فصل: تفسير الآيات (9- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (9- 10):

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
وقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} سبب الآية في قول الجمهور هو ما وقع بين المسلمين المتحزبين في قضية عَبْد اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ حين مَرَّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم راكباً على حماره مُتَوَجِّهاً إلى زيارة سعد بن عبادَةَ في مرضه، حسبما هو معلوم في الحديث الطويل، ومدافعة الفئة الباغية مُتَوَجِّهَةٌ في كل حال، وأَمَّا التَهَيُّؤُ لقتالهم فمع الولاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حَكَمَ اللَّهُ في الْفِئَةِ البَاغِيَةِ أَلاَّ يُجْهَزَ على جَرِيحِهَا، وَلا يُطْلَبَ هَارِبُهَا، وَلاَ يُقْتَلَ أَسِيرُهَا، وَلاَ يُقْسَمَ فَيْئُهَا» و{تَفِئ} معناه: ترجع، وقرأ الجمهور: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وذلك؛ رعايةً لحال أَقَلِّ عدد يقع فيه القتال والتشاجر، وقرأ ابن عامر: {بَيْنَ إخْوَتِكُمْ} وقرأ عاصم الجَحْدَرِيُّ: {بَيْنَ إخْوَانِكُمْ} وهي قراءة حسنة؛ لأَنَّ الأكثر في جمع الأخ في الدِّينِ ونحوه من غير النسب: إخْوَان، والأكثر في جمعه من النسب: إِخْوَة وآخَاء، وقد تتداخل هذه الجموعُ، وكُلُّها في كتاب اللَّه.

.تفسير الآيات (11- 12):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٌ} الآية: هذه الآية والتي بعدها نزلت في خُلُقِ أهل الجاهلية؛ وذلك أَنَّهم كانوا يجرون مع شهواتِ نفوسهم، لم يقومهم أمر من اللَّه ولا نهي، فكان الرجل يسخر، ويلمز، وينبز بالألقاب، ويَظُنُّ الظنونَ، ويتكلم بها، ويغتاب، ويفتخر بنسبه، إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطَّالة، فنزلت هذه الآية؛ تأديباً لهذه الأُمَّةِ، وروى البخاريُّ ومسلم والترمذيُّ واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: عِرْضُهُ، وَمَالُهُ، وَدَمُهُ، التَّقْوَى ههنا، بِحَسْبِ امرئ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» انتهى، ويسخر معناه: يستهزئ، وقد يكون ذلك المُسْتَهْزَأُ به خيراً من الساخر، والقوم في كلام العرب واقع على الذُّكْرَان، وهو من أسماء الجَمْع؛ ومن هذا قول زُهَيْر: [من الوافر]
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ أَدْرِي ** أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ

وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران، وقد يكون مع الذكران نساء، فيقال لهم قوم؛ على تغليب حال الذكر، و{تَلْمِزُواْ} معناه: يطعن بعضُكم على بعض بذكر النقائص ونحوه، وقد يكون اللَّمْزُ بالقول وبالإشارة ونحوه مِمَّا يفهمه آخر، والهَمْزُ لا يكون إلاَّ باللسان، وحكى الثعلبيُّ أَنَّ اللمز ما كان في المشهد، والهَمْزَ ما كان في المغيب، وحكى الزهراويُّ عكس ذلك.
وقوله تعالى: {أَنفُسَكُمْ} معناه: بعضكم بعضاً؛ كما قال تعالى: {أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 66] كأنَّ المؤمنين كنفس واحدة، إذ هم إخوة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشتكى مِنْهُ عُضْوٌ تداعى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحمى»، وهم كما قال أيضاً: «كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً»، والتنابز: التَّلَقُّبُ، والتَّنَبزُ واللقب واحدٌ، واللقب يعني المذكور في الآية هو: ما يُعْرَفُ به الإنسان من الأسماء التي يَكْرَهُ سماعَهَا، وليس من هذا قول المُحَدِّثِينَ: سليمان الأعمش، وواصل الأحدب ونحوه مِمَّا تدعو الضرورة إليه، وليس فيه قصد استخفاف وأذى، وقال ابن زيد: معنى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} أي: لا يَقُلْ أحد لأحد: يا يهوديُّ، بعد إسلامه، ولا: يا فاسقُ، بعد توبته، ونحو هذا.
وقوله سبحانه: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} يحتمل معنيين:
أحدهما: بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فُسَّاقاً بالمعصية بعد إيمانكم.
والثاني: بئس قول الرجل لأخيه: يا فاسق بعد إيمانه؛ وعن حذيفةَ رضي اللَّه عنه قال: شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَرَبَ لِسَانِي، فَقَالَ: «أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ؟! إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» رواه النسائي واللفظ له، وابن ماجه، والحاكم في المُسْتَدْرَكِ، وقال: صحيحٌ على شرط مسلم، وفي رواية للنسائي: «إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ»، والذَّرَبُ بفتح الذال والراء هو الفُحْشُ، انتهى من السلاح، ومنه عن ابن عمر: «إنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغفر لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمِ» رَوَاه أبو داود، وهذا لفظه، والترمذي والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح غريب، انتهى.
ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن، وأَلاَّ يعملوا ولا يتكلموا بحسبه؛ لما في ذلك وفي التجسس من التقاطُع والتَّدَابُرِ، وحكم على بعضه أَنَّه إثم، إذ بعضُه ليس بإثم، والظَّنُّ المنهيُّ عنه هو أَنْ تَظُنَّ شرًّا برجل ظاهره الصلاح، بلِ الواجب أنْ تزيل الظن وحكمه، وتتأوَّلَ الخيرَ؛ قال * ع *: وما زال أولو العزم يحترسون من سُوءِ الظنِ، ويجتنبون ذرائعه، قال النوويُّ: واعلم أَنَّ سوء الظن حرام، مثل القول، فكما يَحْرُمُ أَنْ تحدِّثَ غيرَك بمساوئ إنسان يَحْرُمُ أَنْ تحدث نفسَك بذلك، وتسيءَ الظَّنَّ به؛ وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» والأحاديث بمعنى ما ذكرناه كثيرة، والمراد بذلك عَقْدُ القلب وحكمه على غيره بالسوء، فأَمَّا الخواطر وحديث النفس، إذا لم يستقر، ويستمر عليه صاحبه فَمَعْفُوٌّ عنه باتفاق العلماء؛ لأَنَّهُ لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفِكاك عنه، انتهى.
قال أبو عمر في التمهيد: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ المُؤْمِنِ دَمَهُ، وَمَالَهُ، وعِرْضَهُ، وأَلاَّ يُظَنَّ بِهِ إلاَّ الْخَيْرَ» انتهى، ونقل في موضع آخر بسنده: أَنَّ عمر بن عبد العزيز كان إذا ذُكِرَ عنده رجل بفضل أو صلاح قال: كيف هو إذا ذُكِرَ عنده إخوانه؟ فإنْ قالوا: إنَّه يتنقَّصهم، وينالُ منهم، قال عمر: ليس هو كما تقولون، وإنْ قالوا: إنَّه يذكر منهم جميلاً وخيراً، ويُحْسِنُ الثَّنَاءَ عليهم، قال: هو كما تقولون إن شاء اللَّه، انتهى من التمهيد، وروى أبو داودَ في سننه عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ» انتهى. وقوله تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي: لا تبحثوا عن مخبَّآت أمور الناس، وادفعوا بالتي هي أحسن، واجتزئوا بالظواهر الحسنة، وقرأ الحسن وغيره: {وَلاَ تَحَسَّسُوا} بالحاء المهملة؛ قال بعض الناس: التَجَسُّسُ بالجيم في الشَّرِّ، وبالحاء في الخير، قال * ع*: وهكذا ورد القرآن، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال.
* ت *: وقد وردت أحاديث صحيحة في هذا الباب، لولا الإطالة لجلبناها.
{وَلاَ يَغْتَب} معناه: لا يذكرْ أحدُكم من أخيه شيئاً هو فيه، ويكره سماعَه، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
«إذَا ذَكَرْتَ مَا في أَخِيكَ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإذَا ذَكَرْتَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّه»، وفي حديث آخر: «الغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: وَإنْ كَان حَقًّا؟ قَالَ: إذَا قُلْتَ بَاطِلاً فَذَلِكَ هُوَ الْبُهْتَانُ» وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «الغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا، قِيلَ: وَكَيْفَ؟! قال: لأَنَّ الزَّانِيَ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَغْتَابُ لاَ يُتَابُ عَلَيْهِ حتى يَسْتَحِلَّ»، قال * ع *: وقد يموت من اغْتِيبَ، أو يأبى، وروى أبو داودَ في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هؤلاء يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ» انتهى.
والغِيبَةُ مشتقة من غَابَ يَغِيبُ وهي القول في الغائب، واسْتُعْمِلَتْ في المكروه، ولم يُبَحْ في هذا المعنى إلاَّ ما تدعو الضرورةُ إليه، من تجريح الشهود، وفي التعريف بمن استنصح في الخطاب ونحوهم: لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ» وما يقال في الفَسَقَةِ أيضاً، وفي وُلاَةِ الجَوْرِ، ويُقْصَدُ به: التحذيرُ منهم؛ ومنه قوله عليه السلام: «أَعَنِ الْفَاجِرِ تَرْعَوُنَ؟! اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ، مَتَى يَعْرِفُهُ النَّاسُ إذَا لَمْ تَذْكُرُوهُ؟!». * ت *: وهذا الحديث خَرَّجه أيضاً أبو بكر ابن الخطيب بسنده عن بَهْزٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَرْعَوُنَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ، اذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ؛ يَحْذَرْهُ النَّاسُ» ولم يذكر في سنده مَطْعَناً، انتهى، ومنه قوله عليه السلام: «بِئْسَ ابنُ الْعَشِيرَةِ». ثُمَّ مَثَّلَ تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت، ووقف تعالى على جهة التوبيخ بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} أي: فكذلك فاكرهوا الغِيبَةَ، قال أبو حيان: {فَكَرِهْتُمُوهُ} قيل: خبر بمعنى الأَمر، أي: فاكرهوه، وقيل على بابه، فقال الفَرَّاءُ: فقد كرهتموه، فلا تفعلوه، انتهى.
وقد روى البخاريُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» وفي رواية مسلم: «مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أوْ قَالَ: عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ» وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» انتهى، وباقي الآية بَيِّنٌ.

.تفسير الآيات (13- 14):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}
وقوله تعالى: {يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى...} الآية: المعنى: يأيها الناس، أَنتم سواء من حيثُ أنتم مخلوقون، وإنَّما جعلتم قبائل؛ لأَنْ تتعارفوا، أوْ لأَنْ تعرفوا الحَقَائِقَ، وَأَمَّا الشرفُ والكرمُ فهو بتقوى اللَّه تعالى وسلامة القلوب، وقرأ ابن مسعود: {لِتَعَارَفُوا بَيْنَكُمْ وَخَيْرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقرأ ابن عباس: {لِتَعْرِفُوا أَنَّ} عَلَى وزن تَفْعَلُوا بكسر العين وبفتح الهمزة من أَنَّ، وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ، فَلْيَتَّقِ اللَّه» وأَمَّا الشعوب فهو جمع شَعْبٍ، وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطاً بنسب واحد؛ كمُضَرٍ ورَبِيعَةَ وحِمْيَرَ، ويتلوه القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، والأسرة وهما قرابة الرجل الأَدْنَوْنَ، ثم نَبَّهَ سبحانه على الحذر بقوله: {إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} أي: بالمتقي الذي يستحق رُتْبَةَ الكرم، وَخرَّج مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إنَّ اللَّهَ أوحى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ على أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ على أَحَدٍ» وروى أبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ، إنَّما هُمْ فَحْمٌ مِنْ جَهَنَّمَ أوْ لَيَكُونُنَّ عَلَى اللَّهِ أَهْوَنَ مِنَ الجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الخُرَاءَ بِأَنْفِهِ، إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا؛ إنَّما هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» انتهى، ونقله البغويُّ في مصابيحه.
وقوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا} قال مجاهد: نزلت في بني أسد، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة، أظهروا الإسلام، وفي الباطن إنَّما يريدون المغانمَ وَعَرَضَ الدنيا، ثم أمر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ أَنْ يقول لهؤلاء المُدَّعِينَ للإيمان: {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} أي: لم تصدقوا بقلوبكم، {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} أي: استسلمنا، والإسلام يقال بمعنيين:
أحدهما: الذي يَعُمُّ الإيمانَ والأعمالَ، وهو الذي في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] والذي في قوله عليه السلام: «بُنِيَ الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ». والمعنى الثاني للفظ الإسلام: هو الاستسلام، والإظهار الذي يُسْتَعْصَمُ به ويحقن الدم، وهذا هو الذي في الآية، ثم صَرَّحَ بأَنَّ الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ثم فتح باب التوبة بقوله: {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ...} الآية، وقرأ الجمهور: {لاَ يَلِتْكُمْ} من لاَتَ يَلِيتُ إذا نقص؛ يقال: لاَتَ حَقَّهُ إذا نَقَصَهُ منه، وقرأ أبو عمرو: {لاَ يَأْلِتْكُمْ} من أَلَتَ يَأْلِتُ وهي بمعنى لاَتَ.

.تفسير الآيات (15- 18):

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا المؤمنون} إنما هنا حاصرة.
وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} أي: لم يشكوا، ثم أمر اللَّه تعالى نَبِيَّه عليه السلام بتوبيخهم بقوله: {أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أي: بقولكم آمنا، وهو يعلم منكم خلافَ ذلك؛ لأَنَّهُ العليم بكل شيء.
وقوله سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} نزلت في بني أسد أيضاً، وقرأ ابن مسعود: {يَمنُّونَ عَلَيْكَ إسْلاَمَهُمْ} وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}

.تفسير سورة ق:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 14):

{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)}
قوله عز وجل: {ق والقرءان المجيد} قال مجاهد، والضَّحَّاك، وابن زيد، وعِكْرَمَةُ: ق اسم الجبل المحيط بالدنيا، وهو فيما يزعمون أَنَّهُ من زمردة خضراء، منها خُضْرَةُ السماء وخضرة البحر، وقيل في تفسيره غير هذا، و{المجيد}: الكريم في أوصافه الذي جمع كُلَّ مَعْلاَةٍ، و{ق} مُقْسَمٌ به وبالقرآن؛ قال الزَّجَّاجُ: وجواب القسم محذوف تقديره: ق والقرآن المجيد لتبعثن، قال * ع *: وهذا قول حسن، وأحسن منه أَنْ يكون الجواب هو الذي يقع عنه الإضراب ببل، كأَنَّه قال: والقرآنِ المجيد ما رَدُّوا أمرك بحجة، ونحو هذا، مِمَّا لابد لك من تقديره بعد الذي قَدَّره الزَّجَّاجُ، وباقي الآية بَيِّنٌ مِمَّا تقدم في ص ويونس وغيرهما، ثم أخبر تعالى؛ رَدًّا على قولهم بأَنَّهُ سبحانه يعلم ما تأكل الأرضُ من ابن آدم، وما تُبْقِي منه، وأَنَّ ذلك في كتاب، والحفيظ: الجامع الذي لم يَفُتْهُ شيء؛ وفي الحديث الصحيح: «إنَّ الأَرْضَ تَأَكُلُ ابْنَ آدَمَ إلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ» وهو عَظْمٌ كالخَرْدَلَةِ، فمِنْهُ يُرَكَّبُ ابن آدم، قال * ع *: وحِفْظُ ما تنقص الأرض إنَّما هو ليعودَ بعينه يومَ القيامة، وهذا هو الحَقُّ؛ قال ابن عباس والجمهور: المعنى: ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم، وقال السُّدِّيُّ: {مَا تَنقُصُ الأرض} أي: ما يحصل في بطنها من موتاهم، وهذا قول حسن مضمنه الوعيد، والمريج: معناه المخلط؛ قاله ابن زيد، أي: بعضُهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: كاهن، وبعضهم يقول: شاعر، إلى غير ذلك من تخليطهم، قال * ع *: والمريج: المضطرب أيضاً، وهو قريب من الأَول؛ ومنه مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، ومن الأَوَّلِ {مَرَجَ البحرين} [الفرقان: 53].
ثم دَلَّ تعالى على العبرة بقوله: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السماء...} الآية، {وزيناها} أي: بالنجوم، والفروج: الفطور والشقوقُ خلالها وأثناءها؛ قاله مجاهد وغيره.
* ت *: وقال الثعلبي بأثر كلام للكسائي: يقول: كيف بنيناها بلا عَمَدٍ، وَزَيَّنَّاها بالنجوم، وما فيها فتوق؟ {والأرض مددناها} أي: بسطناها على وجه الماء، انتهى، والرواسي: الجبال، والزوج: النوع، والبهيج: الحَسَنُ المنظر؛ قاله ابن عباس وغيره، والمنيب: الراجع إلى الحَقِّ عن فكرة ونظر؛ قال قتادة: هو المُقْبِلُ إلى اللَّه تعالى، وخَصَّ هذا الصنف بالذكر؛ تشريفاً لهم من حيثُ انتفاعُهُم بالتبصرة والذكرى، {وَحَبَّ الحصيد}: البُرُّ، والشعير، ونحوُهُ مِمَّا هو نبات مُحَبَّبٌ يُحْصَدُ؛ قال أبو حيان: {وَحَبَّ الحصيد} من إضافة الموصوف إلى صفته على قول الكوفيين، أو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مُقَامه، أي: حب الزرع الحصيد على قول البصريين، و{باسقات} حال مُقَدَّرَةٌ؛ لأَنَّهَا حالةَ الإنبات ليست طوالاً، انتهى، و{باسقات}: معناه طويلات ذاهبات في السماء، والطَّلْعُ أول ظهور التمر في الكُفَّرَى، قال البخاريُّ: و{نَّضِيدٌ} معناه: مَنْضُودٌ بعضُه على بعض، انتهى، ووصف البلدة بالميت على تقدير القطر والبلد.
ثم بَيَّنَ سبحانه موضع الشَّبَهِ فقال: {كذلك الخروج} يعني: من القبور، وهذه الآيات كلها إنَّما هي أَمْثِلَة وأَدِلَّة على البعث، {وأصحاب الرس}: قوم كانت لهم بئر عظيمة، وهي الرَّسُّ، وكُلُّ ما لم يُطْوَ من بئر، أو مَعْدِنٍ، أو نحوه فهو رَسٌّ، وجاءهم نبيٌّ يُسَمَّى حَنْظَلَةَ بن سفيان فيما رُوِيَ فجعلوه في الرَّسِّ وردموا عليه، فأهلكهم اللَّهُ، وقال الضَّحَّاك: الرَّسُّ بئر قُتِلَ فيها صاحب يسا، وقيل: إنَّهم قوم عاد، واللَّه أعلم.
وقوله: {كُلٌّ} قال سيبويه: التقدير: كُلُّهم، والوعيد الذي حَقَّ: هو ما سبق به القضاءُ من تعذيبهم.