فصل: تفسير الآيات (64- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (64- 74):

{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}
وقوله سبحانه: {ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أي: زرعاً يتم {أَمْ نَحْنُ}: وروى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «لاَ تَقُلْ: زَرَعْتُ، وَلَكِنْ قُلْ حَرَثْتُ، ثُمَّ تَلاَ أَبُو هُرَيْرَةَ هَذِهِ الآية» والحطام: اليابس المُتَفَتِّتُ من النبات الصائر إلى ذهاب، وبه شُبِّهَ حُطَامُ الدنيا و{تَفَكَّهُونَ} قال ابن عباس وغيره: معناه تعجبون، أي: مِمَّا نزل بكم، وقال ابن زيد: معناه: تتفجعون، قال * ع *: وهذا كله تفسير لا يَخُصُّ اللفظة، والذي يخص اللفظةَ هو تطرحون الفكاهةَ عن أنفسكم، وقولهم: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} قبله محذوف تقديره: يقولون، وقرأ عاصم الجَحْدَرِيُّ: {أَإنَّا لَمُغْرَمُونَ} بهمزتين على الاستفهام، والمعنى يحتمل أَنْ يكونَ: إنا لمغرمون من الغرام، وهو أَشَدُّ العذاب، ويحتمل: إنَّا لمحملون الغرم، أي: غرمنا في النفقةَ، وذَهَبَ زَرْعُنَا، وقد تَقَدَّمَ تفسيرُ المحروم، وأَنَّهُ الذي تبعد عنه مُمْكِنَاتُ الرزق بعد قُرْبها منه، وقال الثعلبيُّ: المحروم ضد المرزوق، انتهى، و{المزن}: هو السحاب، والأُجَاجُ: أشدُّ المياه ملوحةً، و{تُورُونَ} معناه: تقتدحون من الأزند؛ تقول: أوريتُ النارَ من الزِّنَادِ، والزنادُ: قد يكون من حجر وحديدة، ومن شجر، لاسيما في بلاد العرب، ولاسيما في الشجر الرَّخْوِ؛ كالمَرَخِ والعفار والكلخ، وما أشبهه، ولعادة العرب في أزنادهم من شجر قال تعالى: {ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} أي: التي تقدح منها {أَمْ نَحْنُ المنشئون * نَحْنُ جعلناها}: يعني نار الدنيا {تَذْكِرَةً} للنار الكبرى، نارِ جهنم؛ قاله مجاهد وغيره، والمتاع: ما يُنْتَفَعُ به، والمُقْوِينَ: في هذه الآية الكائنين في الأرض القَوَاءِ، وهي الفَيَافي، ومن قال معناه: للمسافرين فهو نحو ما قلناه، وهي عبارة ابن عباس رضي اللَّه عنه تقول: أَقْوَى الرَّجُلُ: إذا دَخَلَ في الأرض القَوَاءِ.

.تفسير الآيات (75- 80):

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)}
وقوله سبحانه: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} الآية: قال بعض النحاة: لا زائدة، والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروفة، وقرأ الحسن وغيره: {فَلأُقْسِمُ} من غير ألف، وقال بعضهم: لا نافية كأَنَّهُ قال: فلا صِحَّةَ لما يقوله الكفار، ثم ابتدأ: أقسم بمواقع النجوم، والنجوم: هنا قال ابن عباس وغيره: هي نجوم القرآن؛ وذلك أَنَّهُ روي أَنَّ القرآن نزل في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، وقيل: إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم نُجُوماً مُقَطَّعَةً مدة من عشرين سنةً، قال * ع*: ويؤيده عودُ الضمير على القرآن في قوله: {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} وقال كثير من المفسرين: بلِ النجوم هنا هي الكواكب المعروفة، ثم اختلف هؤلاء في مواقعها، فقيل: غروبها وطلوعها، وقيل: مواقعها عند انقضاضها إثْرَ العفاريت.
[وقوله:] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ}: تأكيد.
وقوله: {لَّوْ تَعْلَمُونَ}: اعتراض.
وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ}: هو الذي وقع القسم عليه.
وقوله: {فِى كتاب مَّكْنُونٍ} الآية: المكنون: المصون؛ قال ابن عباس وغيره: أراد الكتابَ الذي في السماء، قال الثعلبيُّ: ويقال: هو اللوح المحفوظ.
وقوله: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} يعني: الملائكة، وليس في الآية على هذا التأويل تَعَرُّضٌ لحكم مَسِّ المصحف لسائر بني آدم، وقال بعض المتأولين: أراد بالكتاب مصاحِفَ المسلمين، ولم تكن يومئذ، فهو إخبار بغيب مضمنه النهي، فلا يَمَسُّ المصحفَ من بني آدم إلاَّ الطاهرُ من الكفر والحَدَثِ؛ وفي كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حَزْمٍ: «لاَ يَمَسَّ القرآنَ إلاَّ طَاهِرٌ»، وبِهِ أخذ مالك، وقرأ سليمان: {إلاَّ المُطَهِّرُونَ} بكسر الهاء.

.تفسير الآيات (81- 84):

{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)}
وقوله تعالى: {أفبهذا الحديث}: يعني القرآن المتضمن البعثَ، و{مُّدْهِنُونَ} معناه: يلاينُ بعضُكم بعضاً، ويتبعه في الكفر؛ مأخوذ من الدُّهْنِ للينه واملاسِّه، وقال ابن عباس: المُدَاهَنَةُ: هي المهاودة فيما لا يَحِلُّ، والمُدَارَاةُ: هي المهاودة فيما يَحِلُّ، ونقل الثعلبيُّ أَنَّ أدهن وداهن بمعنى واحد، وأصله من الدُّهْنِ، انتهى.
وقوله سبحانه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}: أجمع المفسرون على أَنَّ الآيةَ توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله اللَّه تعالى رزقاً للعباد: هذا بِنَوْءِ كذا، والمعنى: وتجعلون شُكْرَ رزقكم، وحكى الهيثم بن عدي أَنَّ من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان بمعنى ما شكر، وكان عليٌّ يقرأ: {وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} وكذلك قرأ ابن عباس، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر اللَّه سبحانه فقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاءً مباركا فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات وَحَبَّ الحصيد * والنخل باسقات لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} [ق: 9، 10، 11] فهذا معنى قوله: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي: بهذا الخبر، قال * ع *: والمنهيُّ عنه هو أَنْ يعتقد أَنَّ للنجوم تأثيراً في المطر.
وقوله سبحانه: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} يعني: بلغت نفسُ الإنسان، والحُلْقُومُ: مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزع المرء للموت.
وقوله: {وَأَنتُمْ} إشارة إلى جميع البشر حينئذ، أي: وقتَ النزع {تَنظُرُونَ}: إليه، وقال الثعلبيُّ: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} إلى أمري وسلطاني، يعني: تصريفه سبحانه في الميت، انتهى، والأَوَّلُ عندي أحسن، وعَزَاهُ الثعلبيُّ لابن عباس.

.تفسير الآيات (85- 87):

{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)}
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: بالقدرة والعلم، ولا قدرةَ لكم على دفع شيء عنه، وقيل: المعنى: وملائكتنا أقربُ إليه منكم، ولكن لا تبصرونهم، وعلى التأويل الأَوَّل من البصر بالقلب.
{فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي: مملوكين أَذِلاَّءَ، والمدين: المملوك، هذا أَصَحُّ ما يقال في هذه اللفظة هنا، ومَنْ عبَّرَ عنها بمُجَازَى أو بُمُحَاسَبٍ، فذلك هنا قلق، والمملوك مُقَلَّبٌ كيف شاء المالكُ، ومن هذا الملك قول الأخطل: الأخطل [الطويل]
رَبَتْ وَرَبَا فِي حَجْرِهَا ابن مَدِينَةٍ ** تَرَاهُ على مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ

أراد ابن أَمَةٍ مملوكة، وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى البيت: إِنَّه أراد أَكَّاراً حضرياً، فنسبه إلى المدينة، فمعنى الآية: فهل لا ترجعون النفسَ البالغة الحلقوم إِنْ كنتم غير مملوكين مقهورين؟.
وقوله: {تَرْجِعُونَهَا} سَدَّ مَسَدَّ الأجوبة، والبيانات التي تقتضيها التحضيضات.

.تفسير الآيات (88- 90):

{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)}
وقوله تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين} الآية، ذكر سبحانه في هذه الآيةِ حال الأزواج الثلاثةَ المذكورين في أَولِ السورة، وحال كُلِّ امرئ منهم، فَأَمَّا المرءُ من السابقين المقربين، فَيَلْقَى عند موته رَوْحاً وريحاناً، والرَّوْحَ: الرحمة والسعة والفرح؛ ومنه: {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] والريحان: الطيب، وهو دليل النعيم، وقال مجاهد: الريحان: الرزق، وقال الضَّحَّاكُ: الريحان الاستراحة، قال * ع *: الريحان ما تنبسط إليه النفوس، ونقل الثعلبيُّ عن أبي العالية قال: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يُؤْتَى بغصنٍ من ريحان الجنة فَيَشُمُّهُ، ثم يُقْبَضُ روحه فيه، ونحوه عن الحسن، انتهى.
فإنْ أردت يا أخي اللحوق بالمقربين؛ والكون في زمرة السابقين، فاطرح عنك دنياك؛ وأقبلْ على ذكر مولاك، واجعل الآن الموت نصب عينيك، قال الغزاليُّ: وإنَّما علامةُ التوفيق أَنْ يكون الموت نصبَ عينيك، لا تغفل عنه ساعة، فليكنِ الموتُ على بالك يا مسكين؛ فإنَّ السير حاثٌّ بك، وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزلَ، وقطعت المسافة فلا يكن اهتمامُك إلاَّ بمبادرة العمل، اغتناماً لكل نَفَسٍ أمهلتَ فيه، انتهى من الإحياء، قال ابن المبارك في رقائقه: أخبرنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: ما مِنْ مَيِّتٍ يموت، إلاَّ عرض عليه أهل مجلسه: إنْ كان من أهل الذِّكْرِ فمن أهل الذكر، وإِنْ كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو، انتهى.

.تفسير الآيات (91- 96):

{فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}
وقوله تعالى: {فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين}: عبارة تقتضي جملةَ مدحٍ وصفةَ تخلُّصٍ، وحصولَ عالٍ من المراتب، والمعنى: ليس في أمرهم إلاَّ السلامُ والنجاةُ من العذاب؛ وهذا كما تقول في مدح رجل: أَمَّا فلان فناهيك به، فهذا يقتضي جملةً غيرَ مفصلة من مدحه، وقدِ اضطربت عباراتُ المُتَأَوِّلِينَ في قوله تعالى: {فسلام لَّكَ} فقال قوم: المعنى: فيقال له سلام لك إنَّكَ من أصحاب اليمين، وقال الطبريُّ: {فسلام لَّكَ}: أنت من أصحاب اليمين، وقيل: المعنى: فسلام لك يا محمد، أي: لا ترى فيهم إلاَّ السلامة من العذاب.
* ت *: ومن حصلت له السلامةُ من العذاب فقد فاز دليله {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] قال * ع *: فهذه الكاف في {لَّكَ} إمَّا أنْ تكونَ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر، ثم لكل مُعْتَبِرٍ فيها من أُمَّتِهِ، وإمَّا أَنْ تكونَ لمن يخاطب من أصحاب اليمين، وغيرُ هذا مِمَّا قيل تَكَلُّفٌ، ونقل الثعلبيُّ عن الزَّجَّاج: {فسلام لَّكَ} أي: إنَّك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقد علمتَ ما أَعَدَّ اللَّه لهم من الجزاء بقوله: {فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} الآيات...
والمكذبون الضالُّون: هم الكفار، أصحابُ الشمال والمشأَمة، والنُّزُلُ: أول شيء يقدم للضيف، والتصلية: أنْ يباشر بهم النار، والجحيم معظم النار وحيث تراكمها.
{إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} المعنى: إنَّ هذا الخبرَ هو نفس اليقين وحقيقتُه.
وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} عبارة تقتضي الأمر بالإِعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها، وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة اللَّه تعالى، والدعاء إليه.
* ت *: وعن جابر بن عبد اللَّه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الْجَنَّةِ» رواه الترمذي، والنسائيُّ، والحاكم، وابن حبان في صحيحيهما، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وعند النسائِيِّ: شَجَرَةَ بدل نَخْلَةَ، وعنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلاَلِ اللَّهِ التَسْبِيحَ، وَالتَّهْلِيلَ، وَالتَّحْمِيدَ يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَوْ لاَ يَزَالَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ»، ورواه أيضاً ابن المبارك في رقائقه عن كعب، وفيه أيضاً عن كعب أَنَّهُ قال: «إنَّ لِلْكَلاَمِ الطَّيِّبِ حَوْلَ الْعَرْشِ دَوِيًّا كَدَوِيِّ النَّحْلِ يُذَكِّرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ» انتهى، وعن أبي هريرةَ «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْساً فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟ قُلْتُ: غِرَاساً، قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ مِنْ هذا؟ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ؛ يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ»
روى هذين الحديثين ابن ماجه واللفظ له، والحاكم في المستدرك، وقال في الأول: صحيح على شرط مسلم، انتهى من السلاح، ورَوَى عُقْبَةُ بن عامر قال: لَمَّا نزلتْ: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ»؛ فَلَمَّا نَزَلَتْ: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} قَالَ: «اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ»، فيحتمل أنْ يكونَ المعنى: سبح اللَّه بذكر أسمائه العلا، والاسم هنا بمعنى: الجنس، أي: بأسماء ربك، والعظيم: صفة للرب سبحانه، وقد يحتمل أَنْ يكون الاسم هنا واحداً مقصوداً، ويكون {العظيم} صفة له، فكأَنَّه أمره أَنْ يسبِّحَهُ باسمه الأعظم، وإنْ كان لم يَنُصَّ عليه، ويؤيِّدُ هذا ويشير إليه اتصالُ سورة الحديد وأوَّلُها فيها التسبيح، وجملة من أسماء اللَّه تعالى، وقد قال ابن عباس: اسم اللَّه الأعظم موجود في سَتِّ آيات من أَوَّلِ سورة الحديد، فتأمَّل هذا، فإنَّهُ من دقيق النظر، وللَّه تعالى في كتابه العزيز غوامضُ لا تكاد الأذهانِ تدركها.

.تفسير سورة الحديد:

وهي مدنية، ويشبه صدرها أن يكون مكيا.
روي عن ابن عباس أن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد.
وروي أن الدعاء بعد قراءتها مستجاب.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)}
قوله عز وجل: {سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم}: قال أكثر المفسرين: التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان اللَّهِ، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوامُ والاستمرارُ، ثم اختلفوا: هل هذا التسبيح حقيقةٌ أو مجاز على معنى أَنَّ أثر الصنعة فيها تُنَبِّهُ الرائي على التسبيح؟ قال الزَّجَّاجُ وغيره: والقول بالحقيقة أحسن، وهذا كله في الجمادات، وأَمَّا ما يمكن التسبيح منه فقول واحد: إن تسبيحهم حقيقة.
وقوله تعالى: {هُوَ الأول} أي: الذي ليس لوجوده بداية مُفْتَتَحَةٌ {والأخر}: الدائم الذي ليس له نهاية منقضية، قال أبو بكر الوَرَّاق: {هُوَ الأول}: بالأزلية {والأخر}: بالأبديَّة.
{والظاهر}: معناه بالأدِلَّةِ ونَظَرِ العقول في صنعته.
{والباطن}: بلطفه وغوامضِ حكمته وباهِرِ صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهامُ، وباقي الآية تقدم تفسيرُ نظيره.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} معناه: بقدرته وعلمه وإحاطته، وهذه آية أجمعت الأُمَّةُ على هذا التأويل فيها، وباقي الآية بَيِّنٌ.

.تفسير الآيات (7- 9):

{آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)}
وقوله سبحانه: {ءَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ...} الآية: أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان، ويُرْوَى أَنَّ هذه الآية نزلت في غزوة العُسْرَةِ، قاله الضَّحَّاكُ، وقال: الإشارة بقوله: {فالذين ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ} إلى عثمانَ بن عفان، يريد: ومَنْ في معناه؛ كعبد الرحمن بن عوف، وغيره.
وقوله: {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}: تزهيد وتنبيه على أَنَّ الأَموال إنَّما تصير إلى الإنسان من غيره، ويتركها لغيره، وليس له من ذلك إِلاَّ ما أكل فأفنى، أو تصدق فأمضى، ويروى أَنَّ رجلاً مَرَّ بأعرابيٍّ له إبل فقال له: يا أَعرابيُّ، لِمَنْ هذه الإبل؟ قال: هي للَّه عندي، فهذا مُوَفَّقٌ مصيب إنْ صحب قوله عمله.
وقوله سبحانه: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله...} الآية: توطئةٌ لدعائهم رضي اللَّه عنهم لأَنَّهُمْ أهل هذه الرُّتَبِ الرفيعة، وإذا تقرر أَنَّ الرسولَ يدعوهم، وأَنَّهم مِمَّنْ أخذ اللَّه ميثاقهم فكيف يمتنعون من الإيمان؟.
وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: إنْ دُمْتُمْ على إيمانكم، و{الظلمات}: الكفر، و{النور}: الإيمان، وباقي الآية وعد وتأنيس.