فصل: تفسير سورة الصافات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة الصافات:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 10):

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)}
قوله عز وجل: {والصافات صَفًّا} الآية، أقْسَمَ تعالى في هذه الآية بأشْيَاءَ مِنْ مخلوقاتِه، قالَ ابنُ مسعودٍ وغيرُه: {الصافات} هي الملائكة تَصُفُّ في السماءِ في عبادةِ اللَّه عز وجل.
وقالت فرقة: المرادُ: صفوفُ بني آدم في القتال في سبيل اللَّهِ، قال * ع *: واللفظُ يَحْتَمِلُ أنْ يَعُمَّ هذه المذكوراتِ كلَّها، قال مجاهد: {وَالزاجِرات} هي الملائكة تَزْجُرُ السحابَ وغير ذلك من مخلوقاتِ اللَّه تعالى، وقال قتادة: {الزاجرات} هي آيات القرآن، و{التاليات ذِكْراً} معناه: القارئات، قال مجاهد: أراد الملائكة التي تَتْلُو ذِكره، وقال قتادة: أراد بني آدم الذين يَتْلُونَ كُتُبَهُ المنزلةَ وتسبيحَه وتكبيرَه ونحوَ ذلك، والمُقْسَمُ عليه: قولهُ: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ}.
وقوله: {مَّارِدٍ} قال العراقيُّ: مَارِدٌ سُخِطَ عَلَيْهِ، وهكذا {مَّرِيدٍ} [الحج: 3] انتهى؛ وهَذَا لَفْظُهُ، والمَلأ الأعلى: أهلُ السَّمَاءِ الدنيا فما فوقها، وسُمِّيَ الكُلُّ منهم أعلاى؛ بالإضَافَةِ إلى ملإ الأرْضِ الذي هو أسفلُ، والضمير في {يَسَّمَّعُونَ} للشياطين، وقرأ حمزة، وعاصم في رواية حفص: {لا يَسَّمَّعُونَ}، بشد السين والميم، بمعنى: لا يَتَسَمَّعُونَ، فينتفي على قراءة الجمهورِ سَمَاعُهُمْ، وإن كانوا يستمعون؛ وهو المعنى الصحيحُ، ويعْضُدُه قولهُ تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] {وَيَقْذِفُونَ} معناه: يُرْجَمُونَ، والدَّحُورُ: الإصْغار والإهانَةُ، لأن الدَّحْرَ هو الدَّفْعُ بِعُنْفٍ، وقال البخاريُّ: {وَيَقْذِفُونَ} يُرْمَوْنَ و{دُحُوراً} مُطْرَدِين، وقال ابن عباسٍ: {مدحوراً} مَطْرُوداً، انتهى، والوَاصِبُ: الدائم؛ قاله مجاهد وغيره، وقال أبو صالح: الواصبُ: المُوجِعُ، ومنه الوَصَبُ، والمعنى: هذه الحالُ هي الغالبةُ على جميع الشياطين إلا مَنْ شَذَّ فَخَطَفَ خَبَراً أو نَبَأً، {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} فأحرقَه، والثَّاقِبُ، النافِذُ بضوئه وشعاعِه المنير؛ قاله قتادة وغيره.

.تفسير الآيات (11- 13):

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)}
وقوله تعالى: {فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} أي: فلا يُمْكِنُهُمْ أن يقولوا إلا أنَّ خَلْقَ مَنْ سواهُم من الأمَمِ والملائِكَة، والجنِّ والسَّمواتِ والأرضِ والمشارِق والمغارِبِ وغير ذلك هو أشَدُّ مِنْ هؤلاءِ المخاطَبِينَ، وبأن الضمير في {خَلَقْنَآ} يرادُ به ما تقدم ذكره، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: ويُؤَيِّدُه ما في مصحف ابن مسعود {أُمْ مَنْ عَدَدْنَا}؛ وكذلك قرأَ الأَعْمَشُ.
وقوله تعالى: {إِنَّا خلقناهم مِّن طِينٍ} أي: خلقُ أصلِهم وهو آدم عليه السلام، واللاّزِبُ: اللازمُ: يَلْزَمُ ما جاورَهُ ويَلْصَقُ به، وهُوَ الصَّلْصَالُ، {بَلْ عَجِبْتَ} يا محمدُ مِنْ إعْرَاضِهِم عن الحق، وقرأ حمزةُ والكسائي {بل عَجِبْتُ} بضمِ التاء؛ وذلك على أن يكونَ تَعَالَى هو المُتَعَجِّبُ ومعنَى ذَلِكَ مِن اللَّه تعالى: أنه صِفًةُ فِعْلٍ، ونحوُه قولهُ صلى الله عليه وسلم: «يَعْجَبُ اللَّهُ مِنَ الشّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» فإنَّما هِي عِبَارَةٌ عَمَّا يُظْهِرُهُ اللَّه تعالى في جِانِبِ المُتَعَجَّبِ مِنْهُ من التعظيمِ أو التحقير حَتَّى يصيرَ الناسُ مُتَعَجِّبِينَ مِنه، قال الثعلبي: قال الحسينُ بن الفضل: التعجبُ من اللَّهِ إنكارُ الشيء، وتعظيمهُ؛ وهو لغة العرب، انتهى.
وقوله: {وَيَسْخَرُونَ} أي: وهمْ يَسْخَرُونَ من نُبُوَّتِكَ.

.تفسير الآيات (14- 26):

{وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)}
وقوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً يَسْتَسْخِرُونَ} يريدُ بالآية: العلامةَ والدلالة، ورُوِيَ أنَّها نزلتْ في رُكَانة وَهُوَ رَجُلٌ من المشركينَ مِن أهلِ مكةَ؛ لقيَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في جَبَلٍ خَالٍ وهُوَ يرعى غَنَماً له؛ وكانَ أقوى أهْلِ زَمانِه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا رُكَانَةُ؛ أَرَأَيْتَ إنْ صَرَعْتُكَ؛ أَتُؤْمِنُ بِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثاً»، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ دُعَاءِ شَجَرَةٍ وإقْبَالَهَا، ونَحْوَ ذَلك مما اخْتَلَفَتْ فيه ألفاظُ الحديثِ، فَلَمَّا فَرَغَ ذلكَ لَم يُؤْمِنْ، وجاءَ إلى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا بني هَاشِمٍ، سَاخِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الأرضِ، فنزلَتْ هذه الآية فيه وفي نُظَرَائِه، و{يَسْتَسْخِرُونَ} قال مجاهد وقتادة: معناه: يَسْخَرُونَ، ثم أمر تعالى نبيَّه أن يُجِيبَ تَقْرِيرَهُمْ واستفهامهم عَنِ البَعْثِ ب {نِعْمَ}، وأن يزيدَهُمْ في الجواب، أنَّهُمْ معَ البعث في صَغَارٍ وذلَّةٍ واستكانةٍ، والدَّاخِرُ: الصَّاغِرُ الذليلُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بيانهُ غيرَ ما مَرَّةٍ، والزَّجْرَةُ الواحدةُ: هِيَ نَفْخَةُ البَعْثِ، قال العِرَاقِيُّ: الزَّجْرَةُ: الصَّيْحَةُ بانتهار، انتهى. و{الدين}: الجزاءُ، وأجمَع المفسِّرُونَ على أن قولَه تعالى: {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} لَيْسَ هو من قولِ الكَفَرَةِ وإنما المعنى: يُقَالُ لهُم.
وقوله: {وأزواجهم} معناه: أنوَاعُهُم وضُرَباؤهم؛ قاله عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة، ومعهم {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله} مِنْ آدَمِيٍّ رَضِيَ بذلكَ، ومن صَنَمٍ وَوَثَنٍ؛ توبيخاً لهم وإظهاراً لِسُوءِ حالهم، وقال الحسنُ: {أزواجهم} نساؤهم المشركاتُ: وقاله ابن عباس أيضاً.
وقوله تعالى: {فاهدوهم} معناه: قَدِّمُوهم واحملوهم على طريق الجحيم، ثم يأمر اللَّهُ تعالى بوقوفهم على جِهَةِ التَّوْبِيخِ لهم والسؤال، قال جمهور المفسرين: يُسْأَلُونَ عن أعمالهم ويُوقَفُونَ على قُبْحِها، وقد تقدَّم قولهُ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ...» الحديثَ، قال * ع *: ويَحْتَمِلُ عندي أنْ يكونَ المعنى على نحوِ ما فسَّره تعالى بقولهِ: {مَالَكُمْ لاَ تناصرون} أي: إنهم مسؤلونَ عن امْتِنَاعِهم عن التَّنَاصُرِ؛ وهذا على جهة التَّوْبِيخِ، وقرأ خلق {لا تَتَنَاصَرُونَ}. * ت *: قال عِيَاضٌ في المدارك: كان أبو إسْحَاقَ الجبنياني ظَاهِرَ الحُزْنِ، كثيرَ الدَّمْعَةِ يَسْرُدُ الصِّيَامَ، قال ولده أبو الطاهِر: قال لي أبي: إن إنساناً بقي في آية سنةً لَمْ يَتَجَاوَزْهَا، وهِي قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} فقلتُ له: أَنْتَ هُوَ؟ فَسَكَتَ، فعلمتُ أَنَّه هو، وكانَ إذا دَخَلَ في الصَّلاَةِ: لَوْ سَقَطَ البيتُ الذي هو فيه، ما التَفَتَ، إقبالاً على صَلاَتِهِ، واشتغالا بمناجَاة ربِّهِ، وكانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَضْيِيقاً على نَفْسِهِ؛ ثم عَلى أَهْلِه، وكان يأكلُ البَقْلَ البَرِّيَّ والجَرَادَ إذا وَجَدَهُ ويَطْحَنُ قُوتَهُ بِيَدِهِ شَعِيراً، ثُم يَجْعَلُهُ بِنُخَالَتِهِ دَقِيقاً في قِدْرٍ مع مَا وَجَدَ مِنْ بَقْلٍ بَرِّيٍّ وَغيرِه، حتى إِنّه رُبَّما رَمَى بِشَيْءٍ مِنْهُ لِكَلْبٍ أَو هِرٍّ؛ فَلا يَأْكُلُهُ، وكانَ لِبَاسُهُ يَجْمَعُهُ مِنْ خِرَقِ المَزَابِلِ وَيُرَفِّعُهُ، وَكَانَ يَتَوَطَّأُ الرَّمْلَ، وَفي الشِّتَاءِ يَأْخُذُ قِفَافَ المَعَاصِرِ المُلْقَاةِ على المَزَابِلِ يجعلُها تَحْتَهُ، قال وَلَدُهُ أبو الطَّاهِرِ: وكنَّا إذا بَقِينَا بلا شَيْءٍ نَقْتَاتُهُ، كُنْتُ أَسْمَعُهُ في اللَّيْل يَقُولُ: [البسيط]
مَالِي تِلاَدٌ ولاَ استطرفت مِنْ نَشَب ** وَمَا أُؤمِّلُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ

إنَّ الْقُنُوعَ بِحَمْدِ اللَّهِ يَمْنَعُنِي ** مِنَ التَّعَرُّضِ للمَنَّانَةِ النَّكِدِ

انتهى.

.تفسير الآيات (27- 34):

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)}
وقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} هذه الجماعَةُ التي يقْبِلُ بعضُها على بعضٍ هي جِنٌّ وإنْسٌ؛ قاله قتادة، وتَسَاؤُلُهم هو على معنى التَّقْرِيعِ واللَّوْمِ والتَّسَخُّطِ، والقائلون: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} إما أنْ يكونَ الإنْسُ يقولونها للشياطينِ؛ وهذا قول مجاهد وابن زيد، وإما أنْ يكونَ ضَعَفَةُ الإنْسِ يقولُونَهَا لِلكبراءِ والقادةِ، واضطَرَبَ المُتَأَوِّلُونَ في معنى قولهم: {عَنِ اليمين}؛ فعبَّر ابنُ زيد وغيرُه عنه بطريقِ الجَنَّةِ، ونحو هذا من العباراتِ التي هي تفسيرٌ بالمعنى، ولا يختصُّ بنَفْسِ اللَّفْظَةِ، والذي يخصُّها مَعَانٍ: منها أن يريدَ باليمين: القوةَ. أي: تحملونَنَا على طريقِ الضَّلاَلَةِ بقوةٍ، ومنها أن يريدَ باليمينِ. اليُمْنَ، أي: تأتوننا من جِهَة النصائِح والعملِ الذي يُتَيَمَّنُ به، ومن المعاني التي تحتملها الآيةُ؛ أن يريدوا أنكم كُنتم تجيئُونَنَا من جهة الشَّهَوَاتِ، وأكثرُ ما يَتَمكَّنُ هذا التأويلُ مع إغواء الشياطين، وقيلَ: المعنى تَحْلِفونَ لنا، فاليمينُ على هذا: القَسَمُ، وقد ذَهَبَ بعضُ العلماءِ في ذكرِ إبليسَ جهاتِ بني آدم في قوله: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} [الأعراف: 17] إلى ما ذكرناه من جهةِ الشهوات. ثم أخْبَرَ تعالى عن قول الجِنّ المجيبينَ لهؤلاءِ بقولهم: {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، أي: ليس الأمْرُ كما ذكرتمْ؛ بل كانَ لكمُ اكتسابُ الكُفْرِ؛ وما كانَ لنَا عليكم حُجَّةٌ، وبنحو هذا فَسَّرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قولُ الجِنِّ إلى {غاوين}. ثم أخْبَرَ تعالى بأنهم جميعاً في العذابِ مشتركون، وأنَّ هذا فعلُه بأهل الجُرْم والكُفْر.

.تفسير الآيات (35- 39):

{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}
وقوله سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله...} الآية، قُلْتُ: جاء في فضل لاَ إله إلاَّ اللَّهُ أحاديثُ كثيرةٌ؛ فمنها ما رواه أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَالَ موسى: يَا رَبِّ؛ علِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ بِهِ، وأدْعُوكَ بِهِ، قال: قُلْ، يَا مُوسَى: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ قال: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا، قَالَ: قُلْ: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ قَالَ: إنَّمَا أُرِيدُ شَيْئاً تَخُصُّنِي بِهِ، قَالَ: يَا موسى، لَوْ أَنَّ السموات السَّبْعَ والأَرْضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، ولاَ إله إلاَّ اللَّهُ في كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» رواه النسائي وابن حِبَّانَ في صحيحه، واللفظ لابن حِبَّان، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «وقول لاَ إله إلاَّ اللَّهُ لاَ تَتْرُكُ ذَنْبَاً وَلاَ يُشْبِهُهَا عَمَلٌ»، رواه الحاكم في المُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ وقال صحيح الإسنَاد، انتهى منَ السِّلاح، والطائفةُ التي قالَتْ: {أَئِنَّا لَتَارِكُواْ ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} هي قريشٌ وإشارتهم بالشاعر إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقوله: {بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} الذينَ تَقَدَّمُوهُ، ثم أَخْبَرَ تعالى مخاطباً لهم بقوله: {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} الآية.

.تفسير الآيات (40- 48):

{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)}
وقوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناءٌ مُنْقَطِعٌ وهؤلاءِ المؤمنون.
وقوله: {مَّعْلُومٌ} معناه: عندهُمْ.
وقوله: {بَيْضَآءَ} يَحْتَملُ أَنْ يعودَ على الكأسِ، ويحتملُ أنْ يعودَ على الخَمْرِ، وهو أظهرُ قال الحسنُ: خَمْرُ الجَنَّةِ أَشَدُّ بياضاً مِنَ اللَّبَنِ، وفي قراءة ابن مسعود: {صفراء} فهذا وصفُ الخمرِ وحدَها، والغَوْلُ: اسمٌ عامٌّ في الأذى، وقال ابن عباس وغيره: الغَوْلُ: وَجَعٌ في البطْنِ، وقال قتادةُ هو صُدَاعٌ في الرَّأْسِ و{يُنزَفُونَ} من قولك: نُزِفَ الرَّجُلُ إذا سَكِرَ، وبإذْهابِ العَقْلِ فَسَّره ابن عباس، وقرأ حمزة والكسائي {يُنْزِفُونَ} بكسرِ الزاي من أتْرَفَ وله معنيان.
أحدهما: سَكِر.
والثاني: نَفِدَ شَرَابُه.
وهذا كله مَنْفِيٌّ عَنْ أهلِ الجنَّةِ.
و{قاصرات الطرف} قال ابن عباس وغيره معناه على أزواجهن، أي: لا ينظُرْنَ إلى غيرهم، و{عِينٌ}: جَمْعُ عَيْنَاءَ، وهي الكَبِيرةُ العَيْنينِ في جَمَالٍ.

.تفسير الآيات (49- 53):

{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)}
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} قال ابن جبير والسُّدِّيُّ: شَبَّه ألوانَهُنَّ بِلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ الداخليِّ، وهو المكنونُ، أي المَصُونُ، ورجَّحَه الطبريُّ، وقال الجمهور: شَبَّه أَلْوَانَهُنَّ بَلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ من النَّعَامِ، وهو بياضٌ قَدْ خالَطَتْهُ صُفْرَةٌ حَسَنَةٌ، و{مَّكْنُونٌ} أي: بالريش، وقال ابن عباس فيما حَكَى الطَبريُّ: الْبَيْضُ المَكْنُونُ أَرَادَ به الجَوْهَرَ المَصُونَ، قال * ع *: وهذا يَرُدُّهُ لَفْظُ الآيةِ، فلا يَصِحُّ عَنِ ابن عباس.
وقوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ...} الآية، هذا التَّساؤُلُ الذي بَيْنَ أهْلِ الجَنَّةِ هو تساؤُلُ رَاحَةٍ وَتَنَعُّمٍ؛ يَتَذَاكَرُونَ أمُورَهُمْ في الجَنَّةِ وأمْرَ الدنيا وحالَ الطَّاعَةِ والإيمَانِ فيها، ثم أخْبَرَ تعالى عَنْ قَوْلِ قائِلٍ منهم في قِصَّتِهِ، وهو مثالٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ قَرِينُ سَوْءٍ، فَيُعْطِي هَذَا المثالُ التَّحَفُّظَ مِنْ قُرَنَاءِ السوءِ، قال الثعلبيُّ: قوله: {إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ} قال مجاهد: كان شَيْطَاناً، انتهى، وقال ابنُ عباس وغيره: كان هذانِ منَ البَشَرِ؛ مُؤمِنٌ وكَافِرٌ، وقال فُرَاتُ بْنُ ثَعْلَبَةَ البَهْرَانِيُّ في قَصَصِ هَذَيْنِ: إنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ بثمانيةِ آلاف دينارٍ، فكَانَ أحدُهُمَا مَشْغُولاً بِعِبَادةِ اللَّهِ، وكان الآخرُ كافراً مُقْبِلاً على مَالِهِ، فَحَلَّ الشَّرِكَةَ مع المؤمِنِ وَبقيَ وَحْدَه لِتَقْصِيرِ المؤمِنِ في التِّجَارَةِ، وجَعَلَ الكَافِرُ كُلَّمَا اشْتَرَى شَيْئاً من دَارٍ أو جَاريةٍ أو بستانٍ ونحوِهِ، عرضه عَلى المؤمِنِ وفَخَرَ عليه، فَيَمْضِي المؤمِنُ عندَ ذلكَ، وَيَتَصَدَّقُ بنحوِ ذلك؛ لِيَشْتَرِي بِه من اللَّهِ تعالى في الجَنَّةِ، فكانَ مِنْ أمرِهمَا في الآخِرَةِ ما تَضَمَّنَتْهُ هذه الآية، وحكى السُّهَيْلِيُّ أن هذين الرجلَيْنِ هما المذكورانِ في قوله تعالى: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب} الآية [الكهف: 32] انتهى، و{مَدِينُونَ} معناه: مُجَازَوْنَ مُحَاسَبُونَ؛ قاله ابن عَبَّاس وغيره.

.تفسير الآيات (54- 61):

{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)}
وقوله تعالى: {قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} الآية، في الكلامِ حَذْفٌ، تقديرُه: فقالَ لِهذَا الرجلُ حاضِرُوهُ مِنَ الملائِكَةِ: إنَّ قَرِينَكَ هذا في جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ فقال عند ذلك: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} يخَاطِبُ ب {أَنْتُم} الملائكةَ أو رفقاءَه في الجنةِ أو خَدَمَتَهُ؛ وَكُلَّ هذا حَكَى المَهْدَوِيُّ، وقَرَأ أبو عمرو في رواية حُسَيْنٍ {مُطْلِعُونَ} بسكون الطاء وفتح النون، وقرِئ شاذًّا {مُطْلِعُونِ} بسكون الطاء وكسر النون، قال ابن عباس وغيره: {سَوَآءِ الجحيم} وَسَطُه، فقال له المؤمِنُ عند ذلك: {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي: لَتُهْلِكُنِي بإغْوائِكَ، والرَّدَى: الهلاكُ، وقولُ المؤمِنِ: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلى قوله: {بِمُعَذَّبِينَ} يحتملُ أن تكونَ مخاطبةً لِرُفَقَائِهِ في الجَنَّةِ، لمَّا رأى مَا نَزَلَ بِقَرِينِهِ، ونَظَرَ إلى حالِه في الجنَّةِ وحالِ رُفَقَائِهِ؛ قَدَّرَ النعمةَ قَدْرَهَا، فَقَالَ لهم على جهة التوقيفِ على النِّعْمَةِ: أفما نحن بميِّتين ولا معذَّبين، ويجيء على هذا التأويل قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} إلى قوله: {العاملون} مُتَّصِلاً بكَلاَمِهِ خِطَاباً لرفقائهِ، ويحتمل قوله: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} أن تكونَ مخاطبةً لقرينِه؛ على جهة التوبيخ، كأنَّه يقول: أين الذي كنتَ تقولُ من أنَّا نموتُ وَلَيْسَ بَعْدَ الموتِ عِقَابٌ ولا عَذَابٌ، ويكونُ قولُه تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} إلى قوله: {العاملون} يحتمل أنْ يَكُونَ من خِطَابِ المُؤْمِنِ لقرينهِ؛ وإليه ذَهَبَ قتادة، ويحتملُ أنْ يَكُونَ من خِطَابِ اللَّه تعالى لمحمَّد عليه السلام وأُمَّتِه، ويُقَوِّي هذَا قَوْلُهُ: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} وهُوَ حَضٌّ عَلى العَمَلِ؛ والآخِرَةُ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَل.