فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (1- 4):

{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}
قولُه جَلَّتْ قدرته: {الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} الأبْرَعُ في نَظْمِ الآيةِ أنّ يكون: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} كلاماً مبتدأً جزماً؛ جملةً رادةً على نصارَى نَجْرَانَ الذين وفَدُوا علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَاجُّوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وقالوا: إِنَّهُ اللَّهُ على مَا هُوَ معلومٌ في السِّيَرِ، فنزل فيهم صَدْر هذه السورةِ إِلى نيِّفٍ وثمانينَ آيةً منْها، إلى أنْ دعَاهُمْ صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال.
وقد تقدَّم تفسيرُ قوله: {الحي القيوم} في آية الكرسيِّ، والآيةُ هناك إِخبارٌ لجميعِ الناسِ، وكُرِّرتْ هنا إخباراً بحجج هؤلاءِ النصارى، ويردُّ عليهم؛ إِذ هذه الصفاتُ لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام؛ لأنهم إِذ يقولُون: إِنه صُلِبَ، فذلك مَوْتٌ في معتقَدِهِمْ، وإِذْ من البيِّن أنَّه ليس بقَيُّومٍ.
وقراءة الجمهور {القَيُّوم}، وقرئ خارجَ السَّبْعِ: القَيَّامُ؛ والقَيِّمُ، وهذا كلُّه مِنْ: قَامَ بالأَمْرِ يقُومُ به، إِذا اضطلع بحفْظِهِ، وبجميعِ ما يحتاجُ إِلَيْهِ في وُجُودِهِ، فاللَّه تعالى القَيَّامُ على كلِّ شيءٍ ممَّا ينبغِي له، أوْ فِيهِ، أوْ عليه.
* ت *: وقد تقدَّم ما نقلْناه في هذا الاِسم الشريفِ؛ أنه اسمُ اللَّهِ الأعظمُ، قال النوويُّ: ورُوِّينَا في كتابِ التِّرمذيِّ؛ عن أَنَسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ، قَالَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ»، قَالَ الحاكمُ: هذا حديثٌ صحيحُ الإِسناد. اهـ.
قال صاحب سلاح المؤمن: وعنْ عليٍّ رضي اللَّه عنه، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَاتَلْتُ شَيْئاً مِنْ قِتَالٍ، ثمَّ جئْتُ إلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنْظُرُ مَا صَنَعَ فَجِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ»، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى القِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ؛ لاَ يَزِيدُ على ذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ، «فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ» رواه النِّسائِيُّ، والحاكمُ في المستدرك، واللفظ للنسائِيِّ.
وعن أسماء بنتِ يَزيد رضي اللَّه عنها؛ أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسم اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: {وإلهكم إله واحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم}، وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ: {الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم}» رواه أبو داود، واللفظ له، والترمذيُّ، وابن ماجة، وقال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وعن أبي أُمَامَة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «اسم اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي ثَلاَثِ سُوَرٍ: فِي سُورَةِ البَقَرَةِ، وآل عِمْرَانَ، وَطَه»، قال القاسِمُ: فالتمستها أنَّهُ الحَيُّ القَيُّومُ.
انتهى.
وقوله: {بالحق}: يحتملُ معنيَيْنِ:
أحدهما: أنْ يكون المعنى: ضُمِّنَ الحقائقَ؛ في خبره، وأمره، ونهيه، ومواعظه.
والثانِي: أنْ يكون المعنى: أنه نَزَّلَ الكتابَ باستحقاق أنْ يُنَزَّل؛ لما فيه من المصلحةِ الشاملة، وليس ذلك على أنه واجبٌ على اللَّه تعالى أنْ يفعله.
* ت *: أي: إِذْ لا يجبُ عَلَى اللَّه سبحانه فعْلٌ؛
قال * ع *: فالباءِ، في هذا المعنى: على حدِّ قوله: {سبحانك مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]. وقيل: معنى: {بالحق}: أيْ: مِمَّا اختلف فيه أهْلُ الكتابِ، واضطرب فيه هؤلاءِ النصارَى الوافِدُونَ.
قال * ع *: وهذا داخلٌ في المعنى الأول.
وقوله: {مُصَدِّقاً}: حالٌ مؤكِّدة؛ لأنه لا يمكن أنْ يكون غير مصدِّقٍ، لما بين يديه من كتب اللَّه سُبْحانه، {وما بَيْن يديه}: هي التوراةُ والإِنجيلُ وسائرُ كُتُبِ اللَّه التي تُلُقِّيَتْ من شرعنا.
وقوله تعالى: {مِن قَبْلُ}: يعني: من قبل القرآن.
وقوله: {هُدىً لِّلنَّاسِ}: معناه: دُعَاءٌ، والنَّاسُ: بنو إِسرائيل في هذا الموضعِ، وإِن كان المراد أنهما هُدىً في ذاتهما، مَدْعُوٌّ إليه فرعَوْنُ وغَيْرُه، فالناسُ عامٌّ في كل مَنْ شاء حينئذٍ أنْ يستبصر، و{الفرقان}: القرآن؛ لأنه فَرَقَ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، ثم توعَّد سبحانه الكفَّارَ عموماً بالعذابِ الشديدِ، والإشارةُ بهذا الوعيدِ إلى نصارى نَجْرَانَ، و{عَزِيزٌ}: معناه: غالبٌ، والنقمة والاِنتقام: معاقبةُ المذْنِبِ بمبالغةٍ في ذلك.

.تفسير الآيات (5- 7):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء}: هذه الآية خَبَرٌ عن علْمِ اللَّه تعالى بالأشياء، على التفصيل، وهذه صفةٌ لَمْ تكُنْ لعيسى، ولا لأحدٍ من المخلوقين، ثم أخبر سبحانه عن تَصْويره للبَشَرِ في أرحامِ الأمَّهاتِ، وهذا أمر لا ينكرُهُ عاقلٌ، ولا ينكر أنَّ عيسى وسائر البَشَر لا يقْدِرُونَ عليه، ولا ينكر أنَّ عيسى من المصوَّرِينَ؛ كغيره من سائرِ البَشَر، فهذه الآية تعظيمٌ للَّه جلَّتْ قُدْرته في ضِمْنِها الرَّدُّ على نصارى نَجْران، وفي قوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ}: وعيدٌ، وشرح النبيُّ صلى الله عليه وسلم كيفيَّة التصْويرِ في الحديثِ الَّذي رواه ابنُ مَسْعُودٍ وغيره؛ «أنَّ النُّطْفَةَ، إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، مَكَثَتْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكاً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَذَكَرْ أَمْ أنثى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ» الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه، وفي مسندِ ابن سِنْجَر حديثٌ؛ «أنَّ اللَّهَ سُبْحَانه يَخْلُقُ عِظَامَ الجَنِينِ وَغَضَارِيفَهُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ، وَلَحْمَهُ وَشَحْمَهُ وَسَائِرَ ذَلِكَ مِنْ مَنِيِّ المَرْأَةِ»، وَصَوَّرَ: بناءُ مبالغةٍ من صَارَ يَصُورُ، إِذا أمال وثنى إلى حالٍ مَّا، فلما كان التصويرُ إمالةً إلى حال، وإِثباتاً فيها، جاء بناؤه على المُبَالغة، والكتابُ في هذه الآية: القرآن، بإِجماع، والمُحْكَمَاتُ: المفصَّلات المبيَّنات الثابتَاتُ الأحكامِ، والمُتَشَابِهَاتُ: هي التي تحتاجُ إِلى نظر وتأويلٍ، ويظهر فيها ببَادِي النَّظَرِ: إِما تَعَارُضٌ مع أخرى، وإما مع العَقْل إِلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشَّبَه الذي من أجله تُوصَفُ بمتشابهات، إِنما هو بينها وبيْنَ المعانِي الفاسدة الَّتي يظنُّها أهْلُ الزيغِ، ومَنْ لم يُنْعِمِ النظَرَ، وهذا نحوُ الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ»، أي: يكون الشيء حراماً في نفسه، فَيُشْبِهُ عند من لَمْ يُنْعِمِ النظر شيئاً حلالاً؛ وكذلك الآية: يكونُ لها في نفسها معنًى صحيحٌ، فيشبه عنْد مَنْ لم ينعمِ النظر، أو عند الزائغِ معنًى آخر فاسداً، فربَّما أراد الاِعتراضَ به على كتاب اللَّه، هذا عندي معنَى الإِحكام والتشابُهِ في هذه الآية.
قال * ع *: وأحسنُ ما قيل في هذه الآية قولُ محمَّدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيرِ؛ أن المُحْكَمَاتِ هي الَّتِي فيهن حُجَّةُ الربِّ، وعصمةُ العبادِ، ودفْعُ الخصومِ والباطل، ليس لها تصريفٌ ولا تحريفٌ عمَّا وضعْنَ عليه، والمُتَشَابِهَاتُ: لها تصريفٌ وتحريفٌ، وتأويلٌ ابتلى اللَّه فيهنَّ العباد، قال ابن الحاجِبِ في منتهَى الوُصُولِ: مسألةٌ في القرآن محكمٌ ومتشابهٌ، قال تعالى: {مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات}، فالمُحُكَمُ: المتَّضِح المعنى، قال الرهوني: يعني نَصًّا كان أو ظَاهِراً، والمُتَشَابَهُ: مقابله إمَّا للاشتراك؛ مثل:
{ثلاثة قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، أو للإجمالِ؛ مثلُ: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] وما ظاهره التِّشبيهُ؛ مثلُ: {مِن رُّوحِي} [ص: 72]، و{أَيْدِينَا} [يس: 71]، و{بِيَدَيَّ} [ص: 75] و{بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، و{يَسْتَهْزِئُ} [البقرة: 15]، و{مَكْرَ الله} [آل عمران: 54] ونحوه، والظاهرُ: الوقْفُ على: {والراسخون فِي العلم}؛ لأن الخطاب بما لا يُفْهَمُ بعيدٌ. انتهى.
قال الرهونيُّ: وسمِّي ما ذكر {مُتَشَابِهاً}؛ لاشتباهه على السامِعِ، قال الرهونيُّ: والحقُّ الوقْفُ على: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}. وهو المرويُّ عن جماعة؛ منهم: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عمر، وابنْ مسعودٍ، ومالكٌ، وغيرهم، وفي مُصْحَفِ أُبِيٍّ: {وما يعلم تأويلَهُ إلاَّ اللَّه ويقول الراسخونَ في العلْمِ آمنا بِه}. اهـ.
وقوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الكتاب}، أي: معظم الكتاب، وعُمْدة ما فيه: إذ المُحْكَم في آياتِ اللَّه كثيرٌ قد فُصِّلَ، ولم يفرَّطْ في شيء منه، قال يَحْيَى بْنُ يَعْمَر: كما يقال لمكَّة أمُّ القرى.
قال * ع *: وكما يقالُ: أمُّ الرَّأْس لمجتمع الشؤونِ، فجميع المحكَمِ هو أم الكتابِ، ومعنى الآية الإِنْحَاءُ على أهل الزيْغِ، والمذمَّةُ لهم، والإِشارة بذلك أولاً إلى نصارى نَجْرَانَ، وإلى اليهودِ الذين كانوا معاصِرِينَ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، فإِنهم كانوا يعترضُون معانِيَ القُرآن، ثم يعم بعد ذلك كلِّ زائغ، فذكر تعالى؛ أنه نزَّل الكتابَ على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم؛ إِفضالاً منه، ونعمةً؛ وأنَّ مُحْكَمَه وبَيِّنَهُ الَّذي لا اعتراض فيه هو معظمه، والغالِبُ فيه؛ وأنَّ متشابهه الذي يحتملُ التَّأْوِيلَ، ويحتاجُ إِلى التفهُّم هو أقلُّه، ثم إِن أهل الزيغ يتركُونَ المحكَمَ الذي فيه غُنْيَتهم، ويتبعونَ المتشَابِه؛ ابتغاء الفِتْنَةِ، وأنْ يفسدوا ذاتَ البَيْن، ويردوا النَّاس إِلى زيغهم.
* م *: قال أبو البقاءِ: {وَأُخَرُ}: معطوفٌ على {آيات}، و{متشابهات}: نعت ل {أُخَرُ}.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: يعمُّ كل طائفةٍ من كافرٍ وزنديقٍ وجاهلٍ صاحب بدعةٍ، والزيغُ: المَيْلُ، و{ابتغاء}: نصبٌ على المفعولِ من أجله، ومعناه: طلبُ الفِتْنَة، قال الربيع: الفِتْنَة هنا الشرْكُ، وقال مجاهدٌ: الفتْنَةُ: الشبهاتُ، واللَّبْسُ على المؤمنين، ثم قال: وابتغاء تأويلِهِ، والتأويل هو مَرَدُّ الكلامِ، وَمَرْجِعُهُ، والشيء الذي يقفُ علَيْه من المعانِي، وهو من: آلَ يَئولُ، إذا رجع، فالمعنى: وطَلَبَ تأويلِهِ على مَنَازِعِهِمُ الفاسدَةِ، هذا في ما له تأويلٌ حسنٌ، وإن كان ممَّا لا يتأوَّل، بل يوقَفُ فيه، كالكلامِ في معنَى الرُّوح ونحوه، فنَفْسُ طلب تأويله هو اتباع ما تشابه، ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}، أي: وما يعلم تأويله على الكَمَال إلا اللَّه سبحانه.
واختلف في قوله: {والراسخون فِي العلم}، فرأَتْ فرقةٌ أنَّ رفْعَ الراسخين هو بالعطْفِ على اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ؛ وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولونَ: {آمَنَّا بِهِ}، وقالتْ طائفةٌ أخرى: والراسخُونَ: رفْع بالابتداء، وهو مقطوعٌ من الكلامِ الأول، وخبره {يَقُولُونَ}، والمنفَردُ بعلْم المتشابه هو اللَّه وحده.
قال * ع *: وهذه المسألة إذا تُؤُمِّلَتْ، قَرُبَ الخلافُ فيها من الاِتفاقِ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى قسَّم آي الكتابِ قسْمَيْن محكمًا ومتشابهًا، فالمُحْكَم هو المتَّضِحُ المعنى لكلِّ من يفهم كلامَ العَرَب، لا يحتَاجُ فيه إِلى نظر، ولا يتعلَّق به شيء يلبِّس، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره، والمتشابه على نوعَيْن، منه: ما لا يُعْلَمُ البتَّةَ؛ كأمر الرُّوح، وآمادِ المغيَّبات التي قد أعْلَمَ اللَّه بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه: ما يُحْمَلُ على وجوه في اللغة، ومَنَاحٍ في كلامِ العربِ، فَيُتَأوَّلُ، ويُعْلَم تأويله، ولا يسمَّى أحدٌ راسِخاً إلاَّ أنْ يعلم من هذا النوع كثيراً؛ بحَسَب ما قُدِّر له، فمَنْ قال: إن الراسخين يعلمون تأويلَ المتشابِهِ، فمراده النوْعُ الثاني الَّذي ذكرناه، ومَنْ قال: إن الراسخين لا يعلَمُونَ تأويله، فمراده النوع الأول؛ كأمر الرُّوح، ووقْتِ الساعةِ، لكنَّ تخصيصه المتشابه بهذا النوعِ غيرُ صحيحٍ، بل هو نوعانِ؛ كما ذكرنا، والضمير في {تأويله} عائدٌ على جميع متشابه القرآن، وهما نوعانِ؛ كما ذكرنا، والرُّسُوخُ: الثبوتُ في الشيءِ، وسئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ، فَقَالَ: «هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، واستقام قَلْبُهُ»، قُلْتُ: ومن جامعِ العَتَبِيَّةِ، وسُئِل مالكٌ عن تفسيرِ الراسِخِينَ في العلْمِ، فقال: العالِمُونَ العاملُونَ بما علموا، المتَّبِعُونَ له، قال ابنُ رُشْدٍ: قولُ مالِكٍ هذا هو معنى ما رُوِيَ من أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: مَنِ الراسِخُ في العِلْمِ؟ فقالَ: «مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وصَدَقَ لِسَانُهُ، واستقام بِهِ قَلْبُهُ، وعَفَّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي العِلْمِ»؛ قال ابنُ رُشْدٍ: ويشهد لصحَّة هذا قولُ اللَّهِ عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]؛ لأنه كَلاَمٌ يدُلُّ عَلى أنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّه، فَلَيْسَ بعالمٍ. انتهى.
قلت: وقد جاء في فضْلِ العلْمِ آثارٌ كثيرةٌ، فمن أحسنها: ما رواه أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ بسنده، عن معاذِ بنِ جَبلٍ، قال: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعَلَّمُوا العِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لأَنَّهُ مَعَالِمُ الحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وهو الأنيسُ فِي الوَحْشَةِ، والصَّاحِبُ فِي الغُرْبَةِ، وَالمُحْدِّثُ فِي الخَلْوَةِ، والدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلاَحُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَالزِّيْنُ عِنْدَ الأَخِلاَّءِ، وَيَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، ويقتدى بِفِعَالِهِمْ، وينتهى إلى رَأْيِهِمْ، وَتَرْغَبُ المَلاَئِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَحِيتَانُ البَحْرِ وهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ البَرِّ وأَنْعَامُهُ؛ لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، يَبْلُغُ العَبْدُ بَالعِلْمِ مَنَازِلَ الأَخْيَارَ، وَالدَّرَجَاتِ العلى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، الفِكْرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ القِيَامَ، بِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الحَلاَلُ مِنَ الحَرَامِ، هُوَ إِمَامُ العَمَلِ، وَالعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ»
، قال أبو عمر: هكذا حدَّثنيه عُبَيْدُ بْنُ محمَّدٍ مرفوعاً بالإِسناد الَّذِي روَيْناه به عنه، وهو حديثٌ حسنٌ جِدًّا، ولكن ليس له إِسناد قويٌّ، وَرَوَيْنَاهُ من طرقٍ شتى موقوفًا على معاذ. انتهى من كتاب فَضْل العِلْمِ، قال الشيخُ العارِفُ أبو القاسِمِ عبْدُ الرحمنِ بْنُ يُوسُفَ اللجائي رحمه اللَّه، ومن علامة نورِ العلْمِ، إذا حلَّ بالقلب: المعرفةُ والمراقبةُ والحياءُ والتوبةُ والوَرَعُ والزُّهْد والتوكُّل والصَّبْر والرضى والأنس والمجاهَدَةُ والصَّمْت والخَوْف والرجاءُ والقَنَاعةُ وذِكْرُ المَوْتِ. اهـ.
وقوله تعالى: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}: فيه ضميرٌ عائدٌ على كتاب اللَّه مُحْكَمِهِ ومتشَابِهِهِ، والتقديرُ: كلُّه من عنْدِ ربِّنا.
ثم قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}، أي: ما يقول هذا، ويؤمن ويقفُ حيثُ وُقِّفَ، ويدع اتباع المتشابهِ إلاَّ ذُو لُبٍّ، وهو العقْلُ و{أُولُو}: جمع: ذُو.

.تفسير الآيات (8- 11):

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)}
وقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا...} الآية: لمَّا ذكر اللَّه سبحانه أهلَ الزيْغِ، وذكَرَ نقيضهم، وظهر ما بَيْن الحالَتَيْنِ، عقَّب ذلك؛ بأنْ علَّم عباده الدعاء إلَيْه في ألاَّ يكونوا من الطائفَةِ الذميمَةِ الَّتي ذُكِرَتْ، وهم أهلْ الزيْغِ، ويحتمل أنْ يكون هذا من تمامِ قول الراسِخِينَ، و{تُزِغْ}: معناه: تُمِلْ قلوبنا عن الهدى والحقِّ، و{مِن لَّدُنْكَ}: معناه: من عِنْدِكَ تَفَضُّلاً، لا عن سَبَبٍ منَّا، ولاَ عَمَلٍ، وفي هذا استسلامٌ وتطارُحٌ، والمرادُ: هَبْ لنا نعيماً صادراً عن الرحمة.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}: إِقرار بالبَعْثِ ليومِ القيامةِ، والرَّيْبُ: الشكُّ، والمعنى أنه في نفْسِه حقٌّ لا رَيْبَ فيه.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد}، يحتمل: أنْ يكون إِخباراً منه سبحانه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، وأمته، ويحتملُ: أنْ يكون حكايةً مِنْ قول الداعين، ففي ذلك إِقرارٌ بصفة ذاتِ اللَّه تعالى، والميعادُ: من الوَعْد.
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مِّنَ الله شَيْئاً...} الآية: الإِشارة بالآيةِ إلى معاصِرِي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفْخَرُون بأموالهم وأبنائهم، وهي بَعْدُ متناوِلَةٌ كلَّ كافرٍ، والوَقُود؛ بفتحِ الواوِ: كلُّ ما يحترق في النار من حَطَبٍ ونحوه، والدَّأْبُ، والدَّأَبُ؛ بسكون الهمزة وفتحها: مصدرُ: دَأَبَ يَدْأَبُ، إذا لازم فعل شيءٍ، ودام عليه مجتهداً فيه، ويقال للعادة دَأْبٌ، والمعنى في الآية: تشبيهُ هؤلاء في لزومهم الكُفْر ودوامِهِم عليه بأولئك المتقدِّمين، وآخر الآية يقتضي الوعيدَ بأنْ يصيب هؤلاءِ ما أصَابَ أولئك، والكافُ في قوله: {كَدَأْبِ} في موضعِ رفعٍ، والتقدير: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ، والضمير في {قَبْلِهِمْ} عائد على {آلِ فِرْعَوْنَ}، ويحتمل: على معاصري رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من الكفار.
وقوله: {كَذَّبُواْ بآياتنا}: يحتمل: أنْ يريد المتلوَّة، ويحتمل أن يريد العلاماتِ المنصوبَةَ.