فصل: تفسير الآيات (24- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (24- 25):

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
وقوله تعالى: {والمحصنات} عطْفاً على المُحَرَّمَاتِ، قيل: والتحصُّن التمنُّع، ومنه الحِصْن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه مِنْ وُجُوه الاِمتناعِ، وأَحْصَنَتْ نَفْسَهَا، وأَحْصَنَهَا غيْرُها، والإحْصَانُ تستعمله العَرَبُ في أربعةِ أشياءَ، وعلى ذلك تصرَّفَتِ اللفظة في كتاب اللَّهِ عزَّ وجلَّ: فتستعملُهُ في الزَّوَاجِ؛ لأنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ منعة وحفظ، وتستعمله في الحرِّيَّة؛ لأنَّ الإماء كان عُرْفُهُنَّ في الجاهليَّة الزِّنَا، والحُرَّةُ بخلافِ ذلك؛ ألا ترى إلى قول هندٍ: وهَلْ تَزْنِي الحُرَّةُ، وتستعمله في الإسلام؛ لأنه حافظٌ، وتستعمله في العِفَّة؛ لأنها إذا ارتبط بها إنسانٌ، وظهرَتْ على شَخْصٍ مَّا، وتخلَّق بها، فهي مَنَعَةٌ وحفْظٌ.
وحيثما وقعتِ اللفظة في القرآن، فلا تجدُها تخرُجُ عن هذه المعانِي، لكنَّها قد تقوى فيها بعضُ هذه المعانِي دُونَ بَعْض؛ كما سيأتي بيانُهُ في أماكنه إن شاء اللَّه.
فقوله سبحانه في هذه الآية: {والمحصنات} قال فيه ابنُ عَبَّاس وغيره: هنَّ ذواتُ الأزواجِ، محرَّماتٌ إلاَّ ما ملكَتِ اليمينُ بِالسَّبْيِ، ورُوِيَ عن ابنِ شِهَابٍ؛ أنه سُئِلَ عن هذه الآية: {والمحصنات مِنَ النساء}، فقال: نرى أنه حَرَّم في هذه الآية ذَوَاتِ الأزواجِ، والعَفَائِفَ مِنْ حَرَائِرَ ومملوكاتٍ، ولم يحلَّ شيءٌ من ذلك إلاَّ بنكاحٍ، أو شراءٍ، أو تملُّك، وهذا قولٌ حَسَنٌ عَمَّم لفظَ الإحصانِ، ولَفْظَ ملكِ اليمين، وذلك راجعٌ إلى أنَّ اللَّه حَرَّم الزنا، قال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وغيره: قوله سبحانه: {كتاب الله عَلَيْكُمْ}: إشارةٌ إلى ما ثبت من القرآن من قوله سبحانه: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} [النساء: 3]؛ وفي هذا بُعْدٌ، والأظْهَرُ أنَّ قوله: {كتاب الله عَلَيْكُمْ}، إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجِزِ بَيْنَ الناسِ، وبَيْنَ ما كانَتِ الجاهليةُ تفعله.
قال الفَخْر: و{كتاب الله عَلَيْكُمْ}: مصْدَرٌ من غير لفظ الفَعْلِ، قال الزَّجَّاج: ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْصُوباً على جهة الأَمْرِ، ويكون {عَلَيْكُمْ} خبراً له، فيكون المعنَى: الزموا كتابَ اللَّهِ. انتهى.
وفي التمهيد لأبي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ: {كتاب الله عَلَيْكُمْ}: أي: حكمه فيكُمْ وقضاؤُه عليكم. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}، قال عطاء وغيره: المعنى: وأُحِلَّ لكم ما وراء مَنْ حُرِّم، قلْتُ: أي: على ما عُلِمَ تفصيله مِنَ الشريعة.
قال * ع *: و{أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم}: لفظٌ يجمع التزوُّجَ والشراءَ، و{مُّحْصِنِينَ}: معناه: متعفِّفين، أي: تُحْصِنُونَ أنفسكم بذلك، {غَيْرَ مسافحين}، أي: غَيْرَ زُنَاةٍ، والسِّفَاحُ: الزنا.
وقوله سبحانه: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، قال ابن عَبَّاس وغيره: المعنى: فإذا استمتعتم بالزوْجَة، ووَقَعَ الوطْء، ولو مرَّةً، فقد وجَب إعطاء الأجْرِ، وهو المهر كلُّه، وقال ابنُ عَبَّاس أيضاً وغيره: إن الآية نزلَتْ في نكاح المُتْعة، قال ابنُ المُسَيَّب: ثم نُسِختْ.
قال * ع *: وقد كانَتِ المتعةُ في صَدْرِ الإسلامِ، ثم نهى عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ}، أي: مِنْ حَطٍّ أو تأخيرٍ بعد استقرار الفَريضَةِ، ومَنْ قال بأنَّ الآية المتقدِّمة في المُتْعَة، قال: الإشارةُ بهذه إلى أنَّ ما تراضَيَا علَيْه من زيادةٍ في مُدَّة المُتْعةِ، وزيادةٍ في الأجْرِ جائزٌ.
وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً...} الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الطَّوْل هنا: السَّعَة في المالِ؛ وقاله مالِكٌ في المُدَوَّنة، فعلى هذا التأويلِ لا يصحُّ للحُرِّ أنْ يتزوَّج الأَمَةَ إلاَّ باجتماع شرطَيْنِ: عَدَمِ السَّعَةِ في المالِ، وخَوْفِ العَنَتِ، وهذا هو نصُّ مالك في المدوَّنة.
قال مالك في المُدَوَّنة: «ولَيْسَتِ الحُرَّة تحته بِطَوْل، إنْ خَشِيَ العَنَتَ»، وقال في كتاب محمَّد ما يقتضِي أنَّ الحُرَّة بمثابة الطَّوْل.
قال الشيخُ أبو الحَسَن اللَّخْمِيُّ: وهو ظاهرُ القرآن، ونحوه عنِ ابْنِ حَبيبٍ.
وقال أبو حنيفة: وجودُ الحُرَّة تحته لا يَجُوزُ معه نكاحُ الأَمَةِ؛ وقاله الطَّبَرِيُّ، وتقولُ: طَالَ الرَّجُلُ طَوْلاً بفتح الطاء؛ إذا تفضَّل، ووَجَدَ، واتسع، وطُولاً بضمها: في ضِدِّ القِصَر، و{المحصنات} في هذا الموضع: الحرائرُ والفتاةُ، وإن كَانَتْ في اللغة واقعةً على الشَّابَّة، أَيَّةً كانَتْ، فعرفُها في الإماء، وفَتًى كذلك، و{المؤمنات}؛ في هذا الموضع: صفةٌ مشترطةٌ عند مالك، وجمهور أصحابه، فلا يجوزُ نكاحُ أمةٍ كافرةٍ عندهم؛ قُلْتُ: والعلَّة في مَنْعِ نكاحِ الأَمَةِ ما يؤولُ إلَيه الحالُ من استرقاق الولد.
وقوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بإيمانكم بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ}، ومعناه: واللَّهُ أعلمُ ببَوَاطِنِ الأمور، ولكم ظواهرُها، فإذا كانَتِ الفتاةُ ظاهِرُها الإيمانُ، فنكاحها صحيحٌ، وفي اللفظ أيضاً: تنبيهٌ على أنهُ ربَّما كان إيمانُ أَمَةٍ أَفْضَلَ مِنْ إيمانِ بعضِ الحرائرِ، فلا تَعْجَبُوا بمعْنَى الحُرِّيَّة، والمَقْصِدُ بهذا الكلامِ أنَّ الناس سواءٌ، بَنُو الحرائرِ، وبَنُو الإمَاءِ، أكرمهم عنْدَ اللَّهِ أتقاهُمْ، وفي هذا توطئَةٌ لنفوسِ العَرَبِ التي كانَتْ تَسْتَهْجِنُ ولَدَ الأَمَةِ.
وقوله تعالى: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، معناه: بولايةِ أربابِهِنَّ المالكين، {وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، أي: مُهُورَهُنَّ، {بالمعروف}: معناه: بالشَّرْع والسُّنَّة، و{محصنات}: الظاهرُ أنه بمعنى عفيفاتٍ.
قال * ص *: مُحْصَنَاتٍ: منصوبٌ على الحَالِ، والظَّاهِرُ أنَّ العَامِلَ وآتُوهُنَّ، ويجوزُ أَنْ يَكُونَ العامِلُ: فانكحوهن مُحْصَنَاتٍ، أي: عفائفَ. انتهى.
والمسافِحَاتُ: الزوانِي المتبذِّلاتُ اللَّوَاتِي هُنَّ سُوقٌ للزِّنا، ومتَّخِذَاتُ الأخدانِ هنَّ المُسْتَتِرَاتُ اللواتِي يصحبن واحداً واحداً، ويَزْنينَ خفيةً، وهذان كانا نَوْعَيْن في زنا الجاهليَّة؛ قاله ابنُ عبَّاس وغيره.
وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ...} الآية، أي: تزوَّجْن، قال الزُّهْرِيُّ وغيره: فالمتزوِّجة محدودةٌ بالقرآن، والمُسْلِمَةُ غير المتزوِّجة محدودةٌ بالحديث، وفي مسلمٍ والبخاريُّ، «أنه قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الأَمَةُ إذَا زَنَتْ، ولَمْ تُحْصَنْ»؟ فأوْجَبَ علَيْها الحدَّ والفاحشة، هنا الزِّنا.
قال * ص *: وجوابُ: إذَا: {فإنْ أتَيْنَ}، وجوابه. انتهى.
و{المحصنات} في هذه الآية: الحَرَائِرُ؛ إذ هي الصفَةُ المَشْرُوطة في الحدِّ الكامِلِ، والرَّجْمُ لا يتنصَّف، فلم يُرَدْ في الآية بإجماع، والعَنَتُ في اللغة: المَشَقَّة.
قال ابنُ عباسٍ وغيره: والمَقْصِدُ به هنا الزنا.
وقوله تعالى: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني: عَنْ نكاحِ الإماء؛ قاله ابنُ عَبَّاس وغيره: وهذا نَدْبٌ إلى التَّرْك؛ وعِلَّتُهُ مَا يؤَدِّي إلَيْه نكاحُ الإِماءِ مِن استرقاق الوَلَدِ ومِهْنَتِهنَّ.

.تفسير الآيات (26- 28):

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}
وقوله تعالى: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ...} الآية: التقديرُ عندَ سيبَوَيْهِ: يريد اللَّهُ لأنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ، ويَهْدِيَكُمْ، بمعنى: يُرْشِدَكُمْ، والسُّنَنُ: الطُّرُقُ، ووجوهُ الأمورِ، وأَنحاؤُها، والَّذِينَ مِنْ قبلنا: هم المؤمِنُونَ مِنْ كُلِّ شريعةٍ.
وقوله سبحانه: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ...} الآية: مَقْصِدُ هذه الآيةِ الإخبارُ عن إرَادَة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، فقُدِّمَتْ إرادةُ اللَّه تعالى تَوْطِئَةً مُظْهِرة لفسَادِ إرادة مُتَّبِعِي الشهواتِ، واختلف المتأوِّلون في تَعْيينِ مُتَّبِعِي الشَّهَوَات، فقال مجاهدٌ: هم الزناةُ، وقال السُّدِّيُّ: هم اليهودُ والنصارى، وقالَتْ فرقة: هم اليهودُ خاصَّة؛ لأنَّهم أرادوا أنْ يتبعهم المُسْلِمُونَ في نِكَاحِ الأَخَوَاتِ مِنَ الأب، وقال ابنُ زَيْد: ذلك على العمومِ في هؤلاءِ، وفي كُلِّ متَّبعِ شهوةٍ؛ ورجَّحه الطبريُّ.
وقوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ...} الآية: أي: لَمَّا علمنا ضَعْفَكُمْ عَنِ الصَّبْر عن النِّساء، خَفَّفنا عَنْكم بإباحة الإماء، قاله مجاهدٌ وغَيْره، وهو ظاهرُ مقصودِ الآيةِ، ثم بَعْدَ هذا المَقْصِدِ تَخْرُجُ الآية مَخْرَجَ التفضُّلِ؛ لأنها تتناوَلُ كُلَّ ما خفَّفه اللَّه سبحانَهُ عَنْ عباده، وجعله الدِّينَ يُسْراً، ويقع الإخبار عن ضَعْف الإنْسَان عامًّا؛ حَسْبَما هو في نَفْسه ضعيفٌ يستَمِيلُهُ هواه في الأغْلَب.

.تفسير الآيات (29- 31):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة...} الآية: الاستثناء منقطعٌ، المعنى: لكنْ إنْ كانَتْ تجارةً، فكُلُوها، وأخْرَجَ البخاريُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللَّه» انتهى.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}، أجمع المتأوِّلون على أنَّ المقصودَ بهذه الآية النهْيُ عن أنْ يقتُلَ بعْضُ الناسِ بَعْضاً، ثم لفظها يتناوَلُ أنْ يقتل الرجُلُ نَفْسَهُ بقَصْدٍ منه للقتل، أو بأنْ يحملها على غَرَرٍ، رُبَّمَا ماتَ مِنْهُ، فهذا كلُّه يتناوله النَّهْيُ، وقد احتج عمرو بن العاصي بهذه الآيةِ حين امتنع مِنَ الاغتسال بالمَاءِ الباردِ؛ خَوْفاً على نَفْسِهِ منه، فقرَّر رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احتجاجَهُ.
وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً...} الآية: اختلف في المُشَارِ إلَيْه ب {ذَلِكَ}.
فقال عطاء: {ذَلِكَ} عائدٌ على القَتْل؛ لأنه أقربْ مَذْكُور، وقالتْ فرقةٌ: {ذلك} عائدٌ على أَكْلِ المالِ بالباطِلِ، وقَتْلِ النَّفْسِ، وقالَتْ فرقةٌ: {ذَلِكَ}: عائدٌ على كُلِّ ما نُهِيَ عَنْه مِنْ أوَّل السورةِ، وقال الطبريُّ: {ذَلِكَ} عائدٌ على ما نُهِيَ عنه مِنْ آخر وعيدٍ، وذلك قولُهُ تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} [النساء: 19]؛ لأنَّ كلَّ ما نهي عنه قبله إلى أول السُّورة، قُرِنَ به وعيدٌ.
قال ابنُ العَرَبيِّ في أحكامه والقول الأول أصحُّ، وما عداه محتملٌ. انتهى.
والعدوانُ: تَجَاوُزُ الحَدِّ،
قال * ص *: {عُدْوَاناً وظُلْماً}: مصدرانِ في مَوْضِعِ الحال، أي: معتدِّين وظالِمِينَ، أبو البقاء: أو مفعولٌ من أجله. انتهى.
واختلف العلماءُ في الكبائِرِ.
فقال ابنُ عبَّاس وغيره: الكبائرُ: كلُّ ما وَرَدَ علَيْه وعيدٌ بنارٍ، أو عذابٍ، أو لَعْنَةٍ، أو ما أشبه ذلك.
وقال ابن عبَّاس أيضاً: كلُّ ما نَهَى اللَّه عنه، فَهُوَ كَبِيرٌ، وعلَى هذا القول أئمَّة الكلامِ؛ القاضِي، وأبو المَعَالِي، وغَيْرُهما؛ قالوا: وإِنما قيل: صغيرةٌ؛ بالإِضافة إِلَى أكبر منها، وإِلاَّ فهي في نفسها كبيرةٌ؛ منْ حيْثُ المَعْصِيُّ بالجميع واحدٌ، واختلف العلماءُ في هذه المسألة، فجماعةٌ من الفقهاءِ والمحدِّثين يَرَوْنَ أنَّ باجتنابِ الكبَائرِ تُكَفَّر الصغائرُ قطْعاً، وأما الأصوليُّون، فقَالُوا: مَحْمَلُ ذلك علَى غَلَبة الظَّنَّ، وقُوَّةِ الرجاءِ، لا علَى القَطْع، ومَحْمَلُ الكبائرِ عند الأصوليِّين في هذه الآيةِ أجناسُ الكُفْر، والآيةُ التي قَيَّدت الحُكْمَِ، فتردُّ إِلَيْها هذه المُطْلَقات كلُّها: قوله تعالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48 و116].
و{كَرِيماً}: يقتضي كَرَمَ الفضيلةِ، ونَفْيَ العيوب؛ كما تقول: ثَوْبٌ كريمٌ، وهذه آية رجاء، ورَوى أبو حاتم الْبُسْتِيُّ في المُسْنَدِ الصَّحِيح له، عن أبي هريرةَ وأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ علَى المِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه»، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثم سَكَتَ، فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَبْكِي حَزِيناً لِيَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤَدِّي الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَجْتَنِبُ الكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمانِيَةُ أَبْوَابِ مِنَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى إِنَّها لَتُصَفِّقُ، ثُمَّ تَلاَ: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...} الآية» انتهى من التذكرة للقرطبيِّ، ونحوُهُ ما رواه مُسْلِمٌ، عن أبي هريرةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةَ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ»؛ قال القرطبيُّ: وعلَى هذا جماعةُ أهل التأويل، وجماعةُ الفقهاءِ، وهو الصحيحُ؛ أنَّ الصغائر تُكَفَّرُ باجتنابِ الكبائرِ قَطْعاً بِوَعْدِ اللَّهِ الصِّدْق، وقولِهِ الحَقِّ سبحانه، وأما الكَبَائِرُ، فلا تكفِّرها إِلا التوبةُ منْهَا. انتهى.
قلْتُ: وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه؛ أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ» انتهى.

.تفسير الآيات (32- 33):

{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}
وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ...} الآية: سَبَبُ الآيةِ أنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ: لَيْتَنَا اسْتَوَيْنَا مَعَ الرِّجالِ في المِيرَاثِ، وشَارَكْنَاهُمْ في الغَزْوِ، ورُوِيَ أنَّ أمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ ذَلِكَ، أو نحوه، وقال الرِّجَالُ: لَيْتَ لَنَا فِي الآخِرَةِ حَظّاً زَائِداً عَلَى النِّسَاءِ؛ كَمَا لَنَا عَلَيْهِنَّ فِي الدُّنْيَا، فنزلَتِ الآية.
قال * ع *: لأنَّ في تَمَنِّيهم هذا تحكُّماً على الشِّريعة وتطرُّقاً إِلى الدَّفْع في صَدْر حَكْم اللَّه تعالَى، فهذا نَهْيٌ عن كُلِّ تَمَنٍّ بخلاف حُكْم شرعيٍّ، وأما التمنِّي في الأعمال الصَّالحة، فذلك هو الحَسَن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وَدِدتُّ أنَ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا...» الحديث. وفي غير موضعٍ؛ ولقوله تعالَى: {وَسْأَلُواْ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32]. قال القُشَيْرِيُّ: سمعْتُ الشيخ أبا عَلِيٍّ يقولُ: مِنْ علاَمَاتِ المَعْرفة أَلاَّ تسأل حوائجَكَ، قَلَّتْ أَوَ كَثُرَتْ إِلاَّ مِنَ اللَّهِ تعالَى مِثْلُ موسَى اشتاق إِلَى الرُّؤْية، فقال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، واحتاج مرَّةً إِلى رغيفٍ، فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] انتهى من التحبير.
وقوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ...} الآية: قالَتْ فرقة: معناه: من الأجْر، والحسناتِ، فكأنه قِيلَ للنَّاس: لا تَتَمَنَّوْا في أمرٍ مخالفٍ لما اللَّه بِهِ؛ لاختيارٍ تَرَوْنَهُ أَنْتُمْ، فإِن اللَّه تعالَى قَدْ جَعَلَ لكلِّ أحدٍ نصيباً من الأجْر والفَضْلِ بحَسَب اكتسابِهِ فيما شَرَعَ لَهُ، وهذا قولٌ حَسَن، وفي تعليقه سبحانه النَّصِيبَ بالاِكتسابِ حَضٌّ علَى العَمَل، وتنبيهٌ على كَسْب الخَيْر.
وقوله سبحانه: {وَسْأَلُواْ الله مِن فَضْلِهِ}، قال ابنُ جُبَيْر وغيره: هذا في فَضْل العباداتِ، والدِّينِ، لا في فضل الدنيا، وقال الجُمْهُور: ذلك على العمومِ، وهو الذي يقتضيه اللفظ، فقوله: {وَسْأَلُواْ الله} يقتضي مفْعولاً ثانياً، تقديره: واسألوا اللَّهَ الجَنَّة أو كثيراً من فضله.
وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ...} أي: ولكلِّ أحدٍ، قال ابنُ عَبَّاس وغيرهِ، المَوَالِي هنا العَصَبَةُ والوَرَثَةُ، والمعنَى: ولكلِّ أحدٍ جعلْنا موالِيَ يَرِثُونَ ممَّا تَرَكَ الوالدان والأقربُونَ.
وقوله تعالى: {والذين} رفْعٌ بالاِبتداءِ، والخَبَرُ في قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.
واختُلِفَ من المراد ب {الَّذِينَ}.
فقال الحسن وابنُ عبَّاس وابنُ جُبَيْر وغيرهم: هم الأحْلاَفُ، فإِنَّ العرب كانَتْ تتوارَثُ بالحِلْفِ، ثم نُسِخَتْ بآيَات الأنْفَالِ: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].
وقال ابنُ عباس أيضاً: هم الذين كَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخَى بينهم، كانوا يتوارَثُونَ بهذه الآيةِ؛ حتى نُسِخَ ذلك بما تقدَّم.
وقال ابنُ المسيَّب: هم الذين كانوا يُتَبَنَّوْن.
قال * ع *: ولفظةُ المُعَاقَدَةِ والأَيْمَانِ ترجِّح أنَّ المراد الأَحْلاَفُ.