فصل: تفسير الآيات (8- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (8- 11):

{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)}
وقوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} يعني: قريشاً، وذلك أنهم قَالُوا في بعضِ الأوْقَاتِ للنبي صلى الله عليه وسلم: لَوْ عَبَدْتَ آلهتَنَا وعَظَّمْتَها لَعَبَدْنَا إلهك وعظمناه، وَوَدُّوا أنْ يُدَاهِنَهم النبي صلى الله عليه وسلم ويميلَ إلى مَا قالوا، فَيمِيلُوا هُمْ أيضاً إلى قَولهِ ودِينِهِ، والإدْهَانُ الملايَنَةُ فيما لاَ يَحِلُّ، والمُدَارَاةُ الملاينة فيما يحل.
وقوله: {فَيُدْهِنُونَ} معطوفٌ وليس بجَوابٍ، لأنَّه لَوْ كَانَ لَنُصِبَ، والحلاّفُ المردِّد لِحَلفِهِ الذي قد كثرَ منه، والمُهينُ الضَّعِيفُ الرأيِ، والعَقْلِ؛ قاله مجاهد، وقال ابن عباس: المهينُ الكذَّابُ، والهمَّازُ الذي يَقَعُ في النّاسِ بلسَانِه، قال منذر بن سعيد: وبعَيْنِهِ وإشارَتِه، والنَّمِيمُ مَصْدَرٌ كالنَّمِيمَةِ، وهو نَقْلَ مَا يَسْمَعُ مما يسوءُ ويُحَرِّشُ النفوسَ، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابهِ المسمَّى ببهجةِ المجالس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَفَّ عَنْ أعْرَاضِ المُسْلِمِينَ لِسَانَه؛ أقَالَه اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَثَرَتَه»، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «شِرَارُكُمْ أيُّهَا النَّاسُ المشَّاؤُونَ بالنَّمِيمَةِ، المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ لأَهْلِ البِرِّ العَثَرَاتِ» انتهى، ورَوَى حذيفةُ أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ»، وهو النَّمَّامُ، وذَهَبَ كثيرٌ مِنَ المفسِّرِينَ إلى أنَّ هذهِ الأوْصَافَ هي أجْنَاس لَمْ يُرَدْ بها رجلٌ بعينهِ، وقالت طائفة: بَلْ نزلت في معيَّنٍ، واختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الوليدُ بن المغيرةِ، وقيل هو: الأخْنَسُ بن شريق، ويؤيد ذلكَ أنه كانَتْ له زَنَمَةٌ في حَلْقِه كَزَنَمَةِ الشَّاةِ، وأيضاً فكانَ من ثَقِيفٍ مُلْصَقاً في قُرَيْشٍ، وقيل: هو أبو جهلٍ، وقيل: هو الأسودُ بن عَبْدِ يَغُوثَ، قال * ع *: وظاهرُ اللفظ عمومُ مَنِ اتَّصَفَ بهذهِ الصفاتِ، والمخاطبَةُ بهذا المعنى مستمرة بَاقِيَ الزَّمانِ، لاسيما لِوُلاَةِ الأُمور.

.تفسير الآيات (12- 15):

{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)}
وقوله تعالى: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} قَالَ كثيرٌ مِنَ المفسرينَ: الخيرُ هُنَا المالُ فَوَصَفه بالشُّحِّ، وقال آخرونَ: بل هُوَ عَلى عُمُومهِ في الأموالِ والأَعْمَالِ الصالحاتِ، والمُعْتَدِي المتجاوِزُ لحدودِ الأَشْيَاءِ، والأثِيمُ فَعِيلٌ مِن الإثْمِ، والعُتُلُّ: القويُّ البنيةِ، الغَليظُ الأَعْضَاءِ، القَاسِي القَلْبِ، البَعيدُ الفَهْمِ، الأَكُولُ الشَّرُوبُ، الذي هو بالليلِ جِيفَةٌ وَبِالنَّهارِ حِمَارُ، وكلُّ ما عبر به المفسرونَ عَنه مِنْ خِلاَلِ النقصِ، فَعَنْ هذه الَّتِي ذَكَرْتُ تَصْدُرُ، وقد ذكر النقاشُ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فَسَّر العتلَّ بِنَحْوِ هذا، وهذهِ الصفاتُ كثيرةُ التَّلازُمِ، والزَّنِيمُ في كلام العرب: المُلْصَقُ في القومِ ولَيْسَ منهم؛ ومنه قول حَسَّان: [الطويل]
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آلِ هَاشِمٍ ** كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ

فَقَالَ كثيرٌ من المفسرينَ: هو الأخْنَسُ بن شريقٍ، وقال ابن عباس: أرادَ بالزنيم؛ أنَّ له زَنَمَةً في عُنُقِهِ، وكان الأَخنسُ بهذه الصفةِ، وقيل: الزَّنِيمُ: المُرِيبُ القبيحُ الأَفْعَالِ.

.تفسير الآيات (16- 32):

{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)}
وقوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} معناه: على الأَنْفِ. قَالَ ابنُ عَبّاسٍ: هُو الضَّرْب بالسَّيْفِ في وَجْهِهِ وعَلَى أنْفِه، وَقَدْ حَلَّ ذَلِكَ به يومَ بَدْرٍ، وقيل: ذلك الوَسْمُ هو في الآخرةِ، وقال قتادة وغيره: معناه سَنَفْعَلُ به في الدنيا مِنَ الذَّمِّ لهُ والمَقْتِ والاشْتِهَارِ بالشر، ما يَبْقَى فِيه وَلاَ يَخْفَى به، فيكونُ ذلكَ كالْوَسِمِ عَلَى الأنف.
وقوله سبحانه: {إِنَّا بلوناهم} يريد: قريشاً، أي: امْتَحَنَّاهُم، و{أصحاب الجنة} فيما ذُكِرَ كانوا إخوةً، وكانَ لأَبِيهم جَنَّةٌ وحَرْثٌ يَغْتَلُّه، فَكَان يُمْسِكُ منه قُوتَه، وَيَتَصَدَّقُ على المساكين بِبَاقِيهِ، وقيل: بلْ كَانَ يَحْمِلُ المساكِينَ مَعَه في وَقْتِ حَصَادِهِ وجَذِّه فَيُجْدِيهم منه، فماتَ الشيخُ، فقال ولدُه: نَحْنُ جَماعَةٌ وفِعْلُ أبينَا كَانَ خطأً فَلْنَذْهَبْ إلى جنَّتِنَا، ولا يَدْخُلَنَّها عَلَيْنَا مِسْكِينٌ، ولا نُعْطِي منها شيئاً، قَال: فَبَيَّتُوا أمْرَهُمْ وَعَزْمَهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا طائفاً من نارِ أو غيرِ ذلكَ، فاحْتَرَقَتْ، فقيلَ: فأصْبَحَتْ سَودَاء، وقيل: بَيْضَاء كالزَّرْعِ اليَابِسِ المَحْصُودِ، فلما أصْبَحوا إلى جنتهم؛ لم يَرَوْهَا فَحسبوا أنهم قَد أَخْطَؤُوا الطريقَ، ثم تَبَيَّنُوها فعلموا أنَّ اللَّهَ أَصَابَهُم فِيها، فتَابوا حينئذٍ فَكَانُوا مُؤمنِينَ أهْلَ كِتَابٍ، فَشَبَّه اللَّهُ قُرَيْشاً بهم في أنّه امتحنهم بالمصَائِبِ، في دُنْيَاهُمْ لِعَدَمِ اتّبَاعِهِمْ للنبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ التوبةُ مُعَرَّضَةٌ لِمَنْ بَقِيَ منهم.
وقوله تعالى: {لَيَصْرِمُنَّهَا} أي: ليَجُذُّنَّهَا، و{مُصْبِحِينَ} معناه: دَاخِلينَ في الصباح.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يَنْثَنُونَ عن رأْيِ مَنْعِ المساكين، وقَالَ مجاهد: معناه ولاَ يَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّه. والصَّرِيمُ، قال جماعة: أرادَ بهِ اللَّيْلَ مِنْ حيثُ اسْوَدَّتْ جَنَّتُهم، وقَالَ ابن عباس: الصَّرِيمُ: الرَّمَادُ الأسْوَدُ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ، وقولهم: {إِن كُنتُمْ صارمين} يَحْتَمِلُ أنْ يكُونَ مِنْ صرام النخلِ، ويحتملُ أنْ يريدَ إنْ كُنْتُمْ أهْلَ عزم وإقْدَامٍ على رأيكم، من قولك سَيْفٌ صارم، و{يتخافتون}: معناه يَتَكَلَّمُونَ كَلاَماً خَفِيًّا، وكان هذا التخافتُ خَوْفاً مِنْ أنْ يَشْعُرَ بهمُ المساكينُ، وكان لفظُهم الذي يتخافتون به: {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ}.
وقوله: {على حَرْدٍ} يَحْتَمِلُ أنْ يريدَ عَلى مَنْعٍ، من قولهم: حَارَدَتِ الإبِلُ إذا قَلَّتْ ألبانُها فمنَعتْهَا، وحَارَدَتِ السنةُ إذا كَانَتْ شَهْبَاء لاَ غَلَّةَ لها، ويحتملُ أن يريدَ بالحَرْدِ الغَضَبَ، يقال حَرَدَ الرجلُ حَرْداً إذَا غَضِبَ، قال البخاريّ قَالَ قتادة: {على حَرْدٍ} أي: على جدٍّ في أنفسهم، انتهى.
وقوله تعالى: {قادرين} يحتملُ أن يكون من القُدْرَةِ، أي: قادرون في زعمهِم ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن التَّقْدِيرِ الذي هو تَضْيِيقٌ، كأنّهم قَدْ قَدَرُوا عَلَى المسَاكِينِ، أي ضَيَّقُوا عليهم، {فَلَمَّا رَأَوْهَا} أي: مُحْتَرِقَةً {قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ} طريقَ جَنَّتِنَا فَلَما تَحقَّقُوها عَلِمُوا أَنها قَدْ أصيبتْ فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: قَدْ حُرِمْنَا غَلَّتَها وبَرَكَتها، فقال لهم أعدلهُم قَوْلاً وعَقْلاً وخُلُقاً وهو الأوسَط؛ {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} قِيلَ هي عبارةٌ عَنْ تعظيمِ اللَّهِ والعَمَلِ بطاعتهِ سبحانَه، فَبادَرَ القَوْمُ عَنْدَ ذَلِكَ وَتَابُوا وسبَّحُوا، واعترفُوا بظلمِهم في اعتقادهم مَنْعَ الفقراءِ، ولاَمَ بعضُهم بَعْضاً واعترفوا بأنهم طَغَوا، أي: تَعَدَّوْا مَا يَلْزَم مِنْ مُوَاسَاةِ المساكينِ، ثم انصرفوا إلى رَجَاءِ اللَّه سبحانَه وانتظارِ الفَضْلِ من لَدُنْهُ في أن يُبْدِلَهُمْ، بِسَبَبِ تَوْبَتِهم، وإنابتِهم خَيْراً من تلك الجنة، قال الثعلبي: قال ابن مسعود: بلغني أن القومَ لما أخْلَصُوا وَعَلِمَ اللَّهُ صدقَهم أبْدَلَهُمْ اللَّهُ عز وجل بها جنةً يقال لها الحَيَوَانُ، فيها عِنَبٌ يَحْمِلُ البغلُ العنقُودَ منها، وعن أبي خالد اليماني أَنه رأَى تلكَ الجنةَ ورَأَى كُلَّ عُنْقُودٍ منها كالرَّجُلِ الأسْوَدِ القائِم، انتهى،، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ فلا يُسْتَغْرَبُ هذا إنْ صَحّ سنده.

.تفسير الآيات (33- 43):

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}
وقوله سبحانه: {كَذَلِكَ العذاب} أي: كَفِعْلِنَا بأهْلِ الجنةِ نَفْعَلُ بِمَنْ تعدَّى حدودَنا.
{وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ} أي: أعْظَم مما أصَابَهُمْ، إنْ لَمْ يَتُوبُوا في الدنيا.
ثم أخْبَر تعالى ب {إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جنات النعيم} فَرُوِيَ أنه لما نزلت هذه الآيةُ قَالَتْ قريشٌ: إنْ كَانَ ثَمَّ جَنَّاتِ نعيمٍ فَلَنَا فِيها أكْبَرُ الحَظِّ، فنزلتْ {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} الآية؛ تَوْبِيخاً لهم.
{أَمْ لَكُمْ كتاب} مُنَزَّلٌ من عندِ اللَّهِ تَدْرُسُونَ فيه أنَّ لَكُمْ مَا تَخْتَارُونَ مِنَ النعيمِ، ف {إِنَّ} معمولة ل {تَدْرُسُونَ} وكُسِرَتِ الهمزَةُ مِنْ {إِنَّ} لدخولِ اللامِ في الخبرِ، وهي في معنى أن بفتح الألِف وقرئ شاذاً: {أنَّ لَكُمْ} بالفتح، وقرأ الأعرج: {أنّ لَكُمْ فِيهِ} على الاستفهام، ثم خَاطَب تعالى الكفارَ بقولهِ: {أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا بالغة} كأنه يقُولُ هل أقْسَمْنَا لكم قَسَماً فهو عَهْدٌ لكم بأنَّا نُنَعِّمُكُمْ في يومِ القيامة، وما بعدَه، وقرأ الأعرج: {آن لكم لما تحكمون} على الاستفهامِ، أيضاً.
{سَلْهُمْ أَيُّهُم بذلك زَعِيمٌ} أي: ضَامِنٌ * ت *: قال الهروي: وقوله: {أيمان عَلَيْنَا بالغة} أي مُؤكَّدَة، انتهى.
وقوله تعالى: {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ} قيل: هو استدعاءٌ وتوقيفٌ في الدنيا، أي: لِيُحْضِرُوهُم حَتَّى يُرَى هلْ هُمْ بحالِ مَنْ يَضُرُّ وينفعُ أم لا؟ وقيلَ: هو استدعاءٌ وتوقيف على أن يأتوا بهم يومَ القيامةِ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} وقرأ ابن عباس: {تُكْشَفُ} بضم التاء على مَعْنَى: تُكْشَفُ القيامةُ والشدةُ والحالُ الحاضرة، وقرأ ابن عباس أيضاً: {تَكْشِفُ} بفتح التاء على أنَّ القيامةَ هي الكاشِفَةُ، وهذه القراءة مفسِّرَة لقراءَةِ الجماعةِ، فما وَرَدَ في الحديثِ والآيةِ مِنْ كَشْفِ الساقِ فهو عبارة عَنْ شدةِ الهول.
وقوله جلت عظمته: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} وفي الحديثِ الصحيحِ: «فَيَخِرُّونَ للَّهِ سُجّداً أجْمَعونَ ولا يبقى أحَدٌ كَانَ يسجدُ في الدنيا رياءً ولا سمعةً ولاَ نِفَاقاً إلا صَارَ ظهرُهُ طَبَقاً وَاحِداً؛ كُلَّما أرَادَ أنْ يَسْجُدَ خَرَّ على قفاه»، الحديثَ، وفي الحديثِ: «فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَتَرْجِعُ أصْلاَبُ المُنَافِقِينَ والكُفَّارِ، كَصَيَاصِي البَقَرِ، عَظْماً وَاحِداً؛ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سُجُودًا» الحديث.
وقوله تعالى: {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود} يريد في دَارِ الدنيا، {وَهُمْ سالمون} مما نالَ عَظَامَ ظهورِهم مِنَ الاتِّصَال والعُتُوِّ.

.تفسير الآيات (44- 52):

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}
وقوله سبحانه: {فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث} الآية، وَعِيدٌ وتهديدٌ والحديثُ المشَارُ إليه هو القرآن، وباقي الآية بيّن مِمّا ذُكِرَ في غير هذا الموضع، ثم أمَرَ اللَّه تعالى نبيَّه بالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ وأنْ يَمْضِيَ لِمَا أُمِرَ بهِ من التبليغِ واحْتِمالِ الأذَى والمشقة، ونُهِيَ عَنِ الضَّجَرِ والعَجَلَةِ التي وَقَعَ فيها يونُسَ صلى الله عليه وسلم ثم اقْتَضَبَ القصَّةَ وذَكَرَ ما وَقَعَ في آخرها من ندائِه من بطن الحوت، {وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي: وَهُو كَاظِمٌ لحُزْنِه ونَدَمِه، وقال الثعلبيّ، ونحوُه في البخاري: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي: مملوءٌ غَمًّا وكَرْبَاً، انتهى وهُوَ أقْرَبُ إلى المعنى، وقال النَّقَّاشُ: المكظومُ الذي أُخِذَ بِكَظْمِه، وهي مَجَارِي القلبِ، وقرأ ابن مسعود وغيره: {لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَتْهُ نِعْمَةُ} والنعمة التي تداركته هي الصَّفْحُ والاجتباء الذي سَبَقَ له عَنْدَ اللَّهِ عز وجل {لَنُبِذَ بالعراء} أي: لَطُرِحَ بالعرَاءِ وهُوَ الفَضَاءُ الَّذِي لاَ يُوارِي فيه جَبَلٌ ولاَ شَجَرٌ وَقَدْ نُبِذَ يونس عليه السلام بالعَرَاءِ وَلَكِنْ غَيْر مَذْمُومٍ، وجاء في الحديث عن أسماء بِنْتِ عُمَيْسٍ قالَتْ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أَوْ في الكَرْبِ، اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لاَ أَشْرِكُ بِه شَيْئاً» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجَهُ الطبرانيُّ في كتاب الدعاء، انتهى من السلاح، ثم قال تعالى لنبيه: {وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم} المعنى يكادُوْنَ مِنَ الغَيْظِ والعداوةِ يُزْلِقُونَه فَيُذْهِبُونَ قدمَه مِنْ مَكَانِها، ويُسْقِطُونَه، قال عياض: وقَدْ رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: كلُّ مَا في القرآن: كاد فَهُو مَا لاَ يَكُونُ، قال تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} [النور: 43] وَلَمْ يُذْهِبْهَا و{أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] وَلَمْ يَفْعَلْ، انتهى؛ ذكره إثرَ قَوْلِه تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]. وقرأ الجمهور: {لَيُزْلِقُونَكَ} بِضَمِّ اليَاءِ مِنْ: أزْلَقَ، ونَافِعٌ بِفَتْحِها، من: زُلِقَتِ الرّجْلُ، وفي هذا المعنى قولُ الشاعر: [الكامل]
يَتَقَارَضُونَ إذَا التقوا في مَجْلِس ** نَظَراً يَزِلُّ مَوَاطِئ الأَقْدَامِ

وَذَهَبَ قَوْمٌ من المفسرينَ على أن المعنى: يأخذونَك بالعَيْنِ، وقال الحسَنُ: دَوَاءُ مَنْ أَصَابَتْهُ العينُ أن يقرأَ هذهِ الآيةَ، والذِّكْرُ في الآيةِ: القرآنُ.

.تفسير سورة الحاقة:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)}
قوله عز وجل: {الحاقة * مَا الحاقة} المُرَادُ بالحاقَّةِ: القيامةُ، وهي اسْمُ فاعلٍ مِنْ حَقَّ الشَّيءُ يَحِقُّ؛ لأنَها حَقَّتْ لِكُل عَامِلٍ عملَه، قال ابن عباس وغيره: سُمِّيَت القيامةَ حَاقَّةً لأنَّها تُبْدِي حَقَائِقَ الأشْياء، و{الحاقة}: مبتدأ و{مَا} مبتدأُ ثانٍ، والحاقَّةُ الثانية خَبَرُ {مَا} والجملةُ خَبَرُ الأُولى، وهذا كما تقول: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ على معنى التعظيمِ له، وإبْهام التعظيمِ أيضاً ليتخَيَّلَ السّامِعُ أقْصَى جُهْدَه.
وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة} مبالغة في هذا المعنى: أي: أن فيها مَا لَمْ تَدْرِه مِنْ أهْوَالِها، وتَفَاصِيلِ صِفَاتِها، ثم ذكرَ تعالى تكذيبَ ثَمُودَ وَعَادٍ بهذَا الأَمْرِ الذي هو حَقُّ مشيراً إلى أنْ مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ يَنزلُ به ما نزلَ بأولئك، و{بالقارعة}: من أسماء القيامة أيضاً؛ لأنها تَقْرَعُ القلوبَ بصدمتها.

.تفسير الآيات (5- 17):

{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)}
وقوله سبحانه: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} قال قتادة: معناه: بالصَّيْحَةِ التي خَرَجَتْ عن حدِّ كل صيحةٍ، وقيل: المعنى بسَبَبِ الفِئَةِ الطاغيةِ، وقيل: بسببِ الفعلة الطاغية، وقال ابن زيد ما معناه: الطاغيةُ مصدرٌ كالعَاقِبة، فكأنه قال بطُغيانهم؛ وقاله أبو عبيدة، وَيُقَوِّي هذا قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] وأوْلَى الأقوال وأصوبُها الأوَّلُ، وباقي الآيةِ تقدم تفسيرُ نظيرهِ، وما في ذلك من القصص، والعَاتِيَةُ: معناه الشديدةُ المخالِفَة، فكانت الريحُ قد عَتَتْ على خُزَّانِها بخلافِها، وعلى قومِ عادٍ بشدتها، ورُوِيَ عن عليٍّ وابن عباس أنهما قَالا: لَمْ ينزلْ من السماء قطرةُ ماءٍ قط إلا بمكيالٍ عَلَى يدِ مَلَكٍ، ولا هبتْ ريحٌ إلاَّ كذلك؛ إلاَّ ما كَانَ مِنْ طوفانِ نوحٍ، وريحِ عادٍ، فإنَّ اللَّه أَذِنَ لهما في الخروج دونَ إذْنِ الخُزَّانِ، و{حُسُوماً}: قال ابن عباس وغيره: معناه كَامِلَةً تِبَاعاً لم يتخللْها غيرُ ذلك، وقال ابن زيد: {حُسُوماً} جمعُ حَاسِمٍ، ومعناه أنَّ تلكَ الأَيامَ قطعَتْهُم بالإهلاكِ، ومنه حَسَمَ العِلَلَ، ومنه الحُسَامُ، والضميرُ في قوله: {فِيهَا صرعى} يُحتملُ عُوْدُه على الليالي والأيامِ، ويُحْتَمَلُ عودُه على ديارِهم، وقيل: على الريح، * ص *: {ومن قِبَلَه} النْحويانِ وعاصمٌ في روايةٍ بكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباء أي: أجنادُه وأهلُ طاعتهِ، وقرأ الباقون: {قَبْلَه} ظَرْفَ زمانٍ، انتهى.
وقوله: {بِالْخَاطِئَةِ} صفةٌ لمحذوفٍ، أي: بالفعلةِ الخاطئةِ، وال رابية النَّامِيَة التي قد عَظُمَتْ جِدًّا، ومنه رِبَا المالِ، ومنه {اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5]، ثم عدد تعالى على الناس نِعَمَه في قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء} يعني في وقتِ الطوفانِ الذي كانَ على قومِ نوح، و{الجارية} سفينةُ نوحٍ؛ قاله منذر بن سعيد، والضميرُ في: {لِنَجْعَلَهَا} عائِدٌ على الجاريةِ أو على الفعلة.
وقوله تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعية}: عبارةٌ عن الرجلِ الفَهِمِ المُنَوَّرِ القلبِ الذي يسمعُ القرآنَ؛ فيتلقاه بِفَهْمٍ وتدبُّرٍ، قال أبو عمران الجوني: {واعية} عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ تعالى، وقال الثعلبيُّ: المعنى: لِتَحْفَظَهَا كلُّ أذُنٍ فتكونَ عِظَةً لِمَنْ يأتي بعدُ، تقول وَعَيْتَ العِلْمَ إذا حَفِظْتَه، انتهى، ثم ذَكَّر تعالى بأمر القيامةِ، وقرأ الجمهور: {وَحُمِلَتْ} بتخفيفِ الميمِ بمعنى: حَمَلَتْهَا الريحُ أو القدرةُ، و{فَدُكَّتَا} معناه سُوِّيَ جميعُها، وانشقاقُ السماءِ هو تَفَطُّرُهَا وتميُّزُ بعضِها من بعضٍ، وذلك هو الوَهْيُ الذي ينالُها، كما يقال في الجدرات الباليةِ المتشققةِ واهيةٌ، والملَكُ اسْمُ الجنسِ يريدُ به الملائكةَ، وقال جمهور من المفسرين: الضميرُ في {أَرْجَائِهَا} عائدٌ على السَّمَاءِ أي: الملائِكَة على نَوَاحِيهَا، والرَّجَا الجَانِبُ مِنْ البئر أو الحائط؛ ونحوه، وقال الضحاكُ وابنُ جبير وغيرهما: الضميرُ في: {أَرْجَائِهَا} عائدٌ عَلى الأرْضِ، وإنْ كان لم يتقدم لها ذكرٌ قريبٌ؛ لأنَّ القصةَ واللفظَ يَقْتَضِي إفهَام ذلك، وفَسَّرُوا هذه الآيةَ بما رُوِيَ من أن اللَّه تعالى يأمر ملائِكَةَ سَمَاءِ الدنيا، فيقفونَ صَفًّا على حَافَّاتِ الأرضِ، ثم يأمرُ ملائكة السماءِ الثانية؛ فَيَصُفُّونَ خلفَهم، ثم كذلك ملائكةُ كُلّ سماءٍ، فكلما نَدَّ أحدٌ من الجنِ أو الإنسِ، وَجَدَ الأرضَ قد أُحِيطَ بها، قالوا: فهذا تفسير هذه الآية؛ وهو أيضاً معنى قوله:
{وَجَاءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] وهو تفسير: {يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32-33] على قراءةِ من شَدَّدَ الدال، وهو تفسيرُ قوله: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ...} [الرحمن: 33] واختلفَ الناسُ في الثمانيةِ الحاملينَ للعرشِ، فقال ابن عباس: هي ثمانيةُ صفوفٍ مِنَ الملائكة لا يَعْلَم أَحَدٌ عِدَّتَهم، وقال ابن زيدِ: هُمْ ثمانيةُ أمْلاَكٍ على هيئةِ الوُعُولِ، وقال جماعة من المفسرين: هم على هيئة الناسِ أرجلُهم تَحْتَ الأرْضِ السابعةِ، ورؤوسهم وكواهلهم فَوْقَ السماءِ السابعةِ، قال الغَزَّالِيُّ في الدرة الفاخرة: هم ثمانيةُ أمْلاَكٍ قَدَمُ المَلَكِ منهم مسيرةُ عشرينَ ألْفَ سنةٍ، انتهى، والضميرُ في قوله: {فَوْقَهُمُ} قيل: هو للملائكَةِ الحَمَلَةِ، وقيل: للعالم كلّه.