فصل: تفسير الآيات (15- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (15- 17):

{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)}
وقوله سبحانه: {أَفَعَيِينَا} توقيف للكفار، وتوبيخ، والخلق الأَوَّلُ: إنشاء الإنسان من نُطْفَةٍ على التدريج المعلوم، وقال الحسن: الخلق الأول: آدم، واللَّبْسُ: الشَّكُّ والريب، واختلاط النظر، والخَلْقُ الجديد: البعث من القبور.
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان...} الإنسان: اسم جنس، و{تُوَسْوِسُ} معناه: تتحدث في فكرتها، والوسوسةُ إنَّما تُسْتَعْمَلُ في غير الخير.
وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد}: عبارة عن قُدْرَةِ اللَّه على العبد، وكونُ العبد في قبضة القدرة والعلم قد أُحِيط به، فالقرب هو بالقدرة والسُّلطان، إذ لا يَنْحَجِبُ عن علم اللَّه لا باطنٌ ولا ظاهر، والوريد: عرق كبير في العُنُقِ، ويقال: إنَّهما وريدان عن يمين وشمال.
وأَمَّا قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} فقال المفسرون: العامل في إذ {أَقْرَبُ} ويحتمل عندي أَنْ يكون العاملُ فيه فعلاً مُضْمَراً تقديره: اذكر إذ يتلقى المتلقيان، و{المتلقيان}: المَلَكَانِ المُوَكَّلان بكل إنسان، مَلَكُ اليمين الذي يكتب الحسناتِ، وملك الشمال الذي يكتب السيِّئات؛ قال الحسن: الحَفَظَةُ أربعة: اثنان بالنهار، واثنان بالليل، قال * ع *: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ» الحديث بكماله، ويُرْوَى أَنَّ مَلَك اليمين أمير على ملك الشمال، وأَنَّ العبد إذا أَذنب يقول ملك اليمين للآخر: تَثَبَّتْ؛ لَعَلَّهُ يتوبُ؛ رواه إبراهيم التيمي، وسفيان الثوري، و{قَعِيدٌ}: معناه قاعد.

.تفسير الآيات (18- 22):

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}
وقوله سبحانه: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ...} الآية، قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: يكتب الملكانِ جميعَ الكلام، فيثبت اللَّه من ذلك الحسناتِ والسيئات، ويمحو غيرَ هذا، وهذا هو ظاهر هذه الآية، قال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كُلَّ شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عِكْرَمَةُ: يكتبان الخير والشَّرَّ فقط؛ قال * ع*: والأوَّلُ أصوب.
* ت *: وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «كُلُّ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، إذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، فَأَحَبَّ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّه، فَلْيَأْتِ، فَلْيَمُدَّ يَدَيْهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ مِنْهَا، لاَ أَرْجِعُ إلَيْهَا أَبَداً، فَإنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ في عَمَلِهِ ذَلِكَ» رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً، انتهى من السِّلاح، قال النَّوَوِيُّ رحمه اللَّه تعالى: ينبغي لكل مُكَلَّفٍ أَنْ يحفظ لسانه من جميع الكلام إلاَّ كلاماً تظهر فيه مصلحته، ومتى استوى الكلامُ وتركه بالمصلحة فالسُّنَّةُ الإمساكُ؛ فإنَّهُ قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وهذا هو الغالب، والسلامة لا يعدلها شيءٌ، وقد صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاريُّ ومسلم أَنَّه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» وهو نَصٌّ صريح فيما قلناه، قال: ورُوِّينَا في كتاب الترمذيِّ وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «مِنْ حُسْنِ إسْلاَم المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» قال الترمذيُّ: حديث حسن، وفيه عن عُقْبَةَ بن عامر قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابك على خَطِيئَتِكَ» قال الترمذيُّ: حديث حسن، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ» قال الترمذيُّ: حديث حسن، انتهى، والرقيب: المُرَاقِبُ، والعتيد: الحاضر.
وقوله: {وَجَاءَتْ} عطف، عندي، على قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى} فالتقدير: وإذ تجيء سكرة الموت.
* ت *: قال شيخُنَا، زينُ الدين العراقيُّ في أرجوزته: [الرجز]
وَسَكْرَةُ المَوْتِ اختلاط الْعَقْلِ

البيت. انتهى.
وقوله: {بالحق} معناه: بلقاء اللَّهِ، وَفَقْدُ الحياة الدنيا، وفراقُ الحياة حَقٌّ يعرفه الإنسانُ، ويحيد منه بأمله، ومعنى هذا الحيد أَنَّه يقول: أعيش كذا وكذا، فمتى فكر حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمان، وهذا شأن الإنسان، حَتَّى يفاجئه الأجل؛ قال عَبْدُ الحَقِّ في العاقبة: وَلَمَّا احْتَضَرَ مالك بن أنس، ونزل به الموتُ قال لمن حضره: لَيُعَاينَنَّ الناسُ غداً من عفو اللَّه وَسَعَةِ رحمته ما لم يخطر على قلب بشر، كُشِفَ له رضي اللَّه عنه عن سعة رحمة اللَّه وكثرة عفوه وعظيم تجاوُزِهِ ما أوجب أَنْ قال هذا، وقال أبو سليمان الدارانيُّ: دخلنا على عابد نزوره، وقد حضره الموتُ، وهو يبكي، فقلنا له: ما يبكيك رحمك اللَّه؟! فأنشأ يقول: [الطويل]
وَحُقَّ لِمِثْلِي البُكَا عِنْدَ مَوْتِه ** وَمَالِيَ لاَ أَبْكِي وَمَوْتِي قَدِ اقترب

وَلِي عَمَلٌ في اللَّوْحِ أَحْصَاهُ خَالِقِي ** فَإنْ لَمْ يَجُدْ بِالْعَفْوِ صِرْتُ إلَى الْعَطَبْ

انتهى، و{يَوْمَ الوعيد}: هو يوم القيامة، والسائِقُ: الحاثُّ على السير، واختلف الناسُ في السائق والشهيد، فقال عثمان بن عفان وغيره: هما مَلَكَانِ مُوَكَّلاَنِ بكل إنسان أحدهما يسوقه، والآخر مِنْ حَفَظَتِهِ يشهد عليه، وقال أبو هريرة: السائق: مَلَكٌ، والشهيد: العمل، وقيل: الشهيد: الجوارح، وقال بعض النظار: سائق اسم جنس وشهيد كذلك، فالسَّاقَةُ للناس ملائكة مُوَكَّلُون بذلك، والشهداء: الحَفَظَةُ في الدنيا، وكل مَنْ يشهد.
وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ} يعمُّ الصالحين وغيرهم؛ فإنَّما معنى الآية شهيد بخيره وشَرِّهِ، ويقوى في شهيد اسم الجنس، فتشهد الملائكة، والبِقَاعُ والجوارحُ؛ وفي الصحيح: «لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ إنْسٌ، وَلاَ جِنٌّ، وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وقوله سبحانه: {لَّقَدْ كُنتَ} قال ابن عباس وغيره: أَي: يقال للكافر: لقد كنتَ في غفلة من هذا، فلمَّا كُشِفَ الغطاءُ عنك الآنَ احْتَدَّ بصرُك، أي: بصيرتك؛ وهذا كما تقول: فلان حديد الذِّهْنِ ونحوه، وقال مجاهد: هو بصر العين، أي: احْتَدَّ التفاته إلى ميزانه، وغيرِ ذلك من أهوال القيامة.
والوجه عندي، في هذه الآية، ما قاله الحسن وسالم بن عبد اللَّه: إنَّها مُخَاطَبَةٌ للإِنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر، وهكذا، قال الفخر: قال: والأقوى أنْ يقال: هو خطاب عامٌّ مع السامع، كأنَّهُ يقول: ذلك ما كنتَ منه تحيد أيُّها السامع، انتهى، وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ نِيَامٌ، فَإذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا».

.تفسير الآيات (23- 28):

{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)}
وقوله تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} قال جماعة من المفسرين: يعني قرينه من زبانية جهنم، أي: قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الكافر، حاضر، وقال قتادة وابن زيد: بل قرينه المُوَكَّلُ بسوقه، قال * ع *: ولفظ القرين اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبُه من الزبانية قرين، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين، والكُلُّ تحتمله هذه الآية، أي: هذا الذي أحصيتُهُ عليه عتيد لَدَيَّ، وهو مُوجِبُ عذابه، والقرين الذي في هذه الآية غيرُ القرين الذي في قوله: {قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} إذ المقارنة تكون على أنواع.
وقوله سبحانه: {أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} المعنى: يقال: أَلْقِيَا في جهنَّمَ، واخْتُلِفَ لمن يُقَالُ ذلك، فقال جماعة: هو قول لِمَلَكَيْنِ من ملائكة العذاب.
وقال عبد الرحمن بن زيد: هو قول للسائق والشهيد.
وقال جماعة من أهل العلم باللغة: هذا جارٍ على عادة كلام العرب الفصيح أنْ يُخَاطَبَ الواحدُ بلفظ الاثنين؛ وذلك أَنَّ العربَ كان الغالبُ عندها أنْ يترافق في الأسفار ونحوها ثَلاَثَةٌ، فَكُلُّ واحد منهم يخاطِبُ اثنين، فَكَثُرَ ذلك في أشعارها وكلامها، حَتَّى صار عُرْفاً في المخاطبة، فاسْتُعْمِلَ في الواحد، ومن هذا قولهم في الأشعار: [من الطويل]
خَلِيلَيَّ.........

وصَاحِبَيَّ.......

[ومن الطويل]
قِفَا نَبْكِ......

ونحوه.
وقال بعض المتأولين: المراد أَلْقِيَنْ، فَعُوِّضَ من النون ألفٌ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {أَلْقِياً} بتنوين الياء، و{عنيد} معناه: عَانِدٌ عن الحق، أي: مُنْحَرِفٌ عنه.
وقوله تعالى: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} لفظ عامٌّ للمالِ والكلام الحَسَنِ والمُعَاوَنَةِ على الأشياء، و{مُعْتَدٍ} معناه: بلسانه ويده.
وقوله سبحانه: {الذى جَعَلَ مَعَ الله...} الآية، يحتمل أنْ يكون {الذى} بدلاً من {كَفَّارٍ}، أو صفةً له، وَيَقْوَى عندي أَنْ يكونَ {الذى} ابتداءً ويتضمن القولُ حينئذ بني آدم والشياطينَ المغوينَ لهم في الدنيا، ولذلك تَحَرَّكَ القرينُ، الشيطانُ المُغْوِي، فرام أَنْ يُبْرِئ نفسه ويخلصها بقوله: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}.
وقوله: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} ليست بحجة؛ لأَنَّهُ كَذَبَ أَنْ نفى الإطغاء عن نفسه جملةً، وهو قد أطغاه بالوسوسة والتزيينِ، وأَطغاه اللَّه بالخلق والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه، سبحانه لا رَبَّ غيرُه.
وقوله سبحانه: {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ} معناه: قال اللَّه: لا تختصموا لديَّ بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئاً {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} وهو ما جاءت به الرسلُ والكتب، وجُمِعَ الضمير؛ لأَنَّه مخاطبة لجميع القرناء؛ إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط.

.تفسير الآيات (29- 31):

{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)}
وقوله سبحانه: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} أي: لا ينقض ما أبرمه كلامي من تعذيب الكفرة، ثم أزال سبحانه موضعَ الاعتراض بقوله: {وَمَا أَنَاْ بظلام لِّلْعَبِيدِ} أي: هذا عدل فيهم؛ لأَنِّي أنذرت، وأمهلت، وأنعمتُ، وقرأ الجمهور: {يَوْمَ نَقُولُ} بالنون، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر بالياء، وهي قراءة أهل المدينة، قال * ع *: والذي يترجَّحُ في قول جهنم: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} أَنَّها حقيقة، وأَنَّها قالت ذلك، وهي غير ملأى، وهو قول أنس بن مالك، ويبين ذلك الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟! حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ» ولفظ البخاريِّ عن أبي هريرةَ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِيَ، لاَ يَدْخُلُنِي إلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟! فَقَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلَّنارِ: إنَّما أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةِ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئ حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَاكَ تَمْتَلِئ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَداً، وَأَمَّا الجَنَّةُ فَإنَّ اللَّهَ يُنْشِئ لَهَا خَلْقَاً» انتهى، قال * ع *: ومعنى: قدمه ما قَدَّمَ لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها؛ ومنه: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] ومِلاَكُ النظر في هذا الحديث أَنَّ الجارحةَ، والتشبيهَ، وما جرى مجراه مُنْتَفٍ كُلُّ ذلك عن اللَّه سبحانه، فلم يبقَ إلاَّ إخراجُ اللفظ على الوجوه السائغة في كلام العرب.
{وَأُزْلِفَتِ الجنة} معناه: قُرِّبَتْ، ولما احتمل أنْ يكونَ معناه بالوعد والإخبار رفع الاحتمال بقوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} قال أبو حيان: {غَيْرَ بَعِيدٍ} أي: مكاناً غيرَ بعيد؛ فهو منصوب على الظرف، وقيل: منصوب على الحال من الجنة، انتهى.

.تفسير الآيات (32- 37):

{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}
وقوله سبحانه: {هذا مَا تُوعَدُونَ} يحتمل أنْ يكونَ معناه: يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة: هذا الذي كنتم توعدون به في الدنيا، ويحتمل أنْ يكون خطاباً لِلأُمَّةِ، أي: هذا ما توعدون أَيُّها الناس {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ}: والأَوَّابُ: الرَّجَّاعُ إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه، وقال ابن عباس وعطاء: الأَوَّابُ: المُسَبِّحُ؛ من قوله: {ياجبال أَوِّبِى مَعَهُ} [سبأ: 10] وقال المُحَاسِبِيُّ: هو الراجع بقلبه إلى ربه، وقال عبيد بن عمير: كُنَّا نتحدث أَنَّه الذي إذا قام من مجلسه استغفر اللَّه مِمَّا جرى في ذلك المجلس، وكذلك كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعل، والحفيظ معناه: لأوامر اللَّه، فيمتثلها، ولنواهيه فيتركها، وقال ابن عباس: حفيظ لذنوبه حَتَّى يرجعَ عنها، والمُنِيبُ: الراجع إلى الخير المائِلُ إليه؛ قال الدَّاوُودِيُّ: وعن قتادَةَ {بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} قال: مُقْبِلٌ على اللَّه سبحانه، انتهى.
وقوله سبحانه: {ادخلوها} أي: يقال لهم: ادخلوها.
وقوله عز وجل: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} خبر بأَنَّهم يُعْطَوْنَ آمالهم أجمع، ثم أبهم تعالى الزيادةَ التي عنده للمؤمنين المُنَعَّمِينَ، وكذلك هي مُبْهَمَةٌ في قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وقد فسر ذلك الحديثُ الصحيحُ، وهو قوله عليه السلام: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، بَلْهَ مَا اطَّلَعْتُمْ عَلَيْهِ» قال * ع *: وقد ذكر الطبريُّ وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديثَ مطولة، وأشياءَ ضعيفةً؛ لأَنَّ اللَّه تعالى يقول: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ} وهم يعينونها تكلفاً وتعسفاً.
وقوله تعالى: {فَنَقَّبُواْ في البلاد} أي: ولجوا البلادَ من أنقابها؛ طمعاً في النجاة من الهلاك {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} أي: لا محيصَ لهم، وقرأ ابن عباس وغيره: {فَنَقِّبُوا} على الأمر لهؤلاء الحاضرين.
* ت *: وعبارة البخاريِّ {فَنَقَّبُوا}: ضربوا، وقال الداودي: وعن أبي عبيدةَ {فَنَقَّبُواْ في البلاد}: طافوا، وتباعدوا، انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ} يعني: إهلاك مَنْ مضى {لِذِكْرِى} أي: تذكرة، والقلبُ عبارة عن العقل؛ إذْ هو مَحِلُّهُ، والمعنى: لمن كان له قلب واعٍ ينتفعُ به، وقال الشبليُّ: معناه: قلب حاضر مع اللَّه، لا يغفلُ عنه طرفةَ عين.
وقوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} معناه: صَرَفَ سَمْعَهُ إلى هذه الأنباء الواعظة، وأثبته في سماعها {وَهُوَ شَهِيدٌ} قال بعض المتأولين: معناه: وهو مشاهِد مُقْبَلٌ على الأمر، غيرُ مُعْرِضٍ ولا مُفَكِّرٍ في غير ما يسمع.
* ت *: ولفظ البخاريِّ {أَوْ أَلْقَى السمع} أي: لا يحدث نفسَه بغيره {شَهِيدٌ} أي: شاهد بالقلب، انتهى، قال المُحَاسِبيُّ في رعايته: وقد أَحْبَبْتُ أَنْ أَحُضَّكَ على حُسْنِ الاستماع؛ لتدركَ به الفهمَ عن اللَّه عز وجل في كُلِّ ما دعاك إليه؛ فإنَّه تعالى أخبرنا في كتابه أَنَّ مَنِ استمع كما يُحِبُّ اللَّهُ تعالى وَيَرْضَى، كان له فيما يستمع إِليه ذِكْرَى، يعني: اتعاظاً، وإذا سَمَّى اللَّه عز وجل لأحد من خلقه شَيْئاً فهو له كما سَمَّى، وهو واصل إليه كما أخبر؛ قال عز وجل: {إِنَّ في ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} قال مجاهد: شاهد القلب، لا يُحَدِّثُ نفسَه بشيء ليس بغائب القلب، فَمَنِ استمع إلى كتاب اللَّه عز وجل، أو إلى حكمة، أو إلى علم، أو إلى عِظَةٍ، لا يُحَدَّثُ نفسَه بشيء غيرِ ما يستمع إليه، قَدْ أشهد قَلْبَهُ ما استمع إليه، يريدُ اللَّهَ عز وجل به: كان له فيه ذكرى؛ لأَنَّ اللَّه تعالى قال ذلك، فهو كما قال عز وجل، انتهى كلام المحاسبيِّ، وهو دُرٌّ نفيس، فَحَصِّلْهُ، واعملْ به تَرْشُدْ، وقد وجدناه، كما قال، وباللَّه التوفيق.