فصل: تفسير الآيات (16- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (16- 19):

{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}
وقوله تعالى: {والذين يُحَاجُّونَ في الله...} الآية، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل هَمَّتْ بردِّ الناس عن الإسلام وإضلالهم، وقيل: نزلت في قريشٍ؛ لأنَّها كانت أبداً تحاول هذا المعنى، و{يُحَاجُّونَ في الله} معناه: في دين اللَّه أو توحيدِ اللَّه، أي: يحاجُّون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبهه، والضمير في {لَهُ} يحتمل أنْ يعودَ على اللَّه تبارك وتعالى، ويحتمل أنْ يعودَ على الدِّينِ والشرع، ويحتمل أنْ يعودَ على النبي عليه السلام و{دَاحِضَةٌ} معناه: زاهقة، والدَّحْضُ الزَّهقُ، وباقي الآية بَيِّن.
وقوله سبحانه: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق} معناه: مضمناً الحق، أي: بالحق في أحكامه، وأوامره، ونواهيه، وأخباره، {والميزان} هنا: العدل؛ قاله ابن عباس ومجاهد، والناس، وحكى الثعلبيُّ عن مجاهد؛ أَنَّهُ قال: هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس، قال * ع *: ولا شَكَّ أَنَّه داخل في العدل وجزء منه.
وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} وعيدٌ للمشركين، وجاء لفظ {قريب} مُذَكَّراً من حيثُ تأنيثُ السَّاعَةِ غيرُ حقيقيٍّ، وإذْ هي بمعنى الوقت.
* ت *: ينبغي للمؤمن العاقل أنْ يتدبَّر هذه الآيةَ ونظائرها، ويقدِّر في نفسه أَنَّه المقصود بها: [البسيط]
لاَهٍ بِدُنْيَاهُ وَالأَيَّامُ تَنْعَاهُ ** وَالْقَبْرُ غَايَتُهُ وَاللَّحْدُ مَأْوَاهُ

يَلْهُو فَلَوْ كَانَ يَدْرِي مَا أُعِدَّ لَه ** إذَنْ لأَحْزَنَهُ مَا كَانَ أَلْهَاهُ

قال الغَزَّاليُّ في الإحياء قال أبو زكريَّا التَّيْمِيُّ: بينما سليمانُ بنُ عبد الملك في المسجد الحرام؛ إذ أُوتِيَ بحَجَرٍ منقوشٍ، فَطَلَبَ مَنْ يَقْرَؤُهُ، فأوتي بِوهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فإذا فيه: ابنَ آدمَ، إنك لو رأيْتَ قُرْبَ ما بَقِيَ من أَجْلِك، لَزَهِدْتَ في طول أملك؛ وَلَرَغِبْتَ في الزيادَةِ مِنْ عَمَلِك، وَلَقَصَّرْتَ مِنْ حِرْصِكَ وحِيَلِكَ، وإنما يلقاك غَداً نَدَمُك؛ لو قد زَلَّتْ بك قَدَمُك، وأسلمك أَهلُكَ وَحْشَمُك، فَفَارَقَكَ الوَلَدُ والقَرِيب؛ وَرَفَضَكَ الوَالِدُ والنَّسِيب، فلا أَنْتَ إلى دُنْيَاك عائد؛ ولا في حَسَنَاتِك زَائِد، فاعمل ليومِ القيامهْ، قبل الحسرة والندامهْ.
فبكى سليمان بكاءً شديداً، انتهى،، وباقي الآية بيِّن.
ثم رَجَّى تبارك وتعالى عباده بقوله: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} و{لَطِيفٌ} هنا بمعنى رفيق مُتَحَفٍّ، والعباد هنا المؤمنون.

.تفسير الآيات (20- 22):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)}
وقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة} معناه: إرادة مُسْتَعِدٍّ عاملٍ، لا إرادةُ مُتَمَنٍّ مُسَوِّفٍ، والحَرْثُ في هذه الآية: عبارةٌ عن السَّعْيِ والتكسُّبِ والإعْدَاد.
وقوله تعالى: {نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ} وَعْدٌ مُتَنَجَّزٌ؛ قال الفَخْرُ: وفي تفسير قوله: {نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ} قولان.
الأوَّلُ: نزد له في توفيقه وإعانته، وتسهيلِ سبيل الخَيْرَاتِ والطاعاتِ عليه، وقال مقاتل: تزد له في حَرْثِهِ بتضعيفِ الثواب؛ قال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] انتهى، وقوله: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} معناه: ما شئنا منها ولمن شئنا، فَرُبَّ مُمْتَحَنٍ مُضَيَّقٌ عليه حريصٌ على حَرْثِ الدنيا، مريدٌ له، لا يَحُسُّ بغيره، نعوذُ باللَّهِ مِنْ ذلكا وهذا الذي لا يعقل غيرَ الدنيا هو الذي نفى أنْ يكون له نصيبٌ في الآخرة.
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} {أم} هذه منقطعةٌ لا معادلةٌ، وهي بتقدير بل، وألف الاستفهام، والشركاء في هذه الآية يحتمل أنْ يكونَ المراد بهم الشياطين والمُغْوِينَ من أسلافهم، ويكون الضمير في {لَهُمْ} للكفار المعاصرين لمحمد عليه السلام فالاشتراك هاهنا هو في الكفر والغواية، وليس بشركة الإشراك باللَّه ويحتمل أنْ يكون المراد بالشركاء: الأصنام والأوثان؛ على معنى: أم لهم أصنام جعلوها شركاءَ للَّه في أُلُوهِيَّتِهِ، ويكون الضمير في {شَرَعُواْ} لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم، والضمير في {لَهُمْ} للأصنام الشركاء، و{شَرَعُواْ} معناه: أثبتوا، ونهجوا، ورسموا و{الدين} هنا: العوائدُ والأحكامُ والسِّيرَةُ، ويَدْخُلُ في ذلك أيضاً المُعْتَقَدَاتُ السُّوء؛ لأَنَّهُم في جمِيع ذلك وضعوا أوضاعاً فاسدة، وكلمة الفصل هي ما سبق من قضاء اللَّه تعالى بأَنَّهُ يُؤخِّرُ عقابهم للدار الآخرة، والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم.
وقوله تعالى: {تَرَى الظالمين} هي رؤية بَصَرٍ، و{مُشْفِقِينَ} حال، وليس لهم في هذا الإشفاق مدح؛ لأنَّهم إنَّما أشفقوا حين نزل بهم، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مُشْفِقُون من أمر الساعة، كما تقدم، وهو واقع بهم.
أبو حيان: ضمير {هُوَ} عائد على العذاب، أو على ما كسبوا بحذف مضاف، أي: وبال ما كسبوا، انتهى، والروضات: المواضع المونقة النَّضِرة.

.تفسير الآيات (23- 26):

{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)}
وقوله تعالى: {ذَلِكَ الذي يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ} إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} [الأحزاب: 47].
وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} اختلف الناسُ في معناه فقال ابن عباس وغيره: هي آية مَكِّيَّةٌ نزلت في صدر الإسلام، ومعناها: استكفاف شَرِّ الكفار ودفع أذاهم، أي: ما أسألكم على القرآن إلاَّ أَنْ تَوَدُّوني لقرابةٍ بيني وبينكم؛ فَتَكُفُّوا عَنِّي أذاكم، قال ابن عباس، وابن إسحاق، وقتادة: ولم يكن في قريش بطن إلاَّ وللنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيه نسب أو صِهْرٌ، فالآية على هذا فيها استعطافٌ مَّا، ودفع أذًى، وطلبُ سلامة منهم، وذلك كله منسوخ بآية السيف، ويحتمل هذا التأويل أنْ يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم، أي: لا أسألكم غرامة ولا شيئاً إلاَّ أَنْ تَوَدُّوني لقرابتي منكم، وأنْ تكونوا أولى بي من غيركم، قال * ع *: وقُرَيْشٌ كُلُّها عندي قربى، وإنْ كانت تتفاضل، وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «مَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ شَهِيداً، ومَنْ مَاتَ على بُغْضِهِم، لَمْ يَشمَّ رَائِحَةَ الجَنَّةِ»، وقال ابن عَبَّاس أيضاً: ما يقتضي أَنَّ الآية مَدَنِيَّةٌ، وأَنَّ الأنصار جَمَعَتْ لرسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مالاً وساقَتْهُ إليه، فَرَدَّهُ عليهم، وَنَزَلَتِ الآيةُ في ذلك، وقيلَ غَيْرُ هذا، وعلى كُلِّ قولٍ، فالاستثناء مُنْقَطِعٌ، و{إِلاَّ} بمعنى لَكِنْ و{يَقْتَرِفْ} معناه: يَكْتَسِب، ورَجُلٌ قُرَفَةٌ إذا كان محتالاً كسوباً و{غَفُورٌ} معناه: ساترٌ عُيُوبَ عباده، و{شَكُورٍ} معناه: مُجِازٍ على الدقيقة من الخير، لا يضيع عنده لعاملٍ عَمَلٌ.
وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً} {أم} هذه مقطوعةٌ مضمنة إضراباً عن كلام متقدِّم، وتقريراً على هذه المقالة منهم.
وقوله تعالى: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} معناه؛ في قول قتادة وفرقة من المفسرين: ينسيك القرآن، والمراد الرَّدُّ على مقالة الكُفَّار، وبيانُ إبْطَالِهَا، كأَنَّهُ يقُولُ: وكيف يَصِحُّ أنْ تكون مفترياً، وأنت من اللَّه بمرأًى ومَسْمَعٍ؟ هو قَادِرٌ لو شاء أَنْ يختم على قلبك؛ فلا تَعْقِلُ، ولا تنطق، ولا يستمرُّ افتراؤك؛ فمقصد اللفظ: هذا المعنى، وحُذِفَ ما يَدُلُّ عليه الظاهر؛ اختصاراً واقتصاراً، وقال مجاهد: المعنى: فإن يشإ اللَّه يختمْ على قلبك بالصبر لأذى الكفار، ويربطْ عليك بالجَلَدِ، فهذا تأويل لا يتضمَّن الردَّ على مقالتهم؛ قال أبو حَيَّان: وذكر القُشَيْرِيُّ أنَّ الخطاب للكفار، أي: يختم على قلبك أَيُّهَا القائلُ؛ فيكون انتقالاً من الغيبة للخطاب، {وَيَمْحُ}: استئنافُ إخبارٍ؛ لا داخل في الجواب، وتسقط الواو من اللفظ؛ لالتقاء الساكنين، ومن المصحف؛ حملاً على اللفظ، انتهى.
وقوله تعالى: {وَيَمْحُ} فعل مستقبل، خبر من اللَّه تعالى أَنَّهُ يمحو الباطل، ولابد إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، وهذا بحسب نازلة نازلة، وكتب {يَمْحُ} في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا:
{وَيَدْعُ الإنسان} [الإسراء: 11] إلى غير ذلك مِمَّا ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار.
وقوله: {بكلماته} معناه: بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء، فالكلمات: المعاني القائمة القديمة التي لا تبديلَ لها، ثم ذلك تعالى النعمة في تَفَضُّلِهِ بقبول التوبة من عباده، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله مقطوعٌ به بهذه الآية، وأمَّا ما سلف من أعماله فينقسم، فأمَّا التوبة من الكفر فَمَاحِيَةٌ كُلَّ ما تَقَدَّمَها من مظالم العباد الفائتة وغير ذلك، وأمَّا التوبة من المعاصي فلأهل السُّنَّةِ فيها قولان: هل تُذْهِبَ المعاصيَ السالفةَ للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة: هي مُذْهِبَةٌ لها، وقالت فرقة: هي في مشيئة اللَّه تعالى، وأجمعوا أَنَّها لا تُذْهِبُ مظالم العباد، وحقيقةُ التوبة: الإقلاعُ عن المعاصِي، والإقبالُ، والرجوعُ إلى الطاعات، ويلزمها النَّدَمُ على ما فَاتَ؛ والعَزْمُ على ملازمة الخَيْرَات.
وقال سَرِيٌّ السِّقَطِيُّ: التوبة: العَزْمُ على ترك الذنوب؛ والإقبالُ بالقَلْبِ على عَلاَّم الغيوب، وقال يحيى بن مُعَاذٍ: التائبُ: مَنْ كَسَرَ شَبَابَهُ على رأسه، وكَسَرَ الدنيا على رأسِ الشيطان، ولزم الفِطام حتى أتاه الحِمَام.
وقوله تعالى: {عَنْ عِبَادِهِ} بمعنى مِنْ عباده، وكأنه قال: التوبة الصادرة عن عباده، وقرأ الجمهور: {يَفْعَلُونَ} بالياء على الغَيْبَة، وقرأ حمزة والكسائيُّ: {تَفْعَلُونَ} بالتاء على المخاطبة، وفي الآية توعُّد.
وقوله تعالى: {ويستجيب} قال الزَّجَّاجُ وغيره: معناه: يجيبُ، والعَرَبُ تَقُولُ: أجاب واستجاب بمعنًى، و{الذين} على هذا التأويل: مفعول يستجيب، وروي هذا المعنى عن معاذِ بن جَبَلٍ، ونحوه عن ابن عباس، وقالت فرقة: المعنى: ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحات، ودَلَّ قوله: {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} على أنَّ المعنى: فيجيبهم، و{الذين} على هذا القول فَاعِلُ {يَسْتَجِيبُ}،، وقالتْ فرقة: المعنى: ويجيبُ المؤمنونَ رَبَّهم، ف {الذين} فاعلٌ بمعنى: يجيبُونَ دَعْوَةَ شَرْعِهِ ورسالتِهِ، والزيادة من فضله هي تضعيفُ الحسنات، ورُوِيَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «هِيَ قَبُولُ الشَّفَاعَاتِ في المُذْنِبِينَ، والرِّضْوَانُ».

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)}
وقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} قال عمرو بن حُرَيْثٍ وغيره: إنَّها نزلت؛ لأَنَّ قوماً من أهل الصفَّة طلبوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنْ يُغْنِيَهُمُ اللَّه، ويبسطَ لهم الأموالَ والأرزاق، فأعلمهم اللَّه تعالى أنَّه لو جاء الرِّزْقُ على اختيار البَشَر واقتراحهم، لكان سَبَبَ بغيهم وإفسادهم؛ ولكَّنه عز وجل أعلمُ بالمَصْلَحَةِ في كُلِّ أحدٍ: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ}: بمصالحهم، فهو ينزل لهم من الرزق القَدْرَ الذي بِهِ صَلاَحُهُمْ؛ فرُبَّ إنْسَانٍ لاَ يَصْلُحُ، وتَنْكَفُّ عاديته إلاَّ بالفقر.
* ت *: وقد ذكرنا في هذا المختصر أحاديثَ كثيرةً مختارةً في فضل الفقراء الصابرين ما فيه كفايةٌ لمن وُفِّق، وقد روى ابن المبارك في رقائقه عن سعيد بن المُسَيِّبِ قال: «جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِجُلَسَاءِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال: هُمُ الخَائِفُونَ، الخَاضِعُونَ، المُتَوَاضِعُونَ، الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهُمْ أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ؟ قال: لا، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قال: الفُقَرَاءُ يَسْبِقُونَ النَّاسَ إلَى الجَنَّةِ، فَتَخْرُجُ إلَيْهِمْ مِنْهَا مَلاَئِكَةٌ، فَيَقُولُونَ: ارجعوا إلَى الْحِسَابِ، فَيَقُولُونَ: عَلاَمَ نُحَاسَبُ، وَاللَّهِ مَا أُفِيضَتْ عَلَيْنَا الأَمْوَالُ في الدُّنْيَا فَنَقْبِضَ فِيهَا وَنَبْسُطَ، وَمَا كُنَّا أُمَرَاءَ نَعْدِلُ وَنَجُورُ؛ وَلَكِنَّا جَاءَنَا أَمْرُ اللَّهِ فَعَبَدْنَاهُ حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ» انتهى.
وقوله عز وجل: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ...} الآية، تعديدُ نِعَمِ اللَّه تعالى الدَّالَّةِ على وَحْدَانِيَّتِهِ، وأَنَّه المولى الذي يستحقُّ أَنْ يُعْبَدُ دونَ ما سواه من الأنداد، وقرأ الجمهور: {قَنَطُوا} بفتح النون، وقرأ الأعمش: {قَنِطُوا} بكسرها، وهما لغتان، ورُوِيَ أَنَّ عمر رضي اللَّه عنه قيل له: أجدبت الأرض، وقَنِطَ النَّاس، فقال: مُطِرُوا إذَنْ، بمعنى أنَّ الفرج عند الشِّدَّةِ.
وقوله تعالى {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} قيل: أراد بالرحمة: المطر، وقيل: أراد بالرحمة هنا: الشمْسَ، فذلك تعديد نعمة غير الأولى، وذلك أَنَّ المطر إذا أَلَمَّ بعد القنط حَسُنَ موقعُهُ، فإذا دَامَ سُئِمَ، فتجيء الشمْسُ بعده عظيمةَ المَوْقِعِ.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الولى الحميد} أي: مَنْ هذه أفعاله هو الذي ينفع إذا والى، وتُحْمَدُ أفعاله ونعمه، قال القُشَيْرِيُّ: اسمه تعالى: {الولي}، أي: هو المتولِّي لأحوال عباده، وقيل: هو من الوالي، وهو الناصر، فأولياءُ اللَّه أنصار دينه، وأشياعُ طاعته، والوليُّ: في صفة العبد مَنْ يُوَاظِبُ على طاعة رَبِّه، ومِنْ علاماتِ مَنْ يكونُ الحَقُّ سبحانه وَلِيَّهُ أنْ يصونه، ويكفِيَهُ في جميع الأحوال، ويُؤَمِّنَهُ، فيغارَ على قلبه أنْ يتعلَّقَ بمخلوقٍ في دفع شَرٍّ أو جَلْبِ نَفْعٍ؛ بل يكونُ سبحانه هو القائِمَ على قلبه في كُلِّ نَفَسٍ، فيحقِّق آماله عند إشاراته، ويعجِّل مَآرِبَهُ عند خَطَرَاتِهِ، ومن أماراتِ ولايته لِعَبْدِهِ: أنْ يُدِيمَ توفيقَهُ حتى لو أرادَ سُوءاً، أو قصد محظوراً عَصَمَهُ عن ارتكابه، أو لو جنح إلى تقصير في طاعة، أبى إلاَّ توفيقاً وتأييداً، وهذا من أماراتِ السعادَةِ، وعَكْسُ هذا مِنْ أماراتِ الشقاوة،، ومن أمارات ولايته أيضاً أنْ يرزقه مَوَدَّةً في قُلُوب أوليائه، انتهى من التحبير.
ثم ذكر تعالى الآية الكبرى الدَّالَّةَ على الصَّانِعِ، وذلك خَلْقُ السموات والأرضِ.
وقوله تعالى: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} يتخرَّجُ على وجوهٍ: منها: أنْ يريدَ إحْدَاهُمَا، وهو ما بَثَّ في الأرض دونَ السموات، ومنها: أنْ يكون تعالى قد خلق في السموات وبَثَّ دوابَّ لا نعلَمُهَا نَحْنُ، ومنها: أنْ يريد الحيواناتِ التي تُوجَدُ في السحاب، وقد تَقَعُ أحياناً كالضفادع ونحوها؛ فَإنَّ السَّحَابَ داخل في اسم السماء.
وقوله تعالى: {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ} يريد: يومَ القيامة عند الحشر من القبور.

.تفسير الآيات (30- 33):

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)}
وقوله تعالى: {وَمَا أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ} قرأ جمهور القُرَّاء: {فَبِمَا} بفاء، وكذلك هي في جُلِّ المصاحف، وقرأ نافع وابن عامر: {بِمَا} دون فاء، قال أبو علي الفارسيُّ: أصاب من قوله: {وَمَا أصابكم} يحتمل أنْ يكون في موضع جَزْمٍ، وتكون ما شرطيةً، وعلى هذا لا يجوزُ حَذْفُ الفاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وجَوَّزَ حَذْفَهَا أبو الحَسَنِ الأخْفَشُ، وبعضُ البغداديِّينَ؛ على أَنَّها مُرَادَةٌ في المعنى، ويحتمل أنْ يكون أصاب صلة ل مَا، وتكون ما بمعنى الذي، وعلى هذا يتجه حذفُ الفاء وثبوتها، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم، أي: لولا كَسْبُكُمْ ما أصابتكم مصيبة، والمصيبة إنَّما هي بكسب الأيدي، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم، ويجوز أنْ يعرى منه، قال * ع *: وأَمَّا في هذه الآية، فالتلازم مُطَّرِدٌ مع الثبوت والحذف، وأمَّا معنى الآية، فاختلف الناسُ فيه، فقالت فرقة: هو إخبار من اللَّه تعالى بأَنَّ الرزايا والمصائبَ في الدنيا إِنَّما هي مجازات من اللَّه تعالى على ذنوب المرء وخطاياه، وأنَّ اللَّه تعالى يعفو عن كثير، فلا يعاقب عليه بمصيبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ، أوْ عَثْرَةُ قَدَمٍ، وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَرُ»، وقال مُرَّةُ الهَمَدَانِيُّ: رأيتُ على ظهر كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةً، فقلتُ: ما هذا؟ فقال: هذا بما كَسَبَتْ يَدَيَّ، ويعفو اللَّه عن كثير، وقيل لأبي سليمانَ الدَّارَانِيِّ: ما بالُ الفضلاء لا يَلُومُونَ مَنْ أساءَ إليهم؟ فقال: لأَنَّهُمْ يعلَمُونَ أَنَّ اللَّه تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم، ورَوَى عليُّ بْنُ أبي طَالِبٍ رضي اللَّه عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، أوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِيهِ بَعْدَ عَفْوِهِ» وقال الحَسَنُ: معنى الآية في الحُدُودِ، أي: ما أصابكم من حَدٍّ من حُدُودِ اللَّه، فبما كسبَتْ أيديكم، ويعفو اللَّه عن كثير، فيستره على العبد حتى لا يُحَدَّ عليه، ثم أَخبر تعالى عن قُصُورِ ابن آدَمَ وَضَعْفِهِ، وأَنَّه في قبضة القدرة لا يعجز طَلَب رَبِّه، ولا يُمْكِنُه الفِرَارُ منه، والجواري: جمع جارية وهي السفينةُ، و{كالأعلام}: الجبال، وباقي الآية بَيِّنٌ، فيه الموعظةُ وتشريفُ الصَّبَّارِ الشَّكُورِ.