فصل: تفسير الآيات (52- 54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (52- 54):

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}
وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} قبل هذه الآية محذوفٌ، به يتمُّ اتساق الآيات، تقديره: فجاء عيسى؛ كما بَشَّر اللَّه به، فقالَ جميعَ ما ذُكِرَ لبنِي إسرائيل، {فَلَمَّا أَحَسَّ}، ومعنى: {أَحَسَّ}: عَلِمَ من جهة الحَوَاسِّ بما سَمِعَ من أقوالهم في تكذيبه، ورأى من قرائن أحوالهم، وشدَّة عدَاوتِهِم، وإعراضهم، {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله} وقوله: {إِلَى الله}: يحتملُ معنيين:
أحدهما: مَنْ ينصرنِي فِي السَّبيل إلى اللَّه.
والثاني: أنْ يكون التقديرُ: مَنْ يضيفُ نُصْرته إلى نصرة اللَّهِ لِي، فإلى دَالَّة على الغاية في كِلاَ التقديرَيْن، وليس يُبَاحُ أنْ يُقَالَ: {إلى} بمعنى مع؛ كما غلط في ذلك بَعْضُ الفقهاءِ في تَأْويلِ قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} [المائدة: 6]، فقال: {إلى} بمعنى مَعَ، وهذه عُجْمَة.
والحواريُّون قَوْمٌ مرَّ بهم عيسى صلى الله عليه وسلم، فدَعَاهم إلى نصرِهِ واتباع ملَّته، فأجَابوه، وقَامُوا بذلك خَيْرَ قيامٍ، وصَبَرُوا في ذاتِ اللَّه، واختلف، لِمَ قِيلَ لهم حواريُّون؟ فقال ابنُ جُبَيْرٍ: لبياضِ ثيابِهِمْ، وقال أبو أرْطاةَ: لأنَّهم كانوا قَصَّارِينَ يَحُورُونَ الثِّياب، أيْ: يبيِّضونها، وقال قتادة: الحواريُّون: أصفياء الأنبياء الَّذِينَ تَصْلُحُ لهم الخلافةُ، وقال الضَّحَّاك نحوه،
قال * ع *: وهذا القولُ تقريرُ حالِ القومِ، وليس بتَفْسِيرِ اللَّفْظَة، وعلى هذا الحدِّ شبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابن عَمَّتِهِ بِهِمْ في قوله: وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ.
والأقوال الأَوَلُ هي تفسيرُ اللفظة؛ إذ هي من الحَوَر، وهو البَيَاضُ، حَوَّرْتُ الثَّوْبَ: بَيَّضْته؛ ومنْه الحُوَاري، وقد تسمِّي العرب النِّسَاءَ السَّاكِنَاتِ في الأمْصَارِ: الحَوَارِيَّاتِ؛ لغلبة البَيَاض علَيْهِنَّ؛ ومنه قولُ أبِي جِلْدَةَ اليَشْكُرِيِّ: [الطويل]
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا ** وَلاَ تَبْكِنَا إلاَّ الْكِلاَبُ النَّوَابِحُ

وقولُ الحواريِّين: {واشهد} يحتملُ أنْ يكون خطَاباً لعيسى عليه السلام، أي: اشهد لَنَا عنْدَ اللَّهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ خطَاباً للَّه تعالى؛ كقوله صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: «اللَّهُمَّ، اشهد»، وقولهم: {رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ} يريدون: الإنجيل، وآياتِ عيسى، {فاكتبنا مَعَ الشاهدين}، أي: في عِدَادِ مَنْ شهد بالحَقِّ مِنْ مؤمني الأمم، ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرِينَ بعيسى عليه السلام، فقال: {وَمَكَرُواْ}، يريدُ في تحيُّلهم في قتله بزعمهم فهذا هو مَكْرُهُمْ، فجازاهم اللَّه تعالى؛ بأنْ طرح شَبَهَ عيسى على أحد الحواريِّين؛ في قول الجمهور، أو على يهوديٍّ منهم كَانَ جَاسُوساً، وأعقبَ بَنِي إسرائيل مذلَّةً وهَوَاناً في الدُّنيا والآخرة، فهذه العُقُوبة هي التي سَمَّاها اللَّه تعالى مَكْراً في قوله: {وَمَكَرَ الله}، وذلك مَهْيَعٌ أنْ تسمَّى العقوبةُ باسم الذنب.
وقوله: {والله خَيْرُ الماكرين}: معناه: فاعلُ حقٍّ في ذلك، وذكر أبو القَاسِمِ القُشَيْرِيُّ في تحبيره، قال: سُئِلَ مَيْمُونٌ، أحسبه: ابن مِهْرَانَ؛ عن قولِهِ تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} فقال: تخليتُهُ إياهم، مع مَكْرهم هو مَكْرُهُ بهم. انتهى. ونحوه عن الجُنَيْدِ، قال الفَرَّاء: المَكْرُ من المخْلُوقِ الْخِبُّ والحِيلَة، ومِنَ الإله الاِسْتِدْرَاجُ، قال اللَّه تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] قال ابن عبَّاس: كُلَّما أحْدَثُوا خطيئةً، أحدثنا لَهُمْ نعمة. انتهى.

.تفسير الآيات (55- 58):

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ...} الاية: اختلف في هذا التِّوفِّي.
فقال الرَّبيع: هي وفاةُ نَوْمٍ، وقال الحَسَن وغيره: هو توفِّي قَبْضٍ وتَحْصِيلٍ، أي: قابضك منَ الأرْضِ، ومحصِّلك في السماءِ وقال ابنُ عبَّاس: هي وفاةُ مَوْتٍ، ونحوه لمالك في العَتَبِيَّة، وقال وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ: توفَّاه اللَّه بالمَوْتِ ثلاثَ ساعاتٍ، ورفعه فيها، ثُمَّ أحياه بعد ذلك، وقال الفَرَّاء: هي وفاةُ مَوْتٍ، ولكنَّ المعنى: إني متوفِّيك في آخر أمْرِكَ عنْد نزولِكَ وقَتْلِك الدَّجَّال، ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخير.
قال * ع *: وأجمعتِ الأمة على ما تضمَّنه الحديثُ المتواتر؛ منْ أنَّ عيسى عليه السلام في السَّمَاءِ حَيٌّ، وأنه يَنْزِلُ في آخِرِ الزَّمَانِ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيُفِيضُ العَدْلَ، وَيُظْهِرُ هَذِهِ المِلَّةَ مِلَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ ويَححُجُّ البَيْتَ ويَعْتَمِرُ، ويبقى في الأَرْضِ أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُمَيتُهُ اللَّهُ تعالى،
قال * ع *: فقول ابن عباس: هي وفاةُ مَوْتٍ لابد أنْ يتمِّم إما على قول وهْبِ بن مُنَبِّهٍ، وإما على قول الفَرَّاء.
وقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} عبارةٌ عَنْ نَقْلِهِ من سُفْلٍ إلى عُلْو، وإضافه اللَّه سبحانه إضافةُ تشريفٍ، وإلا فمعلومٌ أنه سبحانه غَيْرُ متحيِّزٍ في جهةٍ، {وَمُطَهِّرُكَ}، أي: مِنْ: دعاوى الكَفَرَةِ ومعاشَرَتِهِمْ.
وقوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} الآية: قال جمهورُ المفسِّرين بعموم اللفظ في المتَّبِعِينَ، فتدخُلُ في ذلك أمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مُتَّبِعَةٌ لعيسى؛ قاله قتادة وغيره؛ وكذلك قالوا بعموم اللفظِ في الكَافِرِينَ، فمقتضَى الآيَةِ إعلامُ عيسى عليه السلام؛ أنَّ أهْلَ الإيمانِ به، كما يجب، هم فوق الذين كَفَرُوا بالحُجَّة، والبُرْهَان، والعِزِّ والغَلَبَةِ، ويظْهَرُ منْ عبارة ابن جُرَيْج وغيره؛ أنَّ المراد المتبعون لَهُ في وقْتِ استنصاره، وهم الحواريُّون.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} خَطَابٌ لعيسى، والمرادُ: الإخبار بالقيامة، والحَشْرِ، وباقي الآيةِ بيِّن، وتوفيةُ الأجور هي قَسْم المَنَازِلِ في الجَنَّة، فذلك هو بحَسَب الأعمال، وأما نَفْسُ دخولِ الجَنَّةَ، فبرحْمَةِ اللَّه وتفضُّله سبحانه.
وقوله تعالى: {ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيات} الآية: {ذَلِكَ}: إشارة إلى ما تقدَّم من الأنباء، و{نَتْلُوهُ}: معناه: نَسْرُدُهُ، و{مِنَ الآيات}: ظاهره آيات القُرآن، ويحتملُ أنْ يريدَ: من المعجزاتِ والمُسْتَغْرَبَاتِ؛ أن تأتيهم بهذه الغُيُوبِ من قِبَلِنَا، وبسبَبِ تلاوتنا، و{الذكر}: ما ينزلُ من عند اللَّه. قال ابن عبَّاس: الذِّكْر: القرآن، و{الحكيم}: الذي قد كَمَل في حكمته.

.تفسير الآيات (59- 61):

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله...} الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: سبَبُ نزولها مُحَاجَّة نصارى نَجْرَانَ في أمر عيسى، وقولُهم: يا محمَّد، هل رأَيْتَ بَشَراً قَطُّ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، أَوْ سَمِعْتَ بِهِ، ومعنى الآية أنَّ المَثَلَ الذي تتصوَّره النفُوسُ والعقولُ من عيسى هو كَالمُتَصَوَّرِ من آدَمَ؛ إذ الناسُ مُجْمِعُونَ على أنَّ اللَّه تعالى خَلَقَهُ مِنْ ترابٍ من غير فَحْلٍ، وفي هذه الآية صحَّةُ القياس.
وقوله تعالى: {ثُمَّ قَالَ} ترتيبٌ للأخبار لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، المعنى: خَلَقَهُ من تُرَابٍ، ثم كان مِنْ أمره في الأزَلِ أنْ قال له: كُنْ وقْتَ كذا.
وقوله تعالى: {الحق مِن رَّبّكَ}، أي: هذا هو الحقُّ، و{الممترين}: هم الشاكُّونَ، ونُهِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في عبارةٍ اقتضت ذَمَّ الممترين؛ وهذا يدلُّ على أنَّ المراد بالامتراء غَيْرُهُ ونُهِيَ عن الامتراء، مع بُعْده عنه على جهة التثْبِيتِ والدَّوام على حاله.
وقوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ}، أي: في عيسى، ويحتملُ في الحقِّ، والعِلْمُ الذي أشير إلَيْه بالمجيء هو ما تضمَّنته هذه الآياتُ المتقدِّمة.
وقوله: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ}: استدعاءٌ للمُبَاهَلَة، و{تَعَالَوْاْ}: تَفَاعَلُوا؛ من العُلُوِّ، وهي كلمةٌ قُصِدَ بها أولاً تحسينُ الأدَب مع المدعوِّ، ثم اطردت؛ حتى يقولها الإنسان لعدُوِّه، وللبهيمةِ، و{نَبْتَهِلْ}: معناه: نَلْتَعِن، ويقال: عَلَيْهِمْ بهلة اللَّه، والابتهال: الجِدُّ في الدُّعاء بالبهلة، روى محمَّد بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ وغيره: «إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لما دَعَا نصارى نَجْرَانَ إلى المباهلة، قالوا: دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتِكَ بما نَفْعَلُ، فَذَهَبُوا إلَى العَاقِب، وهو ذُو رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عَبْدَ المَسِيحِ، مَا ترى، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النصارى، وَاللَّهِ، لَقَدْ عَرَفْتُمْ أنَّ محمَّداً النَّبيُّ المُرْسَلُ، ولَقَدْ جَاءَكُمْ بِالفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لاَعَنَ قَوْمٌ قَطُّ نَبِيًّا، فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلاَ نَبَتَ صَغِيرُهُمْ، وَأَنَّهُ الاستئصال إنْ فَعَلْتُمْ، فَإنْ أَبَيْتُمْ إلاَّ إلْفَ دِينِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عيْهِ مِنَ القَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ، فَوَادِعُوا الرَّجُلَ، وانصرفوا إلى بِلاَدِكُمْ؛ حتى يُرِيَكُمْ زمن رَأْيه، فَأْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا أَبَا القَاسِمِ، قَدْ رَأَيْنَا أَلاَّ نُلاَعِنَكَ، وَأَنْ نبقى على دِينِنَا، وَصَالَحُوهُ على أَمْوَالٍ، وَقَالُوا لَهُ: ابعث مَعَنَا رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا، يَحْكُم بَيْنَنَا فِي أَشْيَاء قَدِ اختلفنا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِنَا؛ فَإنَّكُمْ عِنْدَنَا رِضًى».
قال * ع *: وفي ترك النصارَى الملاعَنَةَ لعلمهم بنبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم شاهدٌ عظيمٌ على صحَّة نبوَّته صلى الله عليه وسلم عندهم، ودعاءُ النِّساء والأبناء أهَزُّ للنفوسِ، وأدعى لرحمة اللَّه للمُحِقِّين، أو لغضبه على المُبْطِلِينَ.

.تفسير الآيات (62- 64):

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}
وقوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} الآية: هذا خبرٌ من اللَّه تعالى، جزمٌ مؤكَّد، فَصَل به بين المختَصِمَيْن، والإشارةُ بهذا هي إلى ما تقدَّم في أمر عيسى عليه السلام، والقصص معناه الإخبار.
وقال * ص *: {إِنَّ هذا لَهُوَ}: هذا، إشارةً إلى القرآن. اهـ.
واختلف المفسِّرون من المُرَاد بأهْلِ الكِتَابِ هنا.
فروى قتادةُ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنهم يهودُ المدينَة.
وقال ابنُ زَيْدٍ وغيره: المرادُ نصارى نجران.
قال * ع *: والذي يظهر لي أنَّ الآية نزلَتْ في وَفْد نَجْرَان، لكن لفظُ الآية يعمُّهم، وسواهم من النصارى واليهود، وقد كتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّومِ، وكذا ينبغي أنْ يدعى بها أهل الكِتَابِ إلى يوم القيامة، والكلمةُ هنا؛ عند الجمهور: عبارةٌ عن الألفاظ التي تتضمَّن المعانِيَ المدعوَّ إليها، وهي ما فسر بعد ذلك، وهذا كما تسمِّي العربُ القصيدةَ {كَلِمَةً}، وقوله: {سَوَآءٍ} نعتٌ للكلمةِ، قال قتادةُ وغيره: معناه: إلى كلمةٍ عَدْلٍ، وفي مُصْحَف ابنِ مَسْعود: {إلى كلمةٍ عَدْلٍ}؛ كما فسر قتادة،
قال * ع *: والذي أقوله في لفظة {سَوَآء}: إنها ينبغي أنْ تفسَّر بتفسير خاصٍّ بها في هذا الموضِعِ، وهو أنه دعاهم إلى معانٍ، جميعُ الناسِ فيها مُسْتَوُونَ.
وقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} هو في موضعِ خفضٍ على البَدَلِ مِنْ {كَلِمَة}، أو في موضعِ رفعٍ؛ بمعنى هِيَ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّه، واتخاذُ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتبَ، أشدُّها: اعتقادهم الألوهيَّة، وعبادتهم لهم؛ كَعُزَيْرٍ، وعيسى، ومريمَ، وأدنى ذلك: طاعتهم لأساقفتهم في كلِّ ما أَمَرُوا بِهِ مِنَ الكُفْر والمعاصِي، والتزامهم طاعتهم شرعاً.
* م *: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}: أبو البقاءِ: تَوَلَّوْا: فعلٌ ماضٍ، ولا يجوزُ أنْ يكون التقديرُ: {تَتَوَلَّوا}؛ لفساد المعنى؛ لأنَّ قوله: {فَقُولُواْ اشهدوا} خطابٌ للمؤمنين، و{تَوَلَّوْاْ} للمشركينَ. اهـ.
وقوله: {فَقُولُوا اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: أمر بالإعلان بمخالفتهم، ومواجهتهم بذلك وإشهادهم؛ على معنى التوبيخ والتهديد.

.تفسير الآيات (65- 68):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}
وقوله تعالى: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم...} الآية: قال ابن عبَّاس وغيره: اجتمعت نصارى نَجْرَانَ، وأحبارُ يَهُودَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبارُ: ما كان إبراهيمُ إلاَّ يهوديًّا، وقالتِ النصارى: ما كان إبراهيمُ إلاَّ نصرانيًّا، فأنزل اللَّه الآية. ومعنى قوله تعالى: {فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ}، أي: على زعمكم، وفسَّر الطبريُّ هذا الموضع؛ بأنه فيما لهم به علْمٌ من جهة كتبهم، وأنبيائِهِمْ ممَّا أيقنوه، وثَبَتَتْ عندهم صحَّته،
قال * ع *: وذهب عنه رحمه الله؛ أنَّ ما كان هكذا، فلا يحتاجُ معهم فيه إلى محاجَّة؛ لأنهم يجدونه عند محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ كما كان هناك على حقيقته. قُلْتُ: وما قاله الطبريُّ أَبْيَنُ، وهو ظاهر الآية، ومن المعلومِ أن أكثر احتجاجاتهم إنَّما كانَتْ تعسُّفاً، وجَحْداً للحَقِّ.
وقوله تعالى: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا} الآية: أخبر اللَّه تعالى في هذه الآية عن حقيقة أمر إبراهيم عليه السلام، ونفى عنه اليهوديَّةَ والنصرانيَّةَ، والإشراكَ، ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكَّداً أن أَوْلَى النَّاسِ بإبراهيم هم القومُ الَّذين اتبعوه، فيدخلُ في ذلك كُلُّ من اتبع الحنيفيةَ في الفتَرَاتِ؛ و{هذا النبي}: يعنِي: محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعث بالحنيفيَّة السَّمْحة، و{الذين ءَامَنُواْ}: يعني: بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وسائرِ الأنبياء؛ على ما يجبُ ثم أخبر سبحانه؛ أنه وليُّ المؤمنين؛ وعداً منْهُ لهم بالنَّصْر في الدنيا والنعيم في الآخرة؛ روى عبدُ اللَّهِ بْنُ مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي وَخَلِيلُ رَبِّي إبْرَاهِيمُ»، ثِمَّ قَرَأَ: {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم...} الآية.

.تفسير الآيات (69- 71):

{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}
وقوله تعالى: {وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}، قال مَكِّيٌّ: قِيلَ: إن هذه الآية عُنِيَ بها قُرَيْظَةُ، والنَّضِيرُ، وبَنُو قَيْنُقَاع، ونصارى نَجْرَانَ.
* ص *: قوله تعالى: {وَدَّت طَّائِفَةٌ}: وَدَّ: بمعنى تمنى، ويستعملُ معها: أَنْ، ولَوْ، ورُبَّمَا جمع بينهما نَحْوُ: وَدِدتُّ أَنْ لَوْ فَعَلَ، ومصدره الوَدَادَةُ، والاسْم منه الوُدُّ، وبمعنى: أَحَبَّ، فيتعدى كتَعَدِّي أَحَبَّ، ومصدره: مَوَدَّة، والاسم منه وُدٌّ، وقد يتداخَلاَنِ في الاسم والمصدر اه.
وقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ}: إعلامٌ بأن سوء فعلهم عائدٌ عليهم، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالُّون، ثم أَعْلَمَ تعالى؛ أنهم لا يشعُرُونَ بذلك، أي: لا يتفطَّنون، ثم وقفهم تعالى موبِّخاً لهم على لسان نبيِّه، والمعنى: قُلْ لهم، يا محمَّدُ: لأيِّ سببٍ تكفرون بآياتِ اللَّه التي هي آياتُ القرآن، وأنتم تَشْهَدُونَ؛ أنَّ أمره وَصِفَةَ محمَّد في كتابكم؛ قال هذا المعنى قتادةُ وغيره.
ويحتملُ أنْ يريد بالآياتِ ما ظَهَرَ على يده صلى الله عليه وسلم من المعجزات.
قُلْتُ: ويحتملُ الجميع من الآيات المتلوَّة والمعجزات التي شَاهَدُوها منه صلى الله عليه وسلم.
وقال * ص *: {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}: جملةٌ حاليَّةٌ، ومفعول {تَشْهَدُونَ}: محذوفٌ، أي: أنها آيات اللَّه، أو ما يدلُّ على صحَّتها من كتابكم، أوْ بمثلها من آيات الأنبياء. اهـ.
وقوله: {لِمَ تَلْبِسُونَ}: معناه: تَخْلِطُونَ: تَقُولُ: لَبَسْتُ الأَمْرَ؛ بفتح الباءِ: بمعنى خَلَطْتُهُ؛ ومنه قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9].
وفي قوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} توقيفٌ علَى العنادِ ظاهرٌ.
وباقى الآية تقدَّم بيانه في سورة البقرة.