فصل: تفسير سورة والليل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة والليل:

وهي مكية في قول الجمهور.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 2):

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)}
أقسَمَ تعالى بالليل إذا غَشِيَ الأرضَ وجميعَ ما فيها، وبالنهارِ إذا تَجَلَّى، أي: ظهَرَ وضَوَّى الآفاقَ، وقال * ص *: {يغشى}: مفعولهُ محذوفٌ فيحتملُ أنْ يكونَ النهارَ كقوله: {يُغْشِي الليل النهار} [الأعراف: 54] أو الشمسَ؛ كقوله تعالى: {واليل إِذَا يغشىها} [الشمس: 4] وقِيل الأرضُ وما فيها، انتهى.

.تفسير الآيات (3- 14):

{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)}
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} يحتملُ أنْ تكونَ ما بمعنى: الذي ويحتملُ أَنْ تكونَ مصدريةً، والذكرُ والأنثى هنا عامٌّ، وقال الحسن: المرادُ آدمُ وحواء، والسَّعْيُ العَمَلُ، فأخبرَ تعالى مُقْسِماً أَنَّ أعمالَ العبادِ شَتَّى، أي: مُفْتَرِقَةً جدًّا؛ بعضُها في رِضَى اللَّهِ، وبعضها في سَخَطِه، ثم قَسَّم تعالى الساعينَ فقال: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} الآية، ويُروى أن هذهِ الآيَة نزلتْ في أبي بكرٍ الصديقِ رضي اللَّه عنه.
وقوله تعالى: {وَصَدَّقَ بالحسنى} قيل هي: لا إله إلا اللَّه، وقيل: هي الخَلَفُ الذي وَعَدَ اللَّه بهِ، وقيل: هي الجنةُ، وقال كثيرٌ من المتأولينَ: الحسنى: الأجرُ والثوابُ مُجْمَلاً، والعُسْرَى: الحال السيئة في الدنيا والآخرة، ومن جَعل {بَخِلَ} في المالِ خَاصَّةً؛ جَعَلَ {استغنى} في المالِ أيضاً، لتَعْظُمَ المَذَمَّةُ، ومَنْ جَعَلَ {بَخِلَ} عَامًّا في جَمِيعِ مَا يَنْبَغِي أن يبْذَلَ، مِنْ قَولٍ أو فعلٍ؛ قال: {استغنى} عن اللَّهِ ورحمتهِ بِزَعْمِه، وظاهرُ قولهِ: {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ} أَنَّ الإعطاءَ والبخلَ المذكورين إنما هما في المال.
وقوله تعالى: {إِذَا تردى}، قال قتادة وغيره: معناه تردَّى في جهنم. وقال مجاهد: {تردى} معناه: هَلَكَ من الردَّى، وخَرَّج البخاريُّ وغيرُه عن علي رضي اللَّه عنه قال: كُنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بَقِيعِ الغَرْقَدِ في جِنَازَةٍ، فقالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، أوْ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإلاَّ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، أفَلاَ نتَّكِلُ على كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ؛ فَسَيَصِيرُ إلى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ؛ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ؟ قال: «أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} إلى قوله: {للعسرى}» وفي روايةٍ، لَمَا قيلَ له: أفَلاَ نتَّكِلُ على كِتَابِنَا، قال: «لاَ؛ بَلِ اعملوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» الحديثَ، وخرَّجه الترمذيُّ أيضاً، انتهى، قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: وسأَلَ شَابَّانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالاَ: العَملُ فِيما جَفَّتْ بهِ الأَقْلاَمُ وجَرَتْ بهِ المَقَادِيرُ أَمْ في شَيْءٍ مُسْتَأْنَفٍ؟ فقال: «بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلاَمُ، وجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ»، قَالاَ: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ: قَالَ: «اعملوا؛ فَكُلُّ مُيسَّر لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ له قالا: فالآنَ نَجِدُّ ونَعْمَلُ» انتهى، وقال قوم: معنى تردى، أي: بأكْفَانِهِ مِنَ الرِّدَاءِ؛ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
نُصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ** رَدَاءَانِ تلوى فِيهِمَا وَحَنُوطُ

ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعاً، أي: تعريفَهم بالسُّبل كلِّها، وليستْ هذه الهدايةُ بالإرشَادِ إلى الإيمان، ولو كانَ ذلِك لَمْ يُوجَدْ كافرٌ، قال البخاريُّ: {تَلَظَّى}: تُوَهَّجٌ وقال الثعلبيَّ: تَتَوقَّدُ، وتتوهَّج، انتهى.

.تفسير الآيات (15- 21):

{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}
وقوله سبحانه: {لاَ يصلاها إِلاَّ الأشقى} المعنى: لا يصْلاَها صَلْيَ خُلُودٍ، ومن هنا ضَلَّتْ المُرْجِئَةُ؛ لأنها أخَذَتْ نَفْيَ الصَّلْيِ مُطْلَقاً، ولم يَخْتَلِفْ أَهلُ التأويلِ أن المرادَ بالأتْقَى إلى آخر السورة أبو بكرٍ الصديقِ، ثم هي تَتَنَاولُ كلَّ مَنْ دَخَلَ في هذِه الصفاتِ، وباقي الآيةِ بيِّنٌ، ثم وَعَدَه تعالى بالرِّضَى في الآخرةِ وهذه عِدَةٌ لأبي بكرٍ رضي اللَّه عنه.

.تفسير سورة والضحى:

وهي مكية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6)}
تقدَّم تفسيرُ {والضحى} بأنه: سُطُوع الضوءِ وعِظَمُه، وقال قتادة: {الضُّحَى} هنا النهارُ كلُّه و{سجى} معناه سَكَنَ واستقَرَّ لَيْلاً تامًّا، وقيل: معناه أقْبَلَ، وقِيلَ: معناه أدْبَرَ، والأولُ أصحُّ، وعليه شواهِدُ، وقال البخاريُّ: قال مجاهد: {إِذَا سجى} اسْتَوَى، وقال غيره: أظلمَ وسكنَ، انتهى،، وقرأ الجمهور: {مَا وَدَّعَكَ} بشدِ الدالِ من التَّوْدِيع وقُرِئ بالتخفيفِ بمعنى: ما تَرَكَكَ، وقال البخاريُّ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} بالتشديدِ والتخفيفِ: ما تَرَكَكَ، انتهى.
و{قلى} أبْغَضَ، نزلتْ بسببِ إبطَاءِ الوَحْي مدَّة {وَلَلأَخِرَةُ} يعني: الدارَ الآخِرَةَ خيرُ لَكَ من الدنيا، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} قيل: هي أرْجَى آية في القرآن؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لا يرضى، وواحدٌ من أمتهِ في النارِ، ورُوِي أنه عليه الصلاةُ والسلام قال لما نَزَلَتْ: «إِذنْ لاَ أرضى، وأَحدٌ مِنْ أُمَّتِي في النَّارِ» قال عِيَاضٌ: وهذه آيةٌ جامعةٌ لوجوهِ الكرامةِ وأنواعِ السعادةِ في الدارين، انتهى، * ت *: وفي صحيح مسلمٍ من روايةِ عبدِ اللَّه بن عمرو بن العاصي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تَلاَ قولَ اللَّه عز وجل في إبراهيمَ عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وقولُ عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، وبكى، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ يَا جِبْرِيلُ؛ اذهب إلى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: إنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ ولاَ نَسُوؤُكَ»، انتهى مختصرا، ثُمَّ وَقَفَ تَعَالَى نبيَّه على المراتبِ التي دَرَجَه عَنْها بإنعَامِهِ فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى}.

.تفسير الآيات (7- 11):

{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}
وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهدى} اخْتَلَفَ الناسُ في تأويلِهِ، والضلالُ يَخْتَلِفُ، فمنه البعيدُ ومنه القريبُ؛ فالبعيدُ ضلالُ الكفَّارِ، وهذا قَدْ عَصَمَ اللَّهُ منه نَبِيَّه فَلَمْ يَعْبُد صلى الله عليه وسلم صَنَماً قط، ولا تَابعَ الكفارَ على شيءٍ مما هم عليه من الباطلِ، وإنما ضلالُه صلى الله عليه وسلم هو كَوْنُهُ واقفاً لا يَميزُ المَهْيَعَ، بل يُدْبِرُ وَيَنْظُر، وقال الترمذي وعبد العزيز بن يحيى: {ضَالاًّ} معناه: خاملُ الذِّكْرِ لا يعرفُك الناسُ؛ فهداهُم إليكَ ربُّك، والصوابُ أنه ضلالُ مَنْ توَقَّفَ لا يَدْرِي، كما قال عز وجل: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقال الثعلبي: قال بعض المتكلمين: إذا وجَدَتِ العربُ شَجَرَةً مفردة في فلاةٍ سَمَوْها ضالةً فَيُهْتَدَى بها إلى الطريقِ، أي: فَوَجَدْتُكَ وَحيداً ليس معَك نبيٌّ غيرَك فهديتُ بك الخلقَ إليَّ، انتهى، قال عياض: وقال الجنيد: المَعْنَى: وَوَجَدَكَ متحيِّراً في بيانِ ما أُنْزِلَ إليكَ فهَدَاكَ لبيانِه، لقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} [النحل: 44] الآية، قال عياض: ولا أعلمُ أحداً من المفسرينَ قَال فيها ضالاًّ عَنْ الإيمانِ، وكذلك في قصةِ موسى عليه السلام قوله: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] أي المخطئينَ، وقال ابن عطاء: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ} أي: مُحِبًّا لمعرفتِي، والضَّالُّ: المحِبُّ، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} [يوسف: 95] أي: محبَّتِكَ القديمةِ، انتهى، والعَائِلُ: الفقيرُ {فأغنى} أي: بالقناعَةِ والصَّبْرِ، ثم وصَّاه تَعالى بثلاثِ وصَايَا؛ بإزاءِ هذه النّعم الثلاثِ، و{السائل} هنا قَال أبو الدرداء: هو السائلُ عن العِلْمِ، وقيل: هو سائلُ المالِ، وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القومُ السؤال يحملنا زادنا إلى الآخرة.
وقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} قال مجاهد وغيره: معناه بُثَّ القرآن وبلِّغْ ما أُرسلْتَ بهِ، قال عياض: وهذا الأمرُ يَعُمَّ الأمة، انتهى، وقال آخرونَ: بل هُوَ عُمُوم في جميعِ النِّعم، وفي سُنَن أبي داودَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَعْطُوا الأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ، وَأَعْطُوا السَّائِلَ، وَإنْ جَاءَ على فَرَسٍ» قال البغويُّ في المصابيحِ: هذا حديثٌ مُرْسَلٌ انتهى.

.تفسير سورة ألم نشرح:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}
عَدَّدَ اللَّه تعالى على نبيه نِعَمَه عليه في أنْ شَرَحَ صدرَه للنبوَّةِ، وهَيأَه لها، وذَهَبَ الجمهورُ إلى أنَّ شَرْحَ الصدرِ المذكورِ إنما هو تنويرُه بالحكمةِ، وتوسِيعُه لتلقي مَا يُوحى إليه، وقال ابن عباس وجماعة: هذه إشارة إلى شَرْحِه بشَقِّ جبريلَ عنه في وقْتِ صِغَرهِ، وفي وقْتِ الإسراء؛ إذا التشريحُ شَقُّ اللحْمِ، والوِزْرُ الذي وضعَهُ اللَّه عنه هو عند بعض المتأولين الثِّقَلُ الذي كان يجده صلى الله عليه وسلم في نفسهِ من أجل ما كانتْ قريشٌ فيه من عبادةِ الأصْنَامِ؛ فَرَفَعَ اللَّهُ عنه ذلكَ الثِّقَلَ بنبوَّتِه وإرسالهِ، وقال أبو عبيدةَ وغيره: المعنى: خَفَّفْنَا عنك أثقَال النبوَّةِ وأعنَّاكَ على الناسِ، وقيل الوِزْرُ هنا: الذنوبُ، نظيرَ قولهِ تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} [الفتح: 2] وقد تقدم بيانُه، الثعلبيّ: وقيلَ: معناه: عَصَمْنَاكَ من احتمالِ الوِزْرِ، انتهى. {وأنْقَضَ} معناه: جَعَلَهُ نَقْضاً، أي: هَزيلاً، من الثِّقَلِ، قال عياض: ومعنى أَنْقَضَ، أي: كَادَ يَنْقُضُه، انتهى، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أي نَوَّهْنَا باسمِك، قال * ع *: ورفعُ الذكرِ نعمةٌ على الرسولِ وكذلكَ هُوَ جميلٌ حسنٌ للقائمينَ بأمورِ الناس، وخمولُ الاسْمِ والذكرِ حَسَنٌ للمنفردِينَ للعبادة، والمعنى في هذا: التَّعْدِيد: أَنَّا قد فعلنا جميعَ هذا بكَ؛ فلا تَكْتَرِثْ بأذى قريشٍ؛ فإن الذي فعلَ بكَ هذه النعمُ سَيُظَفِّرُكَ بهم، قال عياض: ورَوَى أبو سَعِيدٍ الخدريُّ؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَانِي جِبْريلُ فَقَالَ؛ إنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: أَتَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ تعالى أَعْلَمُ، قال: إذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي»، انتهى، ثم قوَّى سُبْحَانه رجاءَه بقولهِ: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} وكرَّر تعالى ذلكَ مبالغةً، وذَهَبَ كثيرٌ من العلماءِ إلى أنَّ مع كلِّ عُسْرٍ يُسْرَيْنِ بهذه الآية، من حيثُ إنَّ العُسْرَ مُعَرَّفٌ للعَهْدِ واليسْرُ مُنَكَّرٌ فالأولُ غَيْرُ الثاني، وقَدْ جاء في هذا التأويلِ حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ»، ثم أمر تعالى نَبِيَّهُ إذا فَرَغَ مِن شُغْلِ مِنْ أَشْغَالِ النبوَّةِ والعبادةِ أن يَنْصَبَ في آخِرِه، والنَّصَبُ: التعبُ، والمعنى: أن يَدْأَبَ على مَا أُمِرَ به ولاَ يَفْتُرَ، وقال ابنُ عباسٍ: إذا فَرغْتَ مِنْ فَرْضِكَ فَانْصَبْ في التَّنفُّلِ عبادةً لربك، ونحوُه عن ابن مسعود وعن مجاهد: «فإذا فرغت من العبادةِ فانْصَبْ في الدعاء».
وَقَوْلُه تعالى: {وإلى رَبِّكَ فارغب}: أمْرٌ بالتوكلِ على اللَّهِ عز وجل وصَرْفِ وُجُوهِ الرَّغَبَاتِ إليه لا إلى سواه.

.تفسير سورة والتين:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}
قال ابن عباس وغيره: {والتينُ والزيتون} المقْسَمُ بهما هُما المعروفانِ، وقال السهيلي: أقْسَمَ تعالى بطور تينا، وطور زيتا، وهما جبلانِ عند بيتِ المقدس، وكذلك طور سيناء، ويقال: إن سيناءَ هي الحجارةُ، والطورُ عند أكثر الناسِ هو الجبلُ، وقال الماورديُّ: ليس كلُّ جبلٍ يقال له: طورٌ إلا أنْ تكونَ فيه الأشجارُ والثمار، وإلا فهو جَبَلٌ فقط، انتهى، {وَطُورِ سِينِينَ} جبلٌ بالشَّامِ، و{البلد الأمين} مكةَ، والقَسَمُ واقع على قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي: في أحسن تقويم ينبغي لَه، وقال بعضُ العلماءِ بالعموم، أي: الإنسانُ أحسنُ المخلوقَاتِ تقويماً، ولَمْ يَرَ قومٌ الحِنْثَ على مَنْ حَلَفَ بالطلاقِ أنَّ زوجتَه أحسنُ من الشمس؛ محتجين بهذهِ الآيةِ، وحسْنُ التقويمِ يشملُ جميعَ محاسنِ الإنسانِ الظاهرةِ والباطنةِ؛ من حسن صورتهِ، وانتصابِ قامَتهِ، وكمالِ عقلهِ، وحسن تمييزِه، والإنسانُ هنا اسمُ جنسٍ، وتقديرُ الكلام: في تقويمِ أحسنَ تقويمٍ؛ لأَن {أَحْسَنُ} صفةٌ لابد أنْ تَجْرِي على موصوفٍ.
{ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} قال قتادةُ وغيره: معناه بالهَرَم وذهولِ العقلِ وهذهِ عِبْرة منصوبةٌ، وعبارةُ الثعلبيِّ: {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قيل: اعتدالهُ واستواءُ شبابهِ، وهو أَحْسَنُ ما يكونُ، {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} بالهَرَمِ؛ كما قال: {إلى أَرْذَلِ العمر} [الحج: 5]، والسافلونَ: الهَرْمَى والزَّمْنَى والذين حَبَسَهُم عذرُهم عن الجهادِ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزَلَ اللَّه عُذرَهم وأخبرَهم أن لهم أجْرَهم الذي عَمِلُوا قبلَ أن تَذْهَبَ عقولهُم، انتهى، وفي البخاريّ عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا مَرِضَ العبدُ أو سَافرَ كتبَ اللَّه له مثلَ ما كانَ يعملُ مقيماً صحيحاً» وهكذا قال في الذين حَبَسَهُم العذرُ، انتهى، قال * ص *: {إِلاَّ الذين} قيلَ: منقطعٌ بناءً على أنَّ مَعْنَى {أَسْفَلَ سافلين}: بالهرَم وذهولِ العقْلِ، وقيل متصلٌ بِنَاءً عَلى أَنَّ معْناه في النارِ على كفرِه، انتهى، قال * ع *: وفي حديثٍ عَنْ أنسٍ قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إذا بَلَغَ المؤْمِنُ خمسينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّه حِسَابَه، فإذَا بَلَغَ سِتِّينَ؛ رَزَقَه الإنَابَة إلَيه، فإذَا بلغَ سبعين أحَبّه أهلُ السَّماءِ، فَإذَا بلغ ثمانين كُتِبَتْ حَسَنَاتُه وتَجاوزَ اللَّهُ عن سيئاتِه، فإذا بلغ تسعينَ غُفِرَتْ ذنُوبُه وشَفَعَ في أهْل بَيْتِه وكَانَ أسيرَ اللَّهِ في أرْضِه، فإذا بلغَ مائةً وَلَمْ يَعْمَل شيئاً كُتِبَ له مثلُ مَا كان يَعْملُ في صحَّتِه ولم تُكْتَبْ عليه سيئة»، وفي حديث: «إن المؤمنَ إذا رُدَّ إلى أرذل العمر كُتِبَ له خيرُ ما كانَ يعملُ في قوّتهِ» وذلكَ أجرٌ غير ممنون، ثم قال سبحانه إلزامًا للحُجَّةِ وتوبيخاً للكافرِ: {فَمَا يُكَذِّبُكَ} أيها الإنسانُ، أي: فما يَجْعَلُكَ أنْ تُكَذِّبَ بعدَ هذه الحجةِ بالدينِ، وقال قتادة: المعنَى: فمن يكذِّبُكَ يا محمد، فيما تُخْبِرُ به من الجزاءِ والحسابِ، وهو الدينُ، بَعْدَ هذه العبر، ويحتملُ أنْ يريدَ ب {الدين} جميعَ دينه وشَرْعِه،، ورُوِيَ عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا قَرَأَ {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} قَال: بَلَى؛ وأنَا عَلى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، قالَ ابن العربي في أحكامه: رَوَى الترمذيُّ وغيرُهُ عن أبي هريرةَ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: «إذا قَرأَ أحدُكم {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} فَلْيَقُلْ: بلى؛ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِين» ومِنْ رواية عبد اللَّه: «إذَا قرأَ أَحَدُكُمْ أَوْ سَمِعَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى} [القيامة: 40] فَلْيقُلْ: بلى» انتهى، * ت *: وهذان الحديثانِ، وإنْ كَانَ قَدْ ضعَّفُهما ابنُ العربيِّ فهما مما ينبغي ذكرُهما في فضائلِ الأعمالِ، واللَّه الموفق بفضله وكرمه.