فصل: تفسير الآيات (45- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (45- 52):

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
وقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة...} الآية، قال مجاهدٌ وغيره نَزَلَتْ في قراءةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سورةُ النَّجم عِنْدَ الكَعْبَةِ بِمَحْضَرٍ من الكُفَّارِ، وقرأ {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى...} [النجم: 19] الآية، وألقى الشيطانُ يَعْنِي في أسْمَاعِ الكفارِ تلك الغَرِانِقَةَ العلى عَلَى مَا مَرَّ في سُورَةِ الحَج، فَاسْتَبْشَرُوا، واشمأَزَّتْ نُفُوسُهُمْ: معناه: تَقَبَّضَتْ كِبْراً وأَنَفَةً وكَرَاهِيَةً ونَفُوراً.
وقوله تعالى: {قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات...} الآية، أَمْرٌ لنبيهِ عليه السلام بالدعاءِ إليه وَرَدِّ الحُكْم إلى عَدْلِهِ، ومعنى هذا الأَمْرِ تَضمُّنُ الإجابةِ.
وقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} قال الثعلبيُّ: قال السُّدِّيُّ: ظَنُّوا أشياءَ أَنَّهَا حسناتٌ فبدَتْ سَيِّئاتٍ، قال * ع *: قال سفيانُ الثوريُّ: ويلٌ لأهل الرياءِ مِن هذه الآية، وقال عكرمة بن عَمَّار: جَزع محمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ عند المَوْتِ، فقيل له: ما هَذَا؟ فقال: أخافُ هذه الآيةَ {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ}.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مِّنَّا...} الآية، قال الزَّجَّاجُ: التَّخْوِيلُ العطاءُ عَنْ غَيْرِ مُجَازَاةٍ، والنِّعْمَةُ هنا عامَّةٌ في المالِ وغيرِه، وتَقْوَى الإشارةُ إلى المالِ بقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} قال قتادة: يريد إنما أُوتيتُهُ على علْمٍ مِنِّي بوجهِ المَكَاسِبِ والتِّجاراتِ، ويحتملُ أن يريد: على عِلْمٍ من اللَّهِ فيَّ واستحقاق حُزْتُهُ عندَ اللَّه، ففي هذا التأويلِ اغترارٌ باللَّه، وفي الأول إعْجَابٌ بالنَّفْسِ، ثم قال تعالى: {بَلْ هي فِتْنَةٌ} أي: ليس الأمْرُ كما قَال؛ بل هذه الفَعْلَةُ بهِ فِتْنَةٌ له وابتلاء، ثم أَخْبَرَ تعالى عمَّنْ سَلَفَ من الكَفَرَةِ؛ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا هذه المقالَةَ كَقَارُونَ وغيره، {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} مَنَ الأمْوَالِ، {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَءِ} المعاصرينَ لَكَ، يا مُحَمَّدُ، {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ}. قال أبو حَيَّان: {فَمَا أغنى} يحتملُ أن تَكونَ {ما} نافيةً أو استفهاميةً فيها معنى النّفْي، انتهى.

.تفسير الآيات (53- 54):

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)}
وقوله تعالى: {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله...} الآية، هذه الآيةُ عامَّةٌ في جميع النَّاسِ إلى يوم القيامةِ، فتَوْبَةُ الكَافِرِ تَمْحُو ذَنْبَهُ، وتوبة العاصي تمحو ذنبَهُ؛ على ما تقدَّم تفصيلُهُ، واختُلِفَ في سبب نزولِ هذه الآية، فقال عطاءُ بن يَسَارٍ: نزلَتْ في وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حمزة، وقال ابن إسحاق وغيره: نزلَتْ في قومٍ بمكَّةَ آمنوا، ولم يُهَاجِرُوا وفَتَنَتْهُمْ قُرَيْشٌ، فافتتنوا، ثم نَدِمُوا وَظَنُّوا أنهم لا تَوْبَةَ لَهم، فنزلَتِ الآيةُ فِيهِم، منهم الوَلِيدُ بْنُ الوَلِيدِ وَهِشَامُ بْنُ العَاصي؛ وهذا قولُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وأنه كَتَبَهَا بِيدِهِ إلى هشامِ بْنِ العَاصِي، الحديثَ، وقالتْ فرقةٌ: نزلَتْ في قومٍ كُفَّارٍ مِنْ أهْلِ الجاهليَّةِ، قالوا: وَمَا يَنْفَعُنَا الإسْلاَمُ، وَنَحْنُ قد زَنَيْنَا وَقَتَلْنَا النَّفْسَ، وأَتَيْنَا كُلَّ كبيرةٍ، فَنَزَلَتِ الآيةُ فِيهمْ، وقالَ عليُّ بْنُ أبي طَالِبِ، وابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عُمَرَ: هذِهِ أرْجَى آية في القرآن، ورَوَى ثَوْبَانُ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لي الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِهَذِهِ الآيةِ: {قُلْ يا عبادى...}» و{أَسْرَفُواْ} معناه أَفْرَطُوا، والقَنَطُ أعْظَمُ اليَأْسِ، وقرأ نافعٌ والجمهورُ {تَقْنَطُوا} بفتح النون، قال أبو حاتم: فيلزمهم أن يقرؤوا {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} [الشورى: 28] بكسرها ولم يقرأْ بهِ أحَدٌ، وقرأ أبو عمرو {تَقْنِطُوا} بالكسر.
وقوله: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} عمومٌ بمعنى الخصوصِ؛ لأن الشِّرْكَ لَيْسَ بداخلٍ في الآيةِ إجماعاً، وهي أيضاً في المعاصِي مقيَّدةٌ بالمشيئةِ، ورُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ: {إن اللَّه يغفرُ الذنوبَ جَميعاً ولاَ يُبَالِي} وقَرَأَ ابنُ مَسْعُودٍ: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لِمَنْ يَشَاءُ} {وأنيبوا} معناه: ارجعوا.

.تفسير الآيات (55- 60):

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)}
وقوله سبحانه: {واتبعوا أَحْسَنَ} معناه: أن القرآن العزيزَ تضمَّنَ عقائدَ نيرةً وأوامرَ ونواهيَ مَنْجِيَةً وَعِدَاتٍ على الطاعاتِ، والبِرِّ، وتضمَّن أيضاً حدوداً على المعاصِي وَوَعِيداً على بَعْضِها فالأحسنُ للمرءِ أنْ يسلك طَريق الطاعةِ والانتهاءِ عن المعصيةِ والعفوِ في الأمورِ ونحوِ ذلك مِنْ أنْ يسلكَ طريقَ الغَفْلَةِ والمعصيةِ؛ فَيُحَدُّ أو يَقَعَ تَحْتَ الوعيدِ، فهذا المعنى هو المقصود ب {أَحْسَنَ}، وليس المعنى: أنَّ بعضَ القرآن أحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ منْ حيثُ هو قرآن، * ت *: وروى أبو بكرِ بْنُ الخَطِيبِ بسنده عن أبي سعيد الخدريِّ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: في قولِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ: {يَا حسرتى} قال: الحسرةُ أن يرى أهلُ النارِ منازِلَهُمْ من الجنة، قال: فهي الحسرةُ، انتهى.
وقوله: {فَرَّطَتُ في جَنبِ الله} أي: في جِهَةِ طاعتهِ وتضييعِ شريعتِه والإيمانِ به، وقال مجاهدٌ: {فِى جَنبِ الله} أي: في أمر اللَّه، وقولُ الكافِر: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} نَدَامَةً على استهزائه بِأَمْرِ اللَّهِ تعالى، و{كرة} مصدرٌ مِنْ كَرّ يَكُرُّ، وهذا الكونُ في هذه الآيةِ داخلٌ في التَّمَنِّي، وباقي الآيةِ أنوارُهُ لائحةٌ، وحُجَجُهُ واضحةٌ، ثم خاطبَ تعالى نبيَّه بِخَبَرِ مَا يَرَاهُ يومَ القيامةِ من حالَةِ الكُفّار، وفي ضِمْنِ هذَا الخبرِ وَعِيدٌ بَيِّنٌ لمعاصريه عليه السلام فقال: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} {ترى} من رؤيةِ العينِ، وظاهرُ الآية أنَّ وجوههم تَسْوَدُّ حقيقةً.

.تفسير الآيات (61- 66):

{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}
وقوله سبحانه: {وَيُنَجِّى الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ...} الآية، ذَكَر تعالى حَالَةَ المُتَّقينَ ونجاتهم؛ لِيُعَادِلَ بِذَلِكَ ما تَقَدَّمَ من شَقَاوَةِ الكَافِرِينَ، وفي ذلك تَرْغِيبٌ في حالةِ المتقين؛ لأن الأشياء تَتَبَيَّنُ بِأضْدَادِها، ومفازتهم مصدَرٌ مِن الفَوْزِ، وفي الكلام حَذْفُ مضافٍ، تقديرُهُ: ويُنَجِّي اللَّهُ الذين اتقوا بأسْبَابِ مفازَتِهِمْ، وال {مَقَالِيدُ}: المفاتيح؛ وقاله ابن عباس واحدها مِقْلاَدُ ك مِفْتَاحٍ، وقال عثمان بن عَفَّان: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن {مَقَالِيدُ السموات والأرض} فقال: «هِيَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ يُحْيِي ويُمِيتُ، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} قالت فرقة: المعنى: ولقد أوحِي إَلى كُلِّ نبيٍّ؛ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، * ت *: قد تقدَّمَ غيرُ مَا مَرَّةٍ، بأنَّ ما وَرَدَ مِن مِثْلِ هذا، فهو محمولٌ على إرادةِ الأمَّةِ لعِصْمَة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المرادُ مَنْ يمكنُ أنْ يَقَعَ ذلكَ مِنْهُ، وخُوطِبَ هو صلى الله عليه وسلم تعظيماً للأمْرِ، قال * ص *: {لَيَحْبَطَنَّ} جوابُ القَسَمِ، وجَوابُ الشَّرْطِ محدوفٌ؛ لِدَلاَلَةِ جَوابِ القسمِ عليه، انتهى.

.تفسير الآيات (67- 72):

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)}
وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} معناهُ وما عَظَّمُوا اللَّه حقَّ عظَمتهِ، ولا وَصَفُوهُ بصفاتِهِ، ولا نَفَوْا عَنْهُ مَا لاَ يليقُ به، قال ابن عبَّاسٍ: نزلتْ هذه الآيةُ في كُفَّارِ قُرَيْشٍ الذينَ كَانَتْ هذهِ الآياتُ كلُّها محاورةً لهم، وردًّا عليهم، وقالت فرقة: نزلتْ في قومٍ من اليهودِ تَكَلَّمُوا في صفاتِ اللَّه تعالى، فَأَلْحَدُوا وَجَسَّمُوا وَأَتَوْا بِكُلِّ تَخْلِيطٍ.
وقوله تعالى: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} معناه: في قَبْضَتِهِ، واليمينُ هنا، والقبضةُ عِبارةٌ عَنِ القُدْرَةِ والقُوَّةِ، وما اختلج في الصُّدُورِ من غَيْرِ ذَلِكَ بَاطِلٌ و{فَصَعِقَ} في هذه الآية، معناه: خَرَّ مَيِّتاً، والصُّورُ: القَرنُ، ولا يُتَصَوَّرُ هنا غَيْرُ هذا، ومَنْ يَقُولُ: {الصور} جمع صُورَةٍ، فإنما يَتَوجَّهُ قولهُ فِي نَفْخَةِ البَعْثِ، وقد تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِ هذه الآيةِ في غَيْرِ هذا المَوْضِعِ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} هي نفخةُ البَعْثِ، وفي الحديث: «أَنَّ بَيْن النَّفْخَتَيْنِ أربعين» لاَ يَدْرِي أبو هريرةَ سَنَةً أو شَهْراً أَوْ يَوْماً أَوْ سَاعَةً * ت *: ولفظُ مُسْلِمٍ: عن أبي هريرةَ قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «ومَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، قَالُوا: يَا أَبا هُرَيْرَةَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْراً؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَربَعُونَ يَوماً؟ قالَ: أَبَيْتُ» الحَدِيثَ، قال صَاحِبُ التَّذْكِرَةِ: فقيل: معنى قوله: أَبَيْتُ أي: امتنعت من بَيَانِ ذلك؛ إذْ ليس هو مِمَّا تَدْعُو إليه حاجةٌ، وعلى هذا كانَ عِنده عِلْمُ ذلك، وقيل: المعنى: أَبَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلك، وعلى هذا: فلاَ عِلْمَ عِنْدَهُ، والأَوَّلُ أظْهَرُ، وقد جاء أَنَّ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَاماً، انتهى، وقد تَقَدَّمَ أنَّ الصحيحَ في المستثنى في الآيةِ أَنَّهُمُ الشُّهَدَاءُ قَال الشيخُ أبو محمَّدِ بْنُ بُزَيزَةَ في شرح الأحكام الصغرى لعبد الحَقِّ: الذي تلقيناه من شيوخنا المحققين أن العَوالِمَ التي لاَ تفنى سَبْعَةٌ: العَرْشُ، والكُرْسِيُّ، واللَّوْحُ، والقلم، والجَنَّةُ، والنَّارُ، والأَرْوَاحُ. انتهى.
{وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا} معناه: أضاءت وعَظُمَ نُورُهَا، و{الأرض} في هذه الآية: الأرض المُبَدَّلَةُ من الأرْضِ المَعْرُوفَةِ.
وقوله: {بِنُورِ رَبِّهَا} إضَافَةُ مُخلوق إلى خَالقٍ، و{الكتاب} كتابُ حِسَابِ الخلائِقِ، وَوَحَّدَهُ على اسم الجِنْسِ؛ لأنَّ كلَّ أحَدٍ له كتابٌ عَلى حِدَةٍ، {وَجِيءَ بالنبيين} أي: لِيَشْهَدُوا على أممهم، و{الشهداء} قيل: هو جمع شَاهِد وقيل: هو جمع شَهِيدٍ في سبِيلِ اللَّهِ، والأولُ أبْيَنُ في معنى التَّوَعُّدِ، والضميرُ في قوله {بَيْنَهُمْ} عائدٌ على العالم بِأجْمَعِهِ، إذِ الآيةُ تدلُّ عليهم، و{زُمَراً} مَعْنَاهُ: جماعاتٍ متفرقةً، واحدتها: زُمْرَة.
وقوله: {فُتِحَتْ} جوابُ إذَا، والكَلاَمُ هنا يَقْتَضِي أن فَتْحَها إنما يكُونَ بَعْدَ مجِيئِهم، وفي وُقوفِهِم قَبْل فَتْحِها مَذَلَّةٌ لهُمْ، وهَكَذا هي حالُ السُّجُونِ ومَواضِعِ الثِّقَافِ والعَذَابِ؛ بِخلافِ قولِهِ في أَهْلِ الجَنَّةِ {وَفُتِحَتْ}، فالواو مؤذِنَةٌ بأنهم يَجِدُونَها مَفْتُوحَةً كَمَنَازِلِ الأَفْرَاحِ والسُّرُورِ.
وقوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبِّكُمْ...} الآية، في قوله: {مِّنكُمْ} أعْظَمُ في الحُجَّةِ، أي: رُسُلٌ مِنْ جِنْسِكُمْ؛ لا يَصْعُبُ عليكم مَرَامُهم، ولا فَهْمُ أقوالِهِم.

.تفسير الآيات (73- 75):

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}
وقوله تعالى: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ}: لَفْظٌ يعمُّ كُلَّ مَنْ يدخلُ الجنةَ من المؤمنينَ الذين اتقوا الشِّرْكَ، والواو في قوله: {وَفُتِحَتْ} مؤذِنَةٌ بأنها قَدْ فتحت قبل وصولهِم إليها، وقالتْ فِرْقَةٌ: هي زائدةٌ وقالَ قَوْمٌ: أشَارَ إلَيْهِمُ ابن الأنباريِّ، وضَعَّفَ قولَهُم: هذه واو الثمانيةِ، وقد تقدَّم الكلامُ عليها، وجَوابُ إذا فُتِحَتْ، وعَنِ المُبَرِّدِ: جوابُ إذا محذوفٌ، تقديره بعد قوله: {خالدين}: سُعِدُوا وسقطَتْ هذه الواوُ في مصحف ابن مسعود، {وسلام عَلَيْكُمْ} تحيةٌ، و{طِبْتُمْ} معناه: أعمالاً ومُعْتَقَداً وَمُسْتَقَرّاً وجَزَاءً، {وَأَوْرَثَنَا الأرض} يُريدُ: أرْضَ الجَنَّةِ، و{نَتَبَوَّأُ} معناه: نتخذ أَمْكِنَةٌ ومَسَاكِنَ، ثم وَصَفَ تعالى حَالَةَ الملائِكَةِ مِنَ العَرْشِ وَحُفُوفَهُمْ به والحفُوفُ الإحْدَاقُ بالشَّيْءِ، وهذه اللفظة مأخوذةٌ من الحِفَافِ، وهو الجانبُ، قال ابن المبارِك في رقائقه: أخبرنا مَعْمَرٌ عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمْرَةَ عن علي؛ أنه تلا هذه الآية: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَاءُوهَا} قال: وَجَدُوا عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ شَجَرَةً يخرجُ مِنْ ساقها عَيْنَانِ، فَعَمَدُوا إلى إحداهما كأنما أمروا بها، فاغْتَسَلُوا بها، فَلَمْ تَشْعَثْ رُؤُوسُهم بَعْدَها أبداً، ولم تَتَغَيَّرْ جُلُودُهُمْ بَعْدَهَا أبداً كأنما دُهِنُوا بِالدُّهْنِ، ثم عمدوا إلى الأخرى، فَشَرِبُوا مِنْهَا، فَطَهُرَتْ أجوافُهم، وغَسَلَتْ كُلَّ قَذِرٍ فيها، وَتَتَلَقَّاهُمْ على كلِّ بَابٍ مِنْ أبوابِ الجَنَّةِ ملائكةٌ: {سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين}، ثم تتلقَّاهم الوِلْدَانُ يُطِيفُونَ بهم كما يُطِيفُ وِلْدَانُ الدُّنْيا بالحَمِيمِ، يجيءُ من الغَيْبَةِ يقولونَ: أَبْشِرْ، أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، وأَعَدَّ اللَّهُ لَكَ كَذَا، ثم يَذْهَبُ الغُلاَمُ مِنْهُمْ إلى الزَّوْجَةِ مِنْ أزْوَاجِهِ، فيقولُ: قَدْ جَاءَ فُلاَنٌ باسمه الَّذِي كَانَ يَدَّعِي به في الدنيا، فَتَقُولُ لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَيَسْتَخِفُّها الفَرَحُ حتى تَقُومَ على أُسْكُفَّةِ بَابِها، ثم ترجِعُ، فيجيءُ، فَيَنْظُرُ إلى تَأْسِيسِ بنيانِهِ من جَنْدَلِ اللؤلؤ أخضَرَ وأصْفَر وأحْمَر؛ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ ثم يجلسُ فينظُرُ؛ فإذا زَرَابِيُّ مبثُوثَةٌ، وأكوابٌ موضوعَةٌ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَلَوْلاَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ، لأَذْهَبَ بَصَرَهُ إنَّما هُوَ مِثْلُ البَرْقِ؛ ثم يقول: الحمدُ لِلَّهِ الذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، انتهى.
وقوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} قَالَتْ فرقَةٌ معناه: أَنَّ تَسْبِيحَهُمْ يتأتى بِحَمْدِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، وقالَتْ فرقةٌ: تسبيحُهُمْ هُوَ بتردِيدِ حَمْدِ اللَّهِ، وتَكْرَارِهِ، قال الثعلبيُّ: مُتَلَذِّذِينَ لاَ مُتَعَبِّدِينَ مُكَلَّفِينَ.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} خَتْمٌ للأمرِ، وقولٌ جَزْمٌ عِنْدَ فصلِ القَضَاءِ، أي: أن هذا المَلِكَ الحَاكِمَ العادلَ ينبغي أن يُحْمَدَ عِنْدَ نفوذِ حكمه وإكمال قضائِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَمِنْ هذه الآيةِ جُعِلَتْ {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} خَاتمةَ المجالِسِ والمُجْتَمَعَاتِ في الْعِلْمِ، قال قَتَادَةُ: فَتَحَ اللَّهُ أَوَّلَ الخَلَقِ بالحمدِ، فقال: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض} [الأنعام: 1] وخَتَمَ القيامَةَ بالحَمْدِ في هذه الآية.
قال * ع *: وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ {الحمد للَّهِ ربالعالمين} فَاتِحَةَ كتابهِ؛ فَبِه يُبْدَأ كلُّ أمْرٍ وَبِه يُخْتَمُ، وحَمْدُ اللَّهِ تعالى وتقديسُهُ ينبغي أن يكونَ مِن المؤمنِ؛ كما قيل: [الطويل]
وَآخِرُ شَيْءٍ أَنْتَ في كُلِّ ضَجْعَةٍ ** وَأَوَّلُ شَيْءٍ أَنْتَ عِنْدَ هُبُوبي