فصل: تفسير الآيات (193- 194):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (193- 194):

{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
وقوله سبحانه: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإيمان...} الآية: حكايةٌ عن أولي الألباب، قال أبو الدرداء: يرحم اللَّه المؤمنينَ؛ ما زالُوا يقولُونَ: رَبَّنَا رَبَّنَا، حتَّى استجيب لهم، قال ابنُ جُرَيْجٍ وغيره: المنادِي محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال محمَّد بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: المنادِي كتابُ اللَّهِ، وليس كلُّهم رَأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وسمعه، وقولهم: {مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ}، معناه: على أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ، وقولهم: {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد}: إشارةٌ إلى قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] فهذا وعده تعالى، وهو دالٌّ على أنَّ الخِزْيَ إنما هو مع الخلود.
قال * ص *: قال أبو البقاء: المِيعَادُ مصدَرٌ بمعنى الوَعْد. انتهى.

.تفسير الآيات (195- 198):

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}
وقوله سبحانه: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى...} الآية: استجاب بمعنى أَجَابَ، رُوِيَ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّجَالَ فِي الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الآيةُ. وهِيَ آية وعدٍ مِنَ اللَّه، أي: هذا فعلُهُ سبحانه مع الذي يَتَّصِفُونَ بما ذكر، قال الفَخْر: رُوِيَ عن جعفرٍ الصادِقِ؛ أنه قال: مَنْ حَزَبَهُ أمْرٌ فقال خَمْسَ مَرَّاتٍ: ربَّنا أنجاه اللَّه ممَّا يخاف، وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية؛ قَالَ: لأنَّ اللَّه تعالى حكى عنهم؛ أنهم قالوا: رَبَّنَا؛ خَمْسَ مرَّاتٍ، ثم أخبر أنه استجاب لَهُم. انتهى.
وقوله تعالى: {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ}، يعني: في الأجْرِ، وتقبُّلِ الأعمالِ، أي: أنَّ الرجَالَ والنساء في ذلك على حدٍّ واحدٍ، قال الفَخْر: قوله سبحانه: {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ}، أي: شِبْهُ بَعْضٍ، أو مثلُ بعضٍ، والمعنى: أنه لا تفاوُتَ في الثواب بَيْن الذَّكَر والأنثى؛ إذا استَوَوْا في الطَاعة؛ وهذا يدُلُّ على أن الفَضْل في باب الدِّين، إنما هو بالأعمال، لا بِسِرِّ صفاتِ العامِلِينَ؛ لأن كونهم ذكراً أو أنثى، أوْ مِنْ نَسَبٍ خسيسٍ أو شريفٍ لا تأثير له في هذا الباب. انتهى.
وبَيَّن سبحانه حَالَ المهاجِرِينَ، ثم الآيةُ بَعْدُ تنسحبُ على كلِّ مَنْ أُوذِيَ في اللَّه، وهاجر أيضًا إلى اللَّه إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: {وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم}: عبارةٌ فيها إلزامُ الذَّنْب للكفَّار، واللامُ في قوله: {لأَكَفّرَنَّ}: لامُ القَسَمِ، و{ثَوَاباً}: مصدرٌ موكِّد، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد...} الآية: نُزِّلَتْ: {لاَ يَغُرَّنَّكَ} في هذه الآيةِ مَنْزِلَةَ: لا تَظُنَّ؛ أنَّ حال الكُفَّار حسنةٌ، والخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد أمَّته، والتقلُّب: التصرُّف في التجاراتِ، والأرباحِ، والحُرُوب، وسائرِ الآمالِ؛ وقوله: {نُزُلاً}: معناه تَكْرِمَةً.
وقوله تعالى: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} يحتملُ أن يريد: خَيْرٌ مِمَّا هؤلاءِ فيه، من التقلُّب والتنعُّم، ويحتمل أنْ يريد: خَيْرٌ ممَّا هم فيه في الدُّنْيا، وفي الحديث عَنْه صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ» قال القاضِي ابْنُ الطَّيِّب: هذا بالإضافة إلى ما يصير إلَيْه كلُّ واحد منْهما في الآخرةِ، وقيل: المعنى أنها سِجْنُ المؤمن؛ لأنها موضعُ تَعَبِهِ في الطاعة.

.تفسير الآيات (199- 200):

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خاشعين للَّهِ}، قال جابر بن عبد اللَّه وغيره: هذه الآيةُ نَزَلَتْ بسبب أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ سُلْطَانِ الحبشة، آمن باللَّه، وبمحمَّد عليه السلام، وأَصْحَمَة: تفسيره بالعربيَّة: عَطِيَّة؛ قاله سفيان وغيره، وقال قومٌ: نزلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ، وقال ابنُ زَيْدٍ ومجاهدٌ: نَزَلَتْ في جميعِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب.
وقوله سبحانه: {لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً}: مدحٌ لهم، وذَمٌّ لسائر كفَّار أهل الكتاب؛ لتبديلهم وإيثارهم مكاسبَ الدُّنْيا على آخرتهم، وعلى آياتِ اللَّهِ سُبْحانه، ثم خَتَمَ اللَّه سُبْحانه السُّورة بهذه الوَصَاةِ التي جَمَعَتِ الظُّهورَ في الدنيا علَى الأعداء، والفَوْزَ بنعيمِ الآخرةِ، فحضَّ سبحانه على الصبْرِ على الطاعات، وعنِ الشهواتِ، وأَمَرَ بالمصابرةِ، فقيل: معناه مصابرةُ الأعداء؛ قاله زيدُ بْنُ أسلم، وقيل: معناه مصابَرَةَ وعْدِ اللَّهِ فِي النَّصْر؛ قاله محمدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، أي: لا تسأَمُوا وانتظروا الفَرَجَ، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: «انتظار الفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ». قال الفَخْر: والمصابرةُ عبارةٌ عن تحمُّل المكارِهِ الواقعة بَيْن الإنسان، وبَيْن الغَيْر. انتهى.
وقوله: {وَرَابِطُواْ}: معناه عند الجُمْهُور: رَابِطُوا أعداءكم الخَيْلَ، أي: ارتبطوها؛ كما يرتبطها أعداؤكم، قلْتُ: وروى مسلمٌ في صحيحه، عن سلمانَ، قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وإنْ مَاتَ جرى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفَتَّان»، وخَرَّجَ الترمذيُّ، عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ على عَمَلِهِ إلاَّ الَّذِي مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فإنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ»، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وخرَّجه أبو داود بمعناه، وقال: «ويُؤْمَنُ مِنْ فَتَّانِي القَبْرِ»، وخرَّجه ابنُ ماجة بإسناد صحيحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَجْرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وأجرى عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ، وَيَبْعَثُهُ اللَّهُ آمناً مِنَ الفَزَعَ»، وروى مسلم والبخاريُّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا» انتهى.
وجاء في فَضْل الرباطِ أحاديثُ كثيرةٌ يطُولُ ذكْرها.
قال صاحبُ التَّذْكرة: وروى أبيُّ بن كَعْب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ المُسْلِمِينَ مُحْتَسِباً مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمُ أجْراً مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ؛ صِيَامِهَا، وقِيَامِهَا، وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْظَمُ أَجْراً»
، أُرَاهُ قَالَ: «مِنْ عِبَادَةِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، صِيَامِهَا، وقِيَامِهَا...» الحديثَ ذكره القرطبيُّ مسنداً. انتهى.
والرباط: هو الملازمةُ في سَبيلِ اللَّهِ؛ أصلها مِنْ رَبَطَ الخَيْلَ، ثم سُمِّيَ كلُّ ملازمٍ لثَغْرٍ من ثُغُور الإسلام مرابطاً، فارساً كان أو راجلاً، واللفظةُ مأخوذةٌ من الرَّبْط، قلْتُ: قال الشيخُ زيْنُ الدينِ العِرَاقِيُّ في اختصاره لغريب القرآن؛ لأبي حَيَّان: معنى: رَابِطُوا: دُومُوا واثبتوا، ومتى ذكَرْتُ العِرَاقِيَّ، فمرادِي هذا الشيخُ. انتهى.
وروى ابنُ المبارك في رقائقه، أنَّ هذه الآيةَ: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}، إنما نزلَتْ في انتظار الصَّلاةِ خَلْفَ الصلاة؛ قاله أبو سَلَمَةَ بْنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ولم يكُنْ يومئذٍ عَدُوٌّ يرابَطُ فيه. انتهى.
وقوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: ترجٍّ في حقِّ البَشَر، والحمدُ للَّه حَقَّ حمده.

.سورة النساء:

مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح، وهي: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الآمانات إلى أهلها} الآية.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني قد بنى بها.

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
قوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ...} الآية: في الآية تنبيهٌ على الصانع، وعلى افتتاحِ الوجودِ، وفيها حضٌّ على التواصل لحرمةِ هذا النَّسَب، والمرادُ بالنَّفْس آدم صلى الله عليه وسلم، وقال: {واحدة}؛ على تأنيثِ لفظ النَّفْس، و{زَوجَهَا}، يعني: حَوَّاء، قال ابن عَبَّاس وغيره: خَلَق اللَّه آدم وَحِشاً في الجنة وحده، ثم نام، فانتزع اللَّهُ إحدى أضلاعه القصيرى مِنْ شِمَاله، وقيل: مِنْ يمينه، فَخَلَقَ منها حَوَّاء، ويَعْضُدُ هذا الحديثُ الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ...» الحديث، {وَبَثَّ}: معناه: نَشَرَ؛ كقوله تعالى: {كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] أي: المنتشر، وفي تكرير الأمر بالتقوى تأكيدٌ لنفوس المأمورِينَ، و{تَسَاءَلُونَ}: معْنَاه: تتعاطَفُون به، فيقول أحدكم: أسألكَ باللَّه، وقوله: {والأرحام}، أي: واتقوا الأرحَامَ، وقرأ حمزةُ {والأَرْحَامِ} بالخفض؛ عطفًا على الضميرِ؛ كقولهم: أسألك باللَّه وبالرَّحِمِ؛ قاله مجاهد وغيره.
قال * ع *: وهذه القراءةُ عند نحاة البَصْرة لا تَجُوز؛ لأنه لا يجوزُ عندهم أنْ يعطف ظَاهِرٌ على مضمرٍ مخفوضٍ إلا في ضرورة الشِّعْرِ؛ كقوله: [البسيط]
................. ** فاذهب فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ

لأن الضميرَ المخفوضَ لا ينفصلُ؛ فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرفٍ، واستسهلَ بعضُ النحاة هذه القراءة. انتهى كلام * ع *.
قال * ص *: والصحيحُ جوازُ العَطْف على الضميرِ المجرورِ من غير إعادة الجَارِّ؛ كمذهب الكوفيِّين، ولا تُرَدُّ القراءة المتواترةُ بمثل مذهب البصريِّين، قال: وقد أمعنَّا بالكلامَ عليه في قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] انتهى، وهو حسنٌ، ونحوه للإمام الفَخْر.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}: ضرْبٌ من الوعيدِ، قال المُحَاسِبِيُّ: سألتُ أبا جَعْفَرٍ محمدَ بْنَ موسى، فقلْتُ: أجمل حالاتِ العارفين ما هِيَ؟ فقال: إن الحال التي تَجْمَعُ لك الحالاتِ المَحْمُودةَ كلَّها في حالةٍ واحدةٍ هي المراقبةُ، فَألْزِمْ نفْسَكَ، وقَلْبَكَ دَوَامَ العِلْمِ بنَظَرِ اللَّه إليك؛ في حركَتِك، وسكونِكِ، وجميعِ أحوالِكِ؛ فإنَّك بعَيْنِ اللَّهِ عز وجل في جميعِ تقلُّباتك، وإنَّك في قبضته؛ حيث كُنْتَ، وإنَّ عين اللَّه على قلبك، ونَاظِرٌ إلى سِرِّك وعلانيتِكَ، فهذه الصفةُ، يا فتى، بحْرٌ ليس له شطٌّ، بَحْر تجري منْه السواقِي والأنهارُ، وتسيرُ فيه السُّفُن إلى معادِنِ الغنيمةِ. انتهى من كتاب القصد إلى اللَّه سبحانه.

.تفسير الآيات (2- 3):

{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}
وقوله سبحانه: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم...} قال ابنُ زَيْدٍ: هذه مخاطبةٌ لِمَنْ كانَتْ عادتُهُ من العَرَب ألاَّ يَرِثَ الصَّغيرُ من الأولاد، وقالتْ طائفة: هذه مخاطبةٌ للأوصياءِ.
قال ابنُ العَرَبِيِّ: وذلك عند الابتلاء والإرشاد. انتهى.
وقوله: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب}، قال ابن المسيِّب وغيره: هو ما كان يفعله بعضهم من إبدال الشاة السَّمينة مِنْ مال اليتيم بالهَزِيلة مِنْ ماله، والدِّرْهَمِ الطَّيِّبِ بالزِّائِفِ، وقيل: المراد: لا تأكلوا أموالهم خبيثًا، وتَدَعُوا أموالكم طيبًا، وقيل غيرُ هذا.
والطَّيِّب هنا: الحلالُ، والخَبِيثُ: الحرامُ.
وقوله: {إلى أموالكم}: التقدير: ولا تُضِيفُوا أموالهم إلى أموالكم في الأكْل، والضميرُ في {إنَّهُ}: عائدٌ على الأَكْلِ، والحُوبُ: الإثم؛ قاله ابن عباس وغيره؛ وتَحَوَّبَ الرَّجُلُ، إذا ألْقى الحُوبَ عن نَفْسه، وكذلك تَحَنَّثَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَرَّجَ؛ فَإن هذه الأربعة بخلافِ {تَفَعَّلَ} كلِّه؛ لأنَّ {تَفَعَّلَ} معناه: الدُّخُول في الشَّيْء؛ ك تَعَبَّد، وتَكَسَّبَ، وما أشبهه؛ ويلحق بهذه الأربعةِ {تَفَكَّهُونَ} في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حطاما فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] أيْ: تُطَرِّحُونَ الفَكَاهَة عَنْ أنفسكم.
وقوله تعالى: {كَبِيراً}: نصٌّ على أنَّ أكل مال اليتيم مِنَ الكَبَائر.
وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى...} الآية: قال أبو عُبَيْدَةِ: خِفْتُم هاهنا بمعنى أيْقَنْتُمْ.
قال * ع *: وما قاله غيرُ صحيحٍ، ولا يكون الخَوْفُ بمعنى اليَقِينِ بوجْهٍ، وإنما هو من أَفْعَالِ التوقُّع، إلاَّ أنه قد يَمِيلُ فيه الظنُّ إلى إحدى الجِهَتَيْنِ؛ قُلْتُ: وكذا رَدَّ الدَّاوُودِيُّ على أبي عْبَيْدة، ولفظه: وعن أبي عُبَيْدة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ}: مجازه: أيْقَنْتُمْ، قال أبو جعفر: بل هو على ظَاهِرِ الكلمةِ. انتهى.
و{تُقْسِطُواْ}: معناه: تَعْدِلُوا؛ يقال: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إذا عَدَلَ، وقَسَطَ إذا جَار؛ قالتْ عائشةُ رضي اللَّه عنها: نزَلَتْ هذه الآيةُ في أولياء اليتامَى الَّذِينَ يُعْجِبُهم جمالُ وليَّاتهم، فيريدُونَ أنْ يبخَسُوهُنَّ في المَهْر؛ لمكانِ وَلاَيَتِهِمْ عَلَيْهِنَّ، فقيل لهم: اقسطوا في مهورِهِنَّ، فمَنْ خَافَ ألاَّ يُقْسطَ، فليتزوَّج ما طَابَ له مِنَ الأجنبيَّات اللَّوَاتِي يُكَايِسْنَ في حقوقِهِنَّ، وقاله ربيعة.
قال الحسَنُ وغيره: {مَا طَابَ}: معناه ما حلَّ.
وقيلَ: {ما} ظرفيةٌ، أي: ما دُمْتُم تستحسنُون النِّكَاحَ، وضُعِّفَ؛ قُلْتُ: وفي تضعيفه نَظَرٌ، فتأمَّله.
قال الإمام الفَخْر: وفي تفسير {مَا طَابَ} بِما حَلَّ نَظَرٌ؛ وذلك أنَّ قوله تعالى: {فانكحوا}: أمْرُ إباحةٍ، فلو كان المرادُ بقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ}، أي: ما حَلَّ لكم لتنزَّلت الآية منزلةَ ما يُقَالُ: أبَحْنَا لكم نِكَاحَ مَنْ يكون نكاحُها مباحاً لكم، وذلك يُخْرِجُ الآيةَ عن الفائدةِ، ويصيِّرها مُجْمَلَةً لا محالةَ، أما إذا حَمَلْنا {طَابَ} على استطابةِ النَّفْسِ، ومَيْلِ القلبِ، كانَتِ الآيةُ عامَّة دخَلَها التخْصيصُ، وقد ثَبَتَ في أصول الفقْهِ؛ أنه إذا وقع التعارُضُ بَيْن الإجمال والتَّخْصِيص، كان رَفْع الإجمال أولى؛ لأنَّ العامَّ المخصَّص حُجَّةٌ في غَيْر محلِّ التخصيص، والمُجْمَلُ لا يكونُ حُجَّةً أصلاً.
انتهى، وهو حَسَنٌ، و{مثنى وثلاث وَرُبَاعَ}: موضعها من الإعراب نَصْبٌ على البدل من {مَا طَابَ}، وهي نكراتٌ لا تنصرفُ؛ لأنها معدولةٌ وصِفَة.
وقوله: {فواحدة}، أي: فانكحوا واحدةً أو ما ملَكَتْ أيْمَانُكُم، يريد به الإماءَ، والمعنى: إنْ خَافَ ألاَّ يَعْدِلَ في عِشْرةٍ واحدةٍ، فما ملكت يمينه، وأسند المِلْكَ إلى اليمين؛ إذ هي صفةُ مَدْحٍ، واليمينُ مخصوصةٌ بالمحاسِنِ؛ أَلاَ ترى أنَّها المُنْفِقَة؛ كما قال عليه السلام: «حتى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»، وهي المعاهِدَةُ المُبَايِعَة.
قال ابن العَرَبِيِّ: قال علماؤُنَا: وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ مِلْكَ اليمينِ لا حَقَّ له في الوَطْءِ والقَسْمِ؛ لأنَّ المعنى: فَإنْ خفتم ألاَّ تعدِلُوا في القَسْم، فواحدةٌ، أو ما مَلَكَتْ أيمانكم، فجعل سبحانه مِلْكَ اليمينِ كلَّه بمنزلةِ الوَاحِدَة، فانتفى بذلك أنْ يكون للأَمَةِ حَقٌّ في وَطْءٍ أوْ قَسْم. انتهى من الأحكام.
وقوله: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ}، أدنى: معناه: أقرب ألاَّ تعولُوا، أيْ: ألاَّ تميلوا، قاله ابن عباس وغيره، وقالَتْ فرقة: معناه: أدنى ألاَّ يكثر عِيَالُكُمْ، وقَدَحَ في هذا الزَّجَّاج وغيره.