن أعمالهم تزكُو فيه، وتُقْبَل منهم، ثم أسند أبو عمر عن أبي هريرة، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ قَبْلَهَا: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِم أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ حتى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّائِمُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ المَئُونَةَ، والأذى، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَيْكِ، وَتُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلاَ يَخْلُصُونَ إلى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، ويَغْفِرُ لَهُمْ آخِرَ لَيْلَةٍ، قيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ؟ قَالَ: لاَ، ولَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يوفى أَجْرَهُ إِذَا انقضى»، قال أبو عمر: وفي سنده أبو المِقْدام، فيه ضعف، ولكنَّه محتملٌ فيما يرويه من الفضائل.
وأسند أبو عمر عن الزهْريّ، قال: «تسبيحةٌ في رمَضَان أفضلُ من ألفِ تسبيحةٍ في غيره» انتهى.
* ت *: وخرَّجه الترمذيُّ عن الزهري قال: «تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ تسبيحةٍ في غيره» انتهى.