فصل: تفسير سورة القلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة القلم:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}
قوله تعالى: {اقرأ باسم رَبِّكَ}: هو أولُ ما نَزَلَ من كِتَابِ اللَّه تعالى، نَزَلَ صَدْرُ هذهِ الآية إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} في غارِ حِرَاء حَسْبَ ما ثَبَتَ فيصحيح البخاريِّ وغيره، ومعنى قوله: {اقرأ باسم رَبِّكَ} أي: اقرأ هذَا القرآنَ باسمِ ربِك، أي: مبتدِئاً باسْمِ ربكَ، وَيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المقروءُ الذي أُمِرَ بقراءتِه هو {باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} كأنه قيل له: اقرأْ هذا اللفظَ، والعلقُ: جمع عَلَقَةٍ وهي القِطْعَةُ اليَسِيرَةُ من الدَّمِ، والإنْسَانُ هنا اسمُ جنسٍ، ثم قال تعالى: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} على جِهة التأنِيسِ كأنَّه يقول: امْضِ لِما أُمِرْتَ بهِ، وَرَبُّكَ ليسَ كهذهِ الأربابِ؛ بلْ هُو الأكْرَمُ الذي لاَ يَلْحَقُه نقصٌ، ثم عدَّدَ تعالى نِعْمَةَ الكتابةِ بالقلم على الناسِ، وهي من أعظَم النِّعَم.
و{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} قيل: هو آدمُ وقيل: هو اسْمُ جنسٍ؛ وهو الأظْهرُ.

.تفسير الآيات (6- 13):

{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)}
وقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} إلَى آخرِ السورةِ نَزَلَتْ في أبي جَهْلٍ، وذلكَ أنَّه طَغَى لِغِنَاهُ وكثرةِ مَنْ يَغْشَى نَادِيه، فَنَاصَبَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونَهَاهُ عَنِ الصلاةِ في المسجدِ، وقال: لَئِنْ رأيتُ محمداً يسجُدُ عند الكعبةِ لأَطأَنَّ عنقَه، فيُرْوَى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّ عليه القولَ وانْتَهَرَهُ، وعبارةُ الداووديّ: فَتَهَدَّدَهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَال أبو جهل: أتُهَدِّدُني؟ أما واللَّه إني لأكْثَرُ أهْلِ الوادِي نَادِياً فَنَزَلَتْ الآيةُ، انتهى.
و{كَلاَّ} ردُّ على أبي جهلٍ، ويتَّجِه أَنْ تَكُونَ بمعنى: حقًّا، والضميرُ في {رَّءَاهُ} للإنسانِ المذكورِ، كأنَّه قال: أن رأَى نفسَه غَنِيًّا وهِي رُؤْيَةٌ قَلْبِيَّةٌ؛ ولذلكَ جازَ أن يَعْمَلَ فعلُ الفاعِل في نفسِه؛ كما تقول: وجَدْتُنِي وَظَنَنْتُنِي، ثم حقَّرَ تعالى غِنَى هذا الإنسانِ وحالَه بقولهِ: {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} أي: بالحَشْرِ والبعثِ يومَ القيامةِ، وفي هذا الخبرِ وعيدٌ للطاغينَ من الناسِ، ثم صرَّح بذكْرِ النَّاهِي لمحمدٍ عليه السلام، ولا خِلاَفَ أن الناهِيَ أبو جهلٍ، وأن العَبْدَ المصلّيَ هو محمدٌ عليه السلام.

.تفسير الآيات (14- 19):

{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} إكمالٌ للتوبيخِ والوعيدِ بحسْبِ التوقيفاتِ الثَّلاثِ، يَصْلُحُ مَعَ كلِّ وَاحدٍ منها، * ت *: وفي قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} مَا يُثِير الهِمَمَ الرَاكِدَةَ، وَيُسِيلُ العيونَ الجَامِدَةَ، ويَبْعَثُ على الحياء والمراقبةِ، قال الغزالي: اعلمْ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ على ضميرِكَ، ومشرفٌ على ظاهِرك وباطنِك، فَتَأَدَّبْ أيها المسكينُ ظَاهِراً وباطِناً بين يديه سبحانه؛ واجتهدْ أن لا يَرَاكَ حيثُ نَهَاكَ وَلاَ يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، ولاَ تَدَعْ عَنْكَ التفكرَ في قُرْبِ الأجلِ، وحلولِ الموتِ القاطِع للأملِ، وخروجِ الأمْرِ من الاختيَارِ، وحصولِ الحَسْرَةِ والنَّدَامةِ بطُولِ الاغترارِ، انتهى، ثم توعَّده تعالى لَئِنْ لم ينتَهِ لَيُؤْخَذَنَّ بناصيتهِ، فَيُجَرُّ إلى جَهَنَّمَ ذَلِيلاً، تقول العربُ: سَفَعْتُ بِيَدِي ناصية الفَرَسِ، والرَّجُلِ إذا جذبتُها مُذَلَّلَةً، وقال بعض العلماء بالتفسير: معناه لتُحْرَقَنَّ، من قولهم: سَفَعَتْه النارُ، واكْتَفَى بذكرِ الناصيةِ لِدلالتِها على الوَجْهِ والرأْسِ، والناصيةُ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرأسِ، ثم أبْدَل النكرةَ من المعرفة في قوله: {نَاصِيَةٍ كاذبة} ووصفَها بالكَذِبِ والخَطَإ من حيثُ هي صفاتٌ لصاحِبها.
قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي أهْلَ مَجْلَسِهِ، والنَّادِي والنَّدي: المجلسُ، ومنه دَارُ النَّدْوَةِ، وقال البخاري قال مجاهد: نادِيَه: عشيرتَه.
وقوله: {سَنَدْعُ الزبانية} أي: ملائِكَة العَذابِ، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ} أي: لا تَلْتَفِتْ إلى نَهْيِهِ وكلامِه و{اسجد} لربك و{اقترب} إليه بسجودِك، وفي الحديث: «أَقْرَبُ ما يكونُ العبدُ من رَبّه إذا سَجَدَ، فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ في السجودِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُم»، ورَوَى ابنُ وهب عَنْ جماعةٍ من أهل العِلم: أنّ قَوْلَه: {واسجد}: خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وَأَن قَوْلَه: {واقترب}: خطابٌ لأَبِي جَهْلٍ، أي: إنْ كنت تَجْتَرِئ حتى تَرَى كَيْفَ تَهْلَكُ، * ت *: والتأويلُ الأولُ أظهرُ؛ يدلُ عليه قولُه صلى الله عليه وسلم: «أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجِدٌ» وعنْ ربيعة بن كعب الأسلميِّ قال: «كنتُ أبيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فآتيهِ بِوَضُوئِهِ وحَاجَتِه، فقال لي: سَلْ؛ فقلتُ: أسألكَ مُرَافَقَتَكَ في الجنةِ، قالَ أوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَال: فأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» رواه الجماعة إلا البخاريَّ، ولفظُ الترمذي: «كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ بَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُعْطِيهِ وَضُوءَهُ، فَأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يقول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه، وأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ»، قال الترمذيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، وليس لربيعةَ في الكتب الستَّةِ سوى هذا الحديثِ، انتهى من السلاح، ورُوِيَ أن أبا جَهْلٍ جاءَ والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَهمَّ بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ رجعَّ وَوَلَّى نَاكِصاً على عَقِبَيْهِ مُتَّقِياً بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: لَقَدْ عَرَضَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ، وَهَوْلٌ وَأَجْنِحَةٌ، فيروى: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لأَخَذَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِيَاناً» * ت *: ولما لم يَنْتَهِ عَدُوُّ اللَّهِ أَخَذَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمْكَنَ مِنْهُ، وذَكَرَ الوائليُّ الحَافِظُ في كتابِ الإبَانَةِ له مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بن مغول عن نافِع عن ابن عمر قال: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ بِجَنَبَاتِ بَدْرٍ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الأَرْضِ في عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ يُمْسِكُ طَرَفهَا أَسْوَدُ، فَقال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اسْقِنِي، فَقَالَ ابن عُمَرَ: لاَ أَدْرِي أَعَرَفَ اسمي، أَوْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ لي الأَسْوَدُ: لاَ تَسْقِهِ؛ فَإنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ اجتذبه، فَدَخَلَ الأرْضَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُه، فقال: «أَوَ قَدْ رَأَيْتَهُ؟ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وهُوَ عَذَابُهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» انتهى من التَّذْكِرَة للقرطبيِّ، وقد ذَكَرْتُ هذهِ الحكايةَ عَن أبي عمر بن عبد البر بأتَّم مِنْ هَذا عِنْد قوله تعالى: {فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً} [فصلت: 27].

.تفسير سورة إنا أنزلناه في ليلة القدر:

قال ابن عباس: هي مدنية.
وقال قتادة: هي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}
قَوْلُه تَعَالَى: {إِنَّا أنزلناه} الضميرُ في {أنزلناه} للقرآن قَال الشعبيُّ وغيرُه: المعْنَى: إنا ابتدأْنا إنزالَ هذا القرآن إليكَ في ليلة القدر، وقد رُوِيَ: أن نزولَ المَلَكِ في حِراءٍ كَانَ في العشر الأواخِر من رمضان، فيستقيمُ هذا التأويل وقالَ ابنُ عباسٍ وغيرُه: أَنزَلَه اللَّه تعالى ليلةَ القدرِ إلى سماءِ الدُّنْيَا جملةً، ثم نَجَّمَه على محمدٍ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ سنةً، وليلةُ القدرِ خَصَّها اللَّهُ تعالى بِفَضْلٍ عَظِيمٍ، وَجَعَلَها أفْضَل مِنْ ألْفِ شهرٍ لاَ لَيْلَةَ قَدْرٍ فِيها؛ قاله مجاهدٌ وغيرُهُ، وخُصَّتْ هذه الأُمَّةُ بهذه الفضيلةِ لَمَّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعمارَ أُمَّتِه وتَقَاصُرَهَا وَخُشِيَ أَلاَّ يَبْلُغُوا مِنَ الأَعْمَالِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ في طُولِ العُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَةَ القَدْرِ خَيْراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، قال ابن العربيِّ في أحكامه: وقد روى مالكٌ هذَا الحديثَ في المُوَطَّأ؛ ثَبَتَ ذلكَ مِنْ روايةِ ابنِ القَاسمِ وغيره، انتهى، ثم فَخَّمَها سبحانَه بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} قال ابن عيينة في صحيح البخاري: ما كانَ في القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ} فَقَدْ أعْلَمَه، وَمَا قالَ: {وَمَا يُدْرِيكَ} فإنَّه لَمْ يُعْلِمْهُ، وذكر ابن عبَّاس وغيره: أنها سُمِّيَتْ ليلةَ القَدْرِ؛ لأنّ اللَّهَ تعالى يُقَدِّرُ فيها الآجالَ والأرزاقَ وحوادثَ العامِ كلِّها، ويدفَعُ ذلك إلى الملائِكَة لتَمْتَثِلَه، قال * ع *: وليلةُ القَدْرِ مستديرةٌ في أوتارِ العَشْرِ الأَواخِرِ من رمضانَ؛ هذا هو الصحيحُ المُعَوَّلُ عليه، وهي في الأوْتَارِ بحسْبِ الكَمال والنقصان في الشَّهْرِ، فينبغي لمرتَقِبها أن يَرْتَقِبَها مِنْ ليلةِ عشرينَ في كل ليلةٍ إلى آخر الشهر، وصحَّ عن أُبيِّ بن كعب وغيرِه: أَنها ليلةُ سَبْعٍ وعشرينَ، ثم أخْبَر تعالى أن ليلةَ القَدْرِ خيرٌ مِن ألف شَهر وهي ثَمانُونَ سَنَةً وثَلاَثَةُ أَعْوَامٍ وثُلُثُ عامٍ، وفي الصحيحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَاناً واحتسابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» {والروح}: هو جِبْرِيلُ عليه السلامُ وقيل هو صِنْفٌ حَفَظَةٌ لِلْمَلاَئِكَةِ، قال الفخر: وذكروا في الرُّوح أقوالاً: أَحدُها: أنه ملَكٌ عظيم لو الْتَقَمَ السموات والأَرْضَ كانَ ذلكَ لَه لُقْمةً وَاحِدَةً، وقِيلَ: الرُّوحُ: طَائِفةٌ من الملائِكَةِ لاَ يَراهُمُ المَلاَئِكَةُ إلا ليلةَ القَدْرِ، كالزُّهَادِ الذين لا نَراهم إلا يَوْم العِيد، وقيل: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يأكُلُون وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُون لَيْسُوا من الملائِكَةِ ولا من الإنْسِ ولعلهم خَدَمُ أَهْلِ الجَنَّةِ، وقيل: الروحُ أشْرَفُ الملائِكَةِ، وقال ابن أبي نجيح؛ الروحُ همُ الحفَظَةُ الكرامُ الكاتِبُونَ والأصَح أنَّ الروحَ هاهنا هو جبريلُ، وتخصيصُه بالذكر لزِيَادَةِ شرفِه، انتهى.
وقوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} الثعلبيُّ أي: بكل أمْرٍ قدَّرَه اللَّهُ وقضاه في تلكَ السنةِ إلى قَابِل؛ قاله ابن عباس، ثم تبتدئ فتقولُ: {سلام هِىَ} ويحتملُ أن يريدَ مِنْ كل فِتْنَةٍ سَلاَمَةٌ، انتهى، قال * ع *: وعلى التأويلِ الأولِ، يَجِيءُ {سلام} خَبَرَ ابتداءٍ مستأنَفًا، أي: سلامٌ هي هذه الليلةُ إلى أول يومِها، ثم ذكرَ ما تقدَم، وقال الشعبيُّ ومنصور: {سلام} بمعنى: التَّحِيَّةِ أي: تُسَلّمُ الملائكةُ على المؤمِنينَ.

.تفسير سورة لم يكن:

وهي مكية في قول الجمهور.
وقيل: مدنية.
والأول أشهر.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} وفي حرف ابن مسعودٍ: {لَمْ يَكُنِ المُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الكِتَابِ مُنْفَكِّينَ}.
وقوله تعالى: {مُنْفَكِّينَ} معناه: مُنْفَصِلِينَ متفرقينَ، تقول: انْفَكَّ الشيءُ عن الشيء؛ إذا انفصلَ عنه، وأمَّا انفك التي هي مِنْ أخواتِ كَانَ فلا مَدْخَلَ لَها هنا، قال مجاهد وغيره: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عن الكفرِ والضلالِ حتى جَاءَتْهُم البينةُ، وأوقَعَ المستقبلَ موقِعَ الماضي في تأتيهم، والبيناتُ: محمَّد صلى الله عليه وسلم وشرْعُهُ، قال الثعلبيُّ: {والمشركين} يعني: من العربِ وهم عَبَدةُ الأوثانِ، انتهى، وقال الفراء وغيره: لم يكونوا منفكِّينَ عَنْ معرفةِ صحةِ نبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم والتَّوَكُّفِ لأمره حتى جاءتهم البينةُ فَتَفَرَّقُوا عند ذلك، ويتَّجِهُ في معنى الآيةِ قولٌ ثالثٌ بارعُ المعنى؛ وذلك أَنْ يكونَ المرادُ: لَمْ يَكُنْ هؤلاءِ القومُ منفكينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى يبعثَ إليهمْ رَسُولاً؛ تقومُ عليهم به الحجةُ، وتتمُّ عَلى مَنْ آمن بهِ النعمةُ فكأَنَّه قَالَ: ما كانوا لِيُتْرَكُوا سُدًى، والصحفُ المطهَّرة: القرآنُ في صحفهِ؛ قاله قتادة والضحاك، وقال الحسن: الصحفُ المطهَّرة في السماءِ، {فِيهَا كُتُبٌ} أي: أحكامُ كتبٍ، و{قَيِّمَةٌ} معناه قَائِمة معتدلَة آخذةٌ للناسِ بالعَدْلِ، ثُمَّ ذَمّ تعالى أهْلَ الكتابِ في أنّهم لم يَتَفَرَّقُوا في أمْرِ محمد صلى الله عليه وسلم إلا مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ الواضحةَ؛ وكانوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ على نُبُوَّتهِ وصفتهِ، و{حُنَفَاءَ}: جَمْعُ حنيفٍ وهو المستقيمُ، وذِكْر الزكاةِ مَعَ ذِكْرِ بَنِي إسرائيل يُقَوِّي قَوْلَ من قَال: السورةُ مدنيةٌ؛ لأنَّ الزكاةَ إنما فُرِضَتْ بالمدينةِ، ولأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما دُفِعَ إلى مناقَضَةِ أهْلِ الكتَابِ بالمدينةِ، وقرأ الجمهور: {وذلك دين القيمة} على معنى الجماعة والفِرْقَةِ القيمة، وقال * ص *: قراءة الجمهور: {وذلك دين القيمة} على تقديرِ الأمَّةِ القَيِّمَةِ؛ أي: المستقيمةِ أو الكتُب القيمةِ، وقرأ عبد اللَّه: {وذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمَةُ} بتعريفِ الدِّينِ ورَفْعِ القيمة صفةً، والهاءُ فيه للمبالغَةِ أو عَلى تأويلِ أنَّ الدِّينَ بمعنى الملَّة، انتهى، و{البرية} جميعُ الخَلْقِ؛ لأن اللَّه تعالى براهُم أي: أوْجَدَهُمْ بَعْدَ العَدَم.
وقوله تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} قِيْلَ ذلك في الدنيا؛ فَرِضاه عنهم هو ما أظْهَرَه عليهم من أمَارَاتِ رحمتهِ، ورضاهُم عنه؛ هو رضَاهم بجميعِ مَا قَسَمَ لَهم من جميعِ الأرزاقِ والأقدارِ، وقال بعضُ الصالحين: رَضَى العبادِ عن اللَّهِ رِضَاهُمْ بِما يَرِدُ من أحكامِه، ورِضَاه عنهم أن يُوَفِّقَهُمْ للرِّضَى عَنْهُ، وقال سري السقطي: إذَا كُنْتَ لاَ تَرْضَى عَنِ اللَّهِ فكَيْفَ تَطْلُبُ منْه أنْ يَرْضَى عَنْكَ، وقيل ذَلِكَ في الآخِرَةِ، وخَصَّ تعالى بالذكرِ أهْلَ الخَشْيَةِ؛ لأنها رأْسُ كلِّ بَرَكَةٍ وهيَ الآمِرَةُ بالمعروفِ والناهِيَةُ عن المنكرِ.

.تفسير سورة إذا زلزلت:

وهي مكية قاله ابن عباس وغيره.
وقال قتادة ومقاتل: هي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}
قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} قد تقدَّم معنى الزلزلةِ، والأثْقَالُ: الموتَى؛ قاله ابن عباس، وقيل أخْرَجَتْ موتَاها، وكنوزَها، وقول الإنسان: {مَا لَهَا} هو عَلَى مَعْنَى التعجُّبِ مِنْ هولِ ما يَرَى، قال الجمهور: الإنسانُ هنا الكافِرُ، وقيلَ عامٌّ في المؤمِنِ والكافِرِ، وإخْبَارُ الأَرْضِ قَالَ ابن مسعودٍ وغيره: هي شَهَادَتُها بِما عُمِلَ عليها مِنْ عَمَلٍ صالحٍ وفَاسدٍ ويؤيدُ هذَا التأويلَ قولُه صلى الله عليه وسلم: «فَإنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مدى صَوْتِ المُؤَذِّنِ إنْسٌ وَلاَ جِنٌّ وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». ت *: وخرَّج الترمذيُّ في جامعِه عن أبي هريرةَ قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآيةُ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: «أتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؛ قَالَ: «فَإنَّ أَخْبَارَهَا: أَنْ تَشْهَدَ على كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ على ظَهْرِهَا، تَقُولُ: عَمِلَ عَلَيَّ يَوْمَ كَذَا كَذَا؛ فهذه أَخْبَارُها» قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ؛ انتهى، وكَذَا رواه أبو بكر بن الخطيبِ، وفيه: عَمِلَ عَلَيَّ في يَوْمِ كَذَا وَكَذَا وَفِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا.