فصل: تفسير الآيات (39- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (39- 41):

{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}
وقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ} عبارةٌ تستعملُ في التبشيرِ، وفي ما ينبغي أنْ يسرع به، وينهى إِلى نفس السامعِ ليسرَّ به، فلم يكُنْ هذا في الملائكةِ إِخباراً على عرف الوحْيِ، بل نداء كما نادَى الرَّجُلُ الأنصاريُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ أعلى الجَبَلِ.
وقوله تعالى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب}، يعني: ب {المِحْرَابِ}؛ في هذا الموضعِ: موقفَ الإِمامِ من المسجدِ، ويَحْيَى: اسم سمَّاه اللَّه به قَبْلَ أنْ يولَدَ، و{مُصَدِّقًا} نصْبٌ على الحال، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الكلمةُ هنا يرادُ بها عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.
قال * ع *: وسَمَّى اللَّه تعالى عيسى كلمةً، إِذْ صدر عن كَلِمةٍ منه تعالى، وهي كُنْ، لا بسبب إِنسان.
وقوله تعالى: {وَسَيِّداً}: قال قتادة: أيْ: واللَّهِ سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعبادةِ والوَرَعِ.
قال * ع *: مَنْ فَسَّر السؤدد بالحِلْمِ، فقَدْ أحرز أكْثَر معنى السؤددِ، ومَنْ جَرَّد تفسيره بالعِلْمِ والتقى ونحوه، فلم يفسِّره بحَسَب كلامِ العربِ، وقد تحصَّل العلْم ليحيى عليه السلام بقوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله}، وتحصَّل التقى بباقِي الآية، وخصَّه اللَّه بذكْرِ السؤددِ الذي هو الاعتمال في رِضَا النَّاس على أشْرَفِ الوجوهِ، دون أنْ يوقعِ في باطِل هذا اللفظ يعمُّ السؤددَ، وتفصيلُهُ أن يقالَ: بذل الندى، وهذا هو الكَرَمُ، وكَفُّ الأذى، وهنا هي العفةُ بالفَرْج، واليَدِ، وَاللِّسان، واحتمال العظائم، وهنا هو الحِلْمُ وغيرُهُ مِنْ تحمُّلِ الغراماتِ والإِنقاذِ من الهَلَكَاتِ، وجَبْرِ الكَسِيرِ، والإفضالِ على المُسْتَرْفد، وانظر قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلاَ فَخْرَ»، وذكر حديثَ الشفاعةِ في إِطلاق الموقِفِ، وذلك منه اعتمال في رِضَا ولد آدم، ثم:
قال * ع *: أما أنه يحسن بالتقيِّ العَالِمِ أنْ يأخُذَ من السؤدد بكلِّ ما لا يخلُّ بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى عليه السلام.
وقوله تعالى: {وَحَصُوراً} أصل هذه اللفظة: الحَبْسُ والمَنْعُ، ومنه: حصر العدو.
قال * ع *: وأجمعَ مَنْ يعتدُّ بقوله من المفسِّرين على أنَّ هذه الصفة ليحيى عليه السلام إِنما هي الاِمتناعُ من وطْءِ النِّسَاءِ إِلاَّ ما حكى مكِّيٌّ من قول من قَالَ: إِنه الحُصُور عن الذنوب، وذهب بَعْضُ العلماءِ إلى أنَّ حَصْرَهُ كان بأنه يُمْسِكُ نفسه؛ تُقًى وجَلَداً في طاعة اللَّه سبحانه، وكانتْ به القُدْرة على جِمَاعِ النساءِ، قالوا: وهذه أمْدَحُ له، قال الإِمام الفَخْر: وهذا القولُ هو اختيار المحقِّقين؛ أنه لا يأتِي النِّساء، لا للعَجْز، بل للعِصْمَةِ والزُّهْد.
قلْتُ: قال عِيَاضٌ: اعلم أنَّ ثناء اللَّه تعالى على يحيى عليه السلام؛ بأنه حَصُورٌ، ليس كما قال بعضْهم: إِنه كان هَيُوباً أو لا ذَكَرَ لَهُ، بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسِّرِين، ونُقَّادُ العلماء، وقالوا: هذه نقيصةٌ وعَيْب، ولا تليقُ بالأنبياء عليهم السلام، وإِنما معناه: معصومٌ من الذُّنُوب، أي: لا يأتيها؛ كأنه حُصِرَ عنها، وقيل: مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل: ليستْ له شهوةٌ في النساءِ؛ كفَايَةً من اللَّه له؛ لكونها مَشْغَلَةً في كثير من الأوقات، حاطَّة إِلى الدنيا، ثم هي؛ في حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْها، وقام بالواجب فيها، ولم تَشْغَلْهُ عن ربِّهِ درجةٌ عُلْيَا، وهي درجةُ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، أيْ: وسائرِ النبيِّين.
اه من الشِّفَا.
وباقي الآية بيِّن.
ورُوِيَ مِنْ صلاحه- عليه السلام-؛ أنَّهُ كان يعيشُ من العُشْب، وأنه كان كثير البُكَاء من خَشْية اللَّه؛ حتى اتخذ الدمْعُ في وَجْهه أخدودًا.
* ص *: و{مِّنَ الصالحين}، أي: من أصلاب الأنبياء، أو صالحاً من الصَّالحين، فيكون صفةً لموصوفٍ محذوفٍ. اهـ.
قلت: والثاني أحْسَنُ، والأولُ تحصيلُ الحاصلِ، فتأمَّله.
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غلام وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر...} الآية: ذهب الطَّبَرِيُّ وغيره إِلي أنَّ زكريَّا لَمَّا رأى حال نَفْسه، وحال امرأته، وأنها ليستْ بحالِ نسلٍ، سأل عن الوَجْه الذي به يكونُ الغلامُ، أتبدلُ المرأةُ خِلْقَتَهَا أمْ كيْفَ يكُون؟
قال * ع *: وهذا تأويلٌ حسن لائقٌ بزكريَّا عليه السلام.
و{أنى}: معناها: كَيْفَ، ومِنْ أَيْنَ، وحسن في الآية {بَلَغَنِي الكبر}؛ من حيثُ هي عبارةُ وَاهِنٍ منفعلٍ.
وقوله: {كذلك}، أي: كهذه القُدْرةِ المستغْرَبَةِ قُدْرَةُ اللَّهِ، ويحتمل أن تكون الإِشارة بذلك إلى حال زكريَّا، وحالِ امرأتِهِ؛ كأنه قال: رَبِّ، على أيِّ وجه يكونُ لنا غلامٌ، ونحن بحالِ كذا، فقال له: كما أَنْتُمَا يكونُ لكُمَا الغلامُ، والكلامُ تامٌّ؛ على هذا التأويل في قوله: {كذلك}.
وقوله: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}: جملةٌ مبيّنة مقرِّرة في النفْسِ وقوعَ هذا الأمْر المستغْرَبِ.
وقوله: {قَالَ رَبِّ اجعل لِّي ءَايَةً}، أي: علامة، قالَتْ فرقة من المفسِّرين لم يكنْ هذا من زكريَّا على جهة الشكِّ، وإِنما سأل علامةً على وَقْت الحَمْلِ.
وقوله تعالى: {ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس...} الآية: قال الطبريُّ وغيره: لم يكُنْ منعه الكلامَ لآفة، ولكنه مُنِعَ محاورةَ النَّاس، وكان يَقْدِرُ على ذكر اللَّه، ثم استثنى الرَّمْز، وهو استثناءٌ مُنْقَطِعٌ، والكلام المرادُ في الآية: إِنما هو النطْقُ باللِّسَان، لا الإِعلام بما في النَّفْس، والرَّمْزُ في اللغة: حركةٌ تُعْلِمُ بما في نَفْسِ الرَّامِزِ؛ كانت الحركةُ من عَيْنٍ، أو حاجبٍ، أو شَفَةٍ، أو يدٍ، أو عُودٍ، أو غيرِ ذلك، وقد قيل للكَلاَمِ المحرَّف عن ظاهره: رُمُوز.
وأَمَرَهُ تعالى بالذِّكْر لربه كثيراً؛ لأنه لم يَحُلْ بينه وبين ذكْر اللَّه، وهذا قاضٍ بأنه لم تدركْهُ آفَةٌ ولا علَّة في لسانِهِ، قال محمَّد بن كَعْبٍ القُرَظِيّ: لو كان اللَّه رخَّصَ لأحدٍ في ترك الذِّكْر، لرخَّص لزكريَّاء عليه السلام؛ حيث قال: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}، لكنه قال له: {اذكر رَّبَّكَ كَثِيراً} قال الإِمام الفَخْر: وفي الآية تأويلان:
أحدهما: أنَّ اللَّه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره علَى الذِّكْر والتَّسْبيحِ والتهليلِ؛ ليكون في تلك المدَّة مشتغلاً بذكْرِ اللَّه وطاعته؛ شُكْراً للَّه على هذه النِّعْمة، ثم أعلم أنَّ هذه الواقعة كانَتْ مشتملةً علَى المُعْجِزِ من وجوه:
أحدها: أنَّ قدرته على الذكْرِ والتَّسبيحِ، وعَجْزَه عن التكلُّم بأمور الدنْيَا من المُعْجِزَات.
وثانيها: أنَّ حصولَ ذلك العَجْز مع صِحَّة البِيْنَةِ من المعجزاتِ.
وثالثها: أن إِخباره بأنه متى حصلَتْ تلْكَ الحالةُ، فقَدْ حصل الولد، ثم إِنَّ الأمر خرج على وفَقْ هذا الخبرِ يكون أيضاً من المعجزات.
والتأويل الثَّاني: أن المراد منه الذكْر بالقَلْب؛ وذلك لأن المستغْرِقِينَ في بِحَارِ معرفة اللَّه تعالى عادتهم في أوَّل الأمر أنْ يواظِبُوا على الذكْرِ اللِّسَانِيِّ مدةً، فإِذا امتلأ القَلْبُ من نُور ذِكْرِ اللَّه تعالى، سكَتُوا باللِّسَان، وبقي الذِّكْرُ في القَلْب؛ ولذلك قالوا: «مَنْ عَرَفَ اللَّه، كَلَّ لِسَانُهُ»، فكان زكريَّاء عليه السلام أمر بالسُّكُوت باللِّسَان واستحضار معانِي الذكْرِ والمعرفةِ، واستدامتها بالقَلْب. اهـ.
وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ}: معناه: قلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وقال قومٌ: معناه صَلِّ، والأول أصوبُ؛ لأنه يناسب الذكْرَ، ويستغربُ مع امتناع الكلام مع النَّاسِ، والعَشِيُّ، في اللغة: من زوالِ الشَّمْسِ إِلى مغيبها، والإِبْكَارُ: مصدرُ أَبْكَرَ الرَّجُلُ، إِذا بادر أمْرَهُ من لَدُنْ طلوع الفجر إِلى طلوع الشمْسِ، وتتمادَى البُكْرَة شَيْئاً بعد طلوع الشمس، يقال: أَبْكَرَ الرجُلُ وَبَكَّرَ.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة}: العامل في {إِذْ}: اذكر؛ لأن هذه الآياتِ كلَّها إِنما هي إِخبارات بغَيْبٍ تدلُّ على نبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، مَقْصِدُ ذِكْرها هو الأظهر في حِفْظِ رَوْنَقِ الكلام.
و{اصطفاك}: معناه: تَخَيَّرَكِ لطاعته، و{طَهَّرَكِ}: معناه: من كُلِّ ما يَصِمُ النساء في خَلْقٍ، أو خُلُقٍ، أو دِينٍ؛ قاله مجاهد وغيره، وقولُ الزَّجَّاجِ: قد جاء في التفْسير؛ أنَّ معناه: طَهَّرك من الحَيْض والنفاسِ يحتاج إِلى سند قويٍّ، وما أحفظُه، و{العالمين} يحتملُ عَالَمَ زَمانها.
قال * ع *: وسائغ أنْ يتأوَّل عموم الاِصطفاء على العَالَمِينَ، وقد قال بعضُ الناس: إِن مريم نَبِيَّةٌ من أَجْلِ مخاطَبَةِ الملائكةِ لها، وجمهورُ النَّاسِ على أنها لم تُنَبَّإِ امرأة، و{اقنتي} معناه: اعبدي، وأَطِيعِي؛ قاله الحَسَن وغيره، ويحتمل أنْ يكون معناه: أطِيلِي القيامَ في الصَّلاة، وهذا هو قولُ الجمهورِ، وهو المناسبُ في المعنى لقوله: {واسجدي}، وروى مجاهدٌ؛ أنها لما خوطِبَتْ بهذا، قامَتْ حتى وَرِمَتْ قَدَماها، وروى الأوزاعيُّ: حتى سَالَ الدَّمُ والقَيْحُ من قَدَمَيْهَا، وروي أنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ، تنزلُ على رَأْسِهَا تظُنُّها جَمَاداً.
واختلف المتأوِّلون، لِمَ قُدِّمَ السُّجودُ على الركوع.
فقال قوم: كان ذلك في شرِعِهِمْ، والقول عنْدي في ذلك: أنَّ مريم أُمِرَتْ بفَصْلَيْنِ ومَعْلَمَيْنِ مِن مَعَالِمِ الصلاة، وهما طُولُ القيامِ، والسُّجُودُ، وخُصَّا بالذكْرِ لشرفهما، وهذانِ يَخْتَصَّان بصلاتها مفْرَدةً وإِلاَّ فمن يصلِّي وراء إِمامٍ، فليس يقال له: أَطِلْ قِيَامَكَ، ثم أمرتْ بعدُ بالصَّلاة في الجماعةِ، فقيل لها: {واركعي مَعَ الراكعين}، وقُصِدَ هنا مَعْلَمٌ آخر من مَعَالِمِ الصلاةِ لئلاَّ يتكرَّر اللفظ، ولم يرد في الآية الركوع والسجود الذي هو منتظمٌ في ركْعَةٍ واحدةٍ، واللَّه أعلم.
وقال * ص *: قوله: {واركعي}، الواو: لا ترتّب، فلا يسأل، لِمَ قُدِّم السجود، إِلا من جهة علْمِ البيانِ، وجوابه أنه قدّم؛ لأنه أقربُ ما يكونُ العَبْدُ فيه مِنْ ربِّه، فكان أشْرَفَ، وقيل: كان مقدَّماً في شرعهم. اهـ.

.تفسير الآيات (44- 48):

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}
وقوله تعالى: {ذلك مِنْ أَنبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ...} الآية: هذه المخاطبةُ لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، والإِشارة بذلك إِلى ما تقدَّم ذكْرُهُ من القصصِ، والأنباء: الأخبار، والغَيْبُ: ما غَاب عن مدارك الإِنسان، ونُوحِيهِ: معناه: نُلْقِيهِ في نَفْسِك في خفاءٍ، وَحَدُّ الوَحْيِِ: إِلقاء المعنى في النَّفْس في خفاءٍ، فمنه بالمَلَكِ، ومنه بالإِلهام، ومنه بالإِشارة، ومنه بالكِتَابِ.
وفي هذه الآية بيانٌ لنبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ إِذ جاءهم بغُيُوب لا يعلمها إِلا مَنْ شاهدها، وهو لَمْ يَكُنْ لديهم، أوْ مَنْ قرأها في كتبهم، وهو صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌّ من قومٍ أُمِّيِّينَ، أوْ: من أعلمه اللَّه بها، وهو ذاك صلى الله عليه وسلم، و{لَدَيْهِمْ}: معناه: عندهم ومَعَهُمْ.
وقوله: {إِذْ يُلْقُون أقلامهم...} الآية: جمهورُ العلماء على أنه استهام لأخذِها والمنافَسَةِ فيها، فروي أنهم أَلْقَوْا أقلامَهُمُ الَّتي كانوا يَكْتُبُونَ بها التوراةَ في النَّهْرِ، فروي أنَّ قَلَمَ زكريَّا صاعد الجرية، ومضَتْ أقلام الآخَرِينَ، وقيل غير هذا، قُلْتُ: ولفظ ابْنِ العَرَبِيِّ في الأحكام قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَجَرَتِ الأَقْلاَمُ وَعَلاَ قَلَمُ زَكَرِيَّا» اه، وإِذا ثبت الحديثُ، فلا نظر لأحدٍ معه.
و{يَخْتَصِمُونَ}: معناه: يتراجَعُونَ القَوْلَ الجهيرَ في أمْرها.
وفي هذه الآية استعمال القُرْعَةِ، والقُرعَةُ سُنَّة، «وكان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، إِذَا سَافَرَ، أقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» وقال صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ». واختلف أيضاً، هل الملائكةُ هنا عبارةٌ عن جِبْرِيلَ وحْده أوْ عن جماعةٍ من الملائكة؟
و{وَجِيهاً}: نصبٌ على الحال، وهو من الوَجْهِ، أيْ: له وجْهٌ ومنزلةٌ عند اللَّه، وقال البخاريُّ: وجيهاً: شَريفاً اه.
{وَمِنَ المقربين}: معناه: مِنَ اللَّه تعالى، وكلامه في المَهْدِ: آيةٌ دالَّة على براءة أُمِّه، وأَخبر تعالى عنه أنَّه أيضًا يكلِّم الناس كَهْلاً، وفائدةُ ذلك أنَّه إِخبار لها بحَيَاتِهِ إلى سِنِّ الكهولة، قال جمهورُ النَّاس: الكَهْلُ الذي بَلَغَ سِنَّ الكهولةِ، وقال مجاهد: الكَهْلُ: الحليمُ؛
قال * ع *: وهذا تفسيرٌ للكُهُولة بعَرضٍ مصاحِبٍ لها في الأغلب، واختلف النَّاسُ في حَدِّ الكهولة، فقيل: الكَهْلُ ابن أَرْبَعِينَ، وقيل: ابنُ خَمْسَةٍ وثلاثينَ، وقيل: ابن ثلاثةٍ وثلاثين، وقيل: ابن اثنين وثلاثينَ، هذا حدُّ أَوَّلِهَا، وأمَّا آخرها، فاثنان وخمسونَ، ثم يدْخُلُ سنُّ الشيخوخة.
وقولُ مَرْيَمَ: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}: استفهام عن جهة حَمْلها، واستغراب للحَمْلِ على بَكَارتها، ويَمْسَسْ: معناه: يَطَأ ويُجَامِع.
* ص *: والبَشَر يُطْلَقُ على الواحِدِ والجمع. اهـ.
والكلامُ في قولِهِ: {كذلك} كالكلامِ في أمر زكريَّا، وجاءَتِ العبارةُ في أمر زكريَّا: يَفْعَلُ، وجاءت هنا: يَخْلُقُ؛ من حيث إِنَّ أمر زكريَّا داخلٌ في الإِمكان الذي يتعارَفُ، وإنْ قَلَّ، وقصَّة مريم لا تتعارَفُ البتَّة، فلفظ الخَلْق أقربُ إِلى الاِختراعِ، وأدَلُّ عليه.
وقوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْراً}: معناه: إِذا أراد إِيجاده، والأمر واحدُ الأمور، وهو مَصْدَرٌ سُمِّيَ به، والضميرُ في {لَهُ} عائدٌ على الأمْر والقول؛ على جهة المخاطبة.
وقوله: {كُنْ}: خطابٌ للمَقْضِيِّ.
وقوله: {فَيَكُونُ}؛ بالرفع: خطابٌ للمُخْبَر.
وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب...} الآية: الكِتَابُ هنا: هو الخَطُّ باليد، وهو مصدر: كَتَبَ يَكْتُبُ؛ قاله جمهور المفسِّرين.

.تفسير الآيات (49- 51):

{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}
وقوله: {وَرَسُولاً إلى بَنِي إسراءيل}، أي: ويجعله رسولاً، وكانت رسالةُ عيسى عليه السلام إلى بني إِسرائيل مبيِّناً حُكْمَ التوراة، ونَادِباً إِلى العَمَل بها، ومُحَلِّلاً أشياءَ ممَّا حرم فيها؛ كَالثُّرُوبِ ولُحُومِ الإِبل، وأشياء من الحِيتَانِ والطَّيْر، ومن أول القول لِمَرْيم إِلى قوله: {إِسرائيل}: خطابٌ لمريم، ومن قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} إِلى قوله: {مُّسْتَقِيمٌ}: يحتملُ أنْ يكون خطاباً لمريم؛ على معنى: يَكُونُ من قوله لِبَنِي إِسرائيل كَيْتَ وَكَيْتَ، ويكون في آخر الكلام محذوفٌ يدُلُّ عليه الظاهرُ، تقديره: فجاء عيسى بني إِسرائيل رسولاً، فقال لهم ما تقدَّم ذكْرُهُ، ويحتملُ أنْ يكون المحذوفُ مقدَّراً في صَدْرِ الكلامِ بعد قوله: {إلى بَنِي إسراءيل}، فيكون تقديره: فجاء عيسى؛ كما بَشَّر اللَّهُ رسولاً إلى بني إِسرائيل؛ بأنِّي قد جئتكم، ويكون قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} ليس بخِطَابٍ لِمَرْيَمَ، والأول أظهر.
وقوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين...} الآية: قرأ نافعٌ: {إِنِّي أَخْلُقُ} بكسر الهمزة، وقرأ باقي السَّبْعة بفَتْحها، فوجه قراءةِ نافعٍ إِمَّا القَطْعُ والاستئناف، وإِما أنه فسَّر الآية بقوله: {إِنِّي}، كما فسر المَثَلَ في قوله: {كَمَثَلِ ءادَمَ} [آل عمران: 59] ووجْه قراءة الباقين البَدَلُ من {آية}؛ كأنه قال: وجئْتكم بِأَنِّي أخلْقُ، و{أَخْلُقُ}: معناه: أقدِّر وأهيئ بيَدِي.
* ص *: {كَهَيْئَةِ}: الهيئةُ: الشَّكْل والصُّورة، وهو مصدر: هَاءَ الشَّيْءُ يَهِيئ هَيْئَةً، وَهَيَّأَ، إِذا ترتَّب واستقر على حالٍ مَّا، وتعدِّيه بالتضْعيف، قال تعالى: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا} [الكهف: 16] اه.
وقرأ نافعٌ وحْده: {فَيَكُونُ طَائِراً}؛ بالإِفراد؛ أي: يكون طائراً من الطيورِ، وقرأ الباقونَ: {فَيَكُونُ طَيْراً}؛ بالجمع؛ وكذلك في سورة المائدة والطير: اسمُ جمعٍ، وليس من أبنيةِ الجُمُوع، وإِنما البنَاءُ في جَمْعِ طائرٍ: أَطْيارٌ، وجَمْعُ الجَمْعِ: طُيُورٌ.
وقوله: {فَأَنفُخُ فِيهِ}، ذكَّر الضميرَ؛ لأنه يحتملُ أنْ يعود على الطِّينِ المهيِّئ، ويحتملُ أنْ يريد: فأنفُخُ في المذكور، وأنَّثَ الضميرَ في سورة المائدة؛ لأنه يحتمل أنْ يعود على الهيئة، أوْ على تأنيثِ لَفْظ الجَمَاعة، وكَوْنُ عيسى يخلُقُ بيده، وينفُخُ بِفِيهِ، إِنما هو ليبيِّن تلبُّسه بالمعجزةِ، وأنها جاءَتْ من قِبَلِهِ، وأمَّا الإِيجاد من العَدَمِ، وخَلْقُ الحياةِ في ذلك الطِّينِ، فمِنَ اللَّهِ تعالى وحده، لا شريك له.
ورُوِيَ في قَصَصٍ هذه الآية، أنَّ عيسى عليه السلام كانَ يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَيُّ الطَّيْرِ أَشَدُّ خِلْقَةً، وَأَصْعَبُ أنْ يحكى؟ فيَقُولُونَ: الخُفَّاشُ؛ لأَنَّهُ طَائِرٌ لاَ رِيشَ لَهُ، فَكَانَ يَصْنَعُ مِنَ الطِّينِ خَفَافِيشَ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهَا فَتَطِيرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَمُعَايَنَتِهِمْ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا سَاحِرٌ {أُبْرِئ} معناه: أزيلُ المَرَض، و{الأكمه}: هو الَّذِي يُولَدُ أعمى مضمومَ العَيْنَيْنِ؛ قاله ابن عَبَّاسٍ وقتادة،
قال * ع *: والأَكْمَهُ؛ في اللغة: هو الأعمى، وقد كان عيسى عليه السلام يبرئ بدعائِهِ، ومَسْحِ يدِهِ على كل عاهة، ولكنَّ الاحتجاج على بني إِسرائيل في معنى النبوَّة لا يقومُ إِلاَّ بالإِبراء من العِلَلِ التي لا يُبْرِئ منها طبيبٌ بوجْهٍ، ورُوِيَ في إِحيائه الموتى؛ أنه كان يَضْرِبُ بعَصَاهُ الميِّتَ، أو القَبْرَ، أو الجُمْجُمَةَ؛ فَيَحْيَى الإِنسانُ، ويكلِّمه بإِذن اللَّه، وفي قصص الإِحياء أحاديثُ كثيرةٌ لا يوقَفُ على صحَّتها، وآياتُ عيسى عليه السلام إِنما تَجْرِي فيما يُعَارِضُ الطِّبَّ؛ لأن علْمَ الطِّبِّ كان شَرَفَ النَّاس في ذلك الزَّمَان، وشُغْلَهُمْ، وحينئذ أُثِيرَتْ فيه العجائبُ، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائبَ لا تقتضيها الأمزجةُ وأصولُ الطِّبِّ؛ وذلك إِحياءُ الموتى، وإِبراء الأكْمَهِ والأَبْرَصِ، عَلِمَتِ الأطبَّاء؛ أن هذه القوَّة من عند اللَّه، وهذا كأمْرِ السَّحَرَةِ مع موسى، والفُصَحَاءِ مع نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، ووقع في التواريخِ المُتَرْجَمَة عن الأطبَّاء؛ أنَّ جَالِينُوسَ كانَ في زمنِ عيسى عليه السلام، وأنه رحَل إِلَيْهِ مِنْ رُومِيَّةَ إِلَى الشَّامِ، فَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ ذلك.
وقوله: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} قال مجاهدٌ وغيره: كان عيسى عليه السلام مِنْ لَدُنْ طفوليَّته، وهو في الكُتَّابِ، يخبرُ الصِّبْيان بما يفعل آباؤهم في منازِلِهِمْ، وبما يُؤْكَلُ من الطعامِ، ويُدَّخَرُ، وكذلك إلى أنْ نُبِّئى، فكان يقول لكلِّ من سأله عن هذا المعنى: أَكَلْتَ البارحةَ كَذَا، وادخرت كذا، وقال قتادةُ: معنَى الآية: إِنما هو في نزول المائدةِ علَيْهم، وذلك أنَّها لما نزلَتْ، أخذ عليهم عَهْدَ أنْ يَأْكُلُوا ولا يَخْبَأَ أَحدٌ شيئاً، ولا يدَّخره ولا يَحْمِله إلى بيته، فَخَانُوا، وجعلوا يُخَبِّئُون، فكان عيسى عليه السلام يُخْبِرُ كلَّ أحدٍ عمَّا أكل، وعمَّا ادخر في بَيْته من ذلك، وعوقبوا على ذلك.
وقوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}: تحذيرٌ، ودعاءٌ إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
وقوله: {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ}: إشارةٌ إلى قوله: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه}، لأن ألفاظه جمعتِ الإِيمان والطَّاعاتِ، والصِّرَاطُ: الطريقُ، والمُسْتَقِيم: الذي لا اعوجاج فيه.