فصل: تفسير الآيات (51- 54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (51- 54):

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}
وقوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ...} الآية، ذَكَرَ سبحانه الخُلُقَ الذميمة من الإنسان جملةً، وهي في الكافر بَيِّنَةٌ متمكِّنة، وأَمَّا المُؤْمِنُ، ففي الأغلب يَشْكُرُ على النعمة، وكثيراً ما يصبر عند الشدة، و{نأى} معناه: بَعُدَ ولم يَمِلْ إلى شُكْر ولا طَاعَةٍ.
وقوله: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي: وطويلٍ أيضاً، وعبارةُ الثعلبيِّ: {عَرِيضٍ} أي: كثير، والعربُ تستعملُ الطُّولَ والعَرْضَ كليهما في الكَثرة من الكلام، انتهى.
ثم أمر تعالى نبيَّهُ أنْ يوقِّف قريشاً على هذا الاحتجاج، وموضع تغريرهم بأنفسهِم، فقال: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله}، وخالفتموه ألستم على هلكة؟ فمن أَضَلَّ مِمَّنْ يبقى على مِثْلِ هذا الغَرَرِ مَعَ اللَّهِ؛ وهذا هو الشِّقَاقُ؛ ثم وعد تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بأَنَّهُ سَيُرِي الكُفَّارَ آياته، واختلف في معنى قوله سبحانه: {فِى الأفاق وَفِى أَنفُسِهِمْ} فقال المِنْهَالُ والسُّدِّيُّ وجماعةٌ: هو وَعْدٌ بما يفتحه اللَّه على رسوله من الأقطارِ حَوْلَ مَكَّةَ، وفي غيرِ ذَلِكَ مِنَ الأَرْضِ؛ كخَيْبَرَ ونحوها {وَفِى أَنفُسِهِمْ}: أراد به فَتْحَ مَكَّةَ؛ قال * ع *: وهذا تأويلٌ حَسَنٌ، يتضمَّن الإعلام بِغَيْبٍ ظَهَرَ بَعْدَ ذلك، وقال قتادةُ والضَّحَّاكُ {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الأفاق}: هو ما أصاب الأُمَمَ المُكَذِّبَةَ في أقطار الأرض قديماً، {وَفِى أَنفُسِهِمْ}: يوم بدر، والتأويلُ الأَوَّلُ أرْجَحُ، واللَّه أعلم، والضمير في قوله تعالى: {أَنَّهُ الحق} عائد على الشرع والقرآن فبإظهار اللَّهِ نَبِيَّهُ وفتحِ البلاد عليه يتبيَّن لهم أَنَّه الحَقُّ.
وقوله: {بِرَبِّكَ} قال أبو حَيَّان: الباء زائدة، وهو فاعل {يَكُفَّ} أي: أو لَمْ يَكْفِهِمْ رَبُّكَ، انتهى، وباقي الآية بَيِّنٌ.

.تفسير سورة الشورى:

وهي مكية.
وقال مقاتل: فيها مدني قوله تعالى: {ذلك الذي يبشر الله عباده} إلى: {الصدور}.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)}
قوله تعالى: {حمعاساقا} قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس: إنَّ {حمعاساقا} هذه الحروف بأعيانِهَا نزلَتْ في كُلَّ كُتُبِ اللَّهِ المُنَزَّلَةِ على كُلِّ نَبِيٍّ أُنْزِلَ عليه كتاب؛ ولذلك قال تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ}، وقرأ الجمهور: {يُوحِى} بإسناد الفعل إلى اللَّه تعالى، وقرأ ابن كثير وحده: {يوحَى} بفتح الحاء على بناء الفعل لِلْمَفْعُولِ، والتقدير: يُوحِي إليكَ القرآنَ.
وقوله تعالى: {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ}: يريدُ من الأنبياءِ الذين نَزَلَ عليهم الكتابُ، وقرأ نافع والكسائيُّ {يَتَفَطَّرْنَ}، وقرأ أبو عمرو، وعاصم: {يَنْفَطِرْنَ} والمعنى فيهما: يتصدَّعْنَ ويتشقَّقْنَ، خضوعاً وخشيةً من اللَّه تعالى، وتعظيماً وطاعةً.
وقوله: {مِن فَوْقِهِنَّ} أي: من أعلاهن، وقال الأخفشُ، عليُّ بْنُ سُلَيْمَان: الضمير في {مِن فَوْقِهِنَّ} للكُفَّار، أي: من فوق الجماعاتِ الكافرةِ والفِرَقِ المُلْحِدَةِ مِنْ أجْلِ أقوالها تَكادُ السموات يتفطَّرْنَ، فهذه الآية على هذا كالتي في {كاهيعاصا}: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] الآية، وقالت فرقة: معناه: من فوق الأرضين، إذْ قد جرى ذِكْرُ الأرض.
وقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} قالَتْ فرقةٌ: هذا منسوخٌ بقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} [غافر: 7] قال * ع *: وهذا قولٌ ضعيفٌ، لأَنَّ النَّسْخ في الأخبار لاَ يُتَصَوَّرُ، وقال السَّدِّيُّ ما معناه: إنَّ ظاهر الآية العمومُ، ومعناها الخصوصُ في المؤمنين، فكأنَّه قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، وقالت فرقة: بل هِيَ على عمومها: لكنَّ استغفارَ الملائكة ليس بطَلَبِ غفرانٍ للكفرة مَعَ بقائهم على كُفْرهم، وإنَّما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تُؤَدِّي إلى الغفران لهم، وتأويل السُّدِّيِّ أرجحُ.

.تفسير الآيات (6- 8):

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)}
وقوله تعالى: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} هذه آية تسليةٍ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ووعيد للكافرين، والمعنى: ليس عليك إلاَّ البلاغ فقطْ، فلا تَهْتَمَّ بعدم إيمان قريشٍ وغيرهم، اللَّه هو الحفيظُ عليهم كُفْرَهُمْ المُحْصِي لأعمالهم، المُجَازِي عليها، وأَنْتَ لَسْتَ بوكيلٍ عليهم، وما في هذه الألفاظِ مِنْ موادَعَةٍ فمنسوخٌ؛ قال الإمام الفَخْرُ في شرحه لأسماء الله الحسنى، عند كلامه على اسمه سبحانه الحفيظ: قال بعضهم: ما من عبد حَفِظَ جوارِحَه إلاَّ حَفِظَ اللَّه عليه قَلْبَهُ، وما من عبد حَفِظَ اللَّهُ عليه قلبه إلاَّ جعله حُجَّةً على عباده، انتهى، ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} المعنى: وكما قضينا أمرك هكذا، وأمضيناه في هذه السورةِ كذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً مبيناً لهم، لا يحتاجُونَ إلى آخَرَ سِوَاهُ، إِذْ فَهْمُهُ مُتَأَتِّ لَهُمْ، ولم نكلِّفْكَ إِلاَّ إَنذار مَنْ ذكر، و{أُمَّ القرى} هي مكة، و{يَوْمَ الجمع} هو يوم القيامة، أي: تخوفهم إيَّاهُ.
وقوله: {فَرِيقٌ} مرتَفِعٌ على خبر الابتداء المُضْمَرِ؛ كأنَّه قال: هُمْ فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السَّعِيرِ، ثم قوى تعالى تسليةَ نَبِيِّه بأَنْ عَرَّفَه أَنَّ الأمر موقوفٌ على مشيئة اللَّه من إيمانهم أو كُفْرهم، وأَنَّه لو أراد كونهم أُمَّةً واحدةً على دينٍ واحدٍ، لجمعهم عليه؛ ولكِنَّه سبحانه يدخل مَنْ سبقَتْ له السعادةُ عنده في رحمته، ويُيَسِّره في الدنيا لعمل أهل السعادة، وأَنَّ الظالمين بالكفر المُيَسَّرِينَ لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير، قال عبدُ الحَقِّ رحمه اللَّه في العاقبة: وقد علمتَ رحمك اللَّه أَنَّ الناس يوم القيامة صنفان:
صنف مُقَرَّبٌ مُصَانٌ.
وآخر مُبْعَدٌ مُهَانٌ.
صنف نِصِبَت لهم الأَسِرَّة والحِجَال؛ والأرائكُ والكِلاَل؛ وجُمِعَتْ لَهُمُ الرغائبُ والآمالُ.
وآخَرُونَ أُعِدَّتْ لهم الأراقمُ والصِّلاَلِ؛ والمقامعُ والأغلالِ؛ وضروبُ الأهوال والأنْكَال، وأنْتَ لا تعلم من أَيِّهما أنْتَ؛ ولا في أَيِّ الفريقَيْن كُنْتَ: [الكامل]
نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قَبَائِلِ نَوْفَل ** وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ

وَتَقَلَّبُوا فَرِحِينَ تَحْتَ ظِلاَلِهَا ** وَطُرِحْتُ بِالصَّحْرَاءِ غَيْرَ مُظَلَّلِ

وَسُقُوا مِنَ الصَّافي الْمُعَتَّقِ رِيُّهُم ** وَسُقِيتُ دَمْعَةَ وَالِهٍ مُتَمَلْمِلِ

بكى سفيانُ الثوريُّ رحمه اللَّه ليلةً إلى الصَّبَاحِ، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟ فأخذ تِبْنَةً من الأرض، وقال: الذنوبُ أَهْوَنُ من هذا؛ إنَّما أَبْكِي؛ خوفَ الخاتمةِ، وبَكَى سفيان، وغير سفيان، وَإنَّهُ لِلأَمْر يبكى عليه؛ وَيصرف الاهتمام كلّه إليه.
وقد قيل: لا تَكُفَّ دَمْعَك؛ حتى ترى في المعاد رَبْعَك.
وقيل: يابْنَ آدم، الأقلام عليك تَجْرِي، وأنْتَ في غفلة لا تَدْرِي، يابْنَ آدمَ دَعِ التنافُسَ في هذه الدار، حتى ترى ما فَعَلَتَ في أمرِكَ الأَقْدَار، سمع بعض الصالحينَ مُنْشِداً ينشد: [الطويل]
أَيَا رَاهِبِي نَجْرَانَ مَا فَعَلَتْ هِنْد............. ** فبكى ليلةً إلى الصباح، فَسُئِلَ عن ذلك فقال: قلتُ في نفسي: ما فعلَتِ الأقدار فيّ؛ وماذا جَرَتْ به عَلَيّ؟ انتهى.

.تفسير الآيات (9- 12):

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}
وقوله تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فالله هُوَ الولى...} الآية، قوله: {أَمِ اتخذوا}: كلامٌ مقطوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وليستْ بمعادلةٍ، ولكنَّ الكلام كأَنَّه أَضْرَبَ عن حُجَّةٍ لهم أو مقالةٍ مُقَرَّرَةٍ، فقال: {بَلِ * اتخذوا} هذا مشهورُ قولِ النَّحْوِيِّينَ في مِثْلِ هذا، وذهب بعضهم إلى أَنَّ {أم} هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضرابٍ، ثم أثبت الحكم بأَنَّه عز وجل هو الوليُّ الذي تنفع ولايته.
وقوله تعالى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَئ فَحُكْمُهُ إِلَى الله...} الآية، المعنى: قل لهم يا محمَّد: وما اختلفتم فيه، أَيُّها الناس، مِنْ تكذيبٍ وتصديقٍ، وإيمانٍ وكفرٍ، وغَيْرِ ذلك فالحُكْمُ فيه والمجازاةُ عنه لَيْسَتْ إلَيَّ ولا بيدي؛ وإنَّما ذلك إلى اللَّه تعالى، الذي صفاته ما ذُكِرَ من إحياء الموتى والقدرة على كل شيء.
وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} يريد: زوجَ الإنسان الأنثى، وبهذه النعمة اتفق الذرء، وليست الأزواج هاهنا الأنواع.
وقوله: {وَمِنَ الأنعام أزواجا} الظاهر أيضاً فيه والمُتَّسِقُ أَنَّهُ يريد إناث الذَّكْرَان، ويحتمل أنْ يريد الأنواع، والأوَّل أظهر.
وقوله: {يَذْرَؤُكُمْ} أي: يخلقكم نسلاً بعد نَسْلٍ، وقرناً بعد قَرْنٍ؛ قاله مجاهد، والناس، فلفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخرَ ليس في خلق، وهو توالي طبقات على مَرِّ الزمان.
وقوله: {فِيهِ} الضمير عائد على الجَعْلِ يتضمَّنه قوله: {جَعَلَ لَكُم} وهذا كما تقول: كَلَّمْتُ زَيْداً كلاماً أكرمته فيه، وقال القُتَبِيُّ: الضمير للتزْوِيجِ، ولفظة في مشتركة على معانٍ، وإنْ كان أصلها الوعاء، وإليه يردها النظر في كل وجه.
وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} الكاف مؤكِّدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكَدُ مَا يكُونُ؛ وذلك أَنّك تقول: زيدٌ كعمرو، وزيْدٌ مِثْلُ عمرو، فإذا أردتَ المبالغة التامَّة قلتَ: زيدٌ كَمِثْلِ عَمْرٍو، وجرتِ الآية في هذا الموضع على عُرْفِ كلامِ العَرَبِ، وعلى هذا المعنى شواهِدُ كثيرة، وذهب الطَّبَرِيُّ وغيره إلى أَنَّ المعنى: ليس كهو شيء، وقالوا: لفظة {مَثَلُ} في الآية توكيدٌ، وواقعةٌ موقع هو، والمقاليد: المفاتيحُ؛ قاله ابن عبَّاس وغيره، وقال مجاهدٌ هذا أصلها بالفارِسِيَّةِ، وهي هاهنا استعارة لوقوعِ كُلِّ أمرٍ تَحْتَ قدرته سبحانه، وقال السُّدِّيُّ: المقاليدُ: الخزائن، وفي اللفظ على هذا حذفُ مضافٍ، قال قتادة: مَنْ ملك مقاليد خزائن، فالخزائن في مِلْكِهِ.

.تفسير الآيات (13- 15):

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}
وقوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً...} الآية، المعنى: شرع لكم وبَيَّنَ مِنَ المعتقدات والتوحيدِ ما وصى به نوحاً قَبْلُ.
وقوله: {والذى} عطف على {مَا}، وكذلك ما ذكر بَعْدُ مِنْ إقامة الدِّينِ مشروعٌ اتفقت النُّبُوَّاتُ فِيهِ؛ وذلك في المعتَقَدَاتِ، وأَمَّا الأحكامُ بانفرادها فَهِيَ في الشرائعِ مختلفةٌ، وهي المرادُ في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48] وإقامة الدين هو توحيدُ اللَّهِ ورَفْضُ سِوَاهُ.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ}: نَهْيٌ عن المُهْلَكِ مِنْ تفرُّق الأنحاء والمذاهب، والخيرُ كُلُّه في الأُلْفَةِ واجتماع الكلمة، ثم قال تعالى لنبيِّه عليه السلام: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}: من توحيد اللَّه ورَفْضِ الأوثان؛ قال قتادة: كَبُرَ عليهم لا إله إلا اللَّه وأبى اللَّه إلاَّ نَصْرها، ثم سَلاَّه تعالى عنهم بقوله: {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ...} الآية، أي: يختار ويصطفي؛ قاله مجاهد وغيره و{يُنِيبُ} يرجع عنِ الكُفْرِ ويحرص على الخير ويطلبه.
{وَمَا تَفَرَّقُواْ} يعني: أوائل اليهود والنصارى {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم}.
وقوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي: بغى بعضُهم على بَعْضٍ، وأدَّاهم ذلك إلى اختلاف الرأْي وافتراقِ الكلمةِ، والكلمة السابقة قال المفسرون: هي حتمه تعالى القضاءَ بأَنَّ مجازاتهم إنَّما تقع في الآخرة، ولولا ذلك لَفَصَلَ بينهم في الدنيا، وغَلَّبَ المُحِقَّ على المُبْطِلِ.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب} إشارة إلى معاصري نَبِيِّنا محمد عليه السلام من اليهود والنصارى.
وقيل: هو إشارة إلى العرب؛ والكتاب على هذا هو القرآن، والضمير في قوله: {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} يحتمل أنْ يعودَ على الكتاب، أو على محمد، أو على الأجل المسمى، أي: في شَكٍّ من البعث؛ على قول مَنْ رأى أَنَّ الإشارة إلى العرب، ووَصَفَ الشَّكّ ب {مُرِيبٍ}؛ مبالغة فيه، واللام في قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع} قالت فرقة: هي بمنزلة {إلى}؛ كأنه قال: فإلى ما وَصَّى به الأنبياءَ من التوحيدِ فادع، وقالت فرقة: بل هي بمعنى من أجل كأنه قال: من أجلِ أَنَّ الأمر كذا وكذا، ولكونه كذا فادع أَنْتَ إلى ربك، وبَلِّغْ ما أُرْسِلْتَ به، وقال الفخر: يعني فلأجلِ ذلك التفرُّقِ، ولأجْلِ ما حَدَثَ من الاختلافاتِ الكثيرةِ في الدينِ فادع إلى الاتفاقِ على المِلَّةِ الحنيفيَّة، واستقِمْ عليها وعلى الدعوة إليها؛ كما أمرك اللَّه، ولا تَتَّبِعْ أهواءهم الباطلة، انتهى، وخوطب عليه السلام بالاستقامة، وهو قد كان مستقيماً بمعنى: دُمْ على استقامتك، وهكذا الشَّأْنُ في كُلِّ مأمورٍ بشيءٍ هو مُتَلَبِّسٌ به، إنَّما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نُصْبَ عَيْنَي النبيِّ عليه السلام، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: {واستقم كَمَا أُمِرْتَ}، لأنَّها جملة تحتها جمِيعُ الطاعاتِ وتكاليفُ النبوَّة، وفي هذا المعنى قال عليه السلام: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها»، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّه؟ فَقَالَ: «لأَنَّ فِيهَا: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ}» [هود: 112] وهذا الخطابُ له عليه السلام بحَسَبِ قُوَّتِهِ في أمْرِ اللَّه عز وجل، وقال: هو لأُمَّتِهِ بحسب ضعفهم: استقيموا ولن تُحْصُوا.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يعني: قُرَيْشاً.
* ت *: وفَرَضَ الفَخْرُ هذه القَضِيَّةَ في أهْلِ الكتاب، وذكر ما وقع من اليهود ومحاجَّتهم في دفع الحقِّ وجَحْدِ الرسالة، وعلى هذا فالضمير في: {أَهْوَاءَهُمْ} عائدٌ عليهم، واللَّه أعلم. اهـ.
ثم أَمَرَهُ تعالى أَنْ يَقُولَ: {آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ}، وهو أَمْرٌ يَعُمُّ سائِرَ أمته.
وقوله: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} قالت فرقة: اللام في {لأَعْدِلَ} بمعنى: أنْ أعدل بينكم، وقالت فرقة: المعنى وَأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به من التبليغ والشَّرْعِ؛ لِكَيْ أعدلَ بينكم.
وقوله: {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} إلى آخر الآية ما فيه من مُوَادَعَةٍ منسوخٌ بآية السَّيْفِ.
وقوله: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي: لا جدال، ولا مناظرةَ؛ قد وَضَحَ الحق، وأنتم تعاندون، وفي قوله: {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا}: وعيدٌ بَيِّنٌ.