فصل: تفسير الآية رقم (43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (43):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ...} الآية: نزَلَتْ قبل تحريم الخَمْر، وجمهورُ المفسِّرين على أن المراد سُكْر الخَمْر إلاَّ الضَّحَّاك، فإنه قال: المُرَادُ سُكْر النَّوْمِ، وهذا قولٌ ضعيفٌ، والمرادُ ب {الصَّلاة} هنا الصلاةُ المعروفةُ.
وقالَتْ طائفةٌ: الصلاة هنا المرادُ بها مَوْضِعُ الصلاةِ، والصلاةُ معاً.
قال ابنُ العربيِّ في الأحكام: ورُوِيَ في سبب نزولِ هذه الآيةِ عن عَلِيٍّ رضي اللَّه عنه؛ أنه قَالَ: صَنَعَ لنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَاماً، فَدَعَانَا، وسَقَانَا مِنَ الخَمْرِ يَعْنِي: وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا قَالَ: فَأَخَذَتِ الخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَقَدَّمُونِي، فَقَرَأْتُ: {قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَّعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} قَال: فَأَنزَلَ الله تَعَالَى {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ...} الآية: خرَّجه الترمذيُّ وصحَّحه. انتهى.
وقوله: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}، قال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي اللَّه عنه وغيره: عَابِرُ السَّبِيلِ: المُسَافِرُ.
وقال ابنُ مسعودٍ وغيره: عابر السَّبيل هنا: الخَاطِرُ في المَسْجِد، وعَابِرُ سَبِيلٍ هو مِنَ العبور، أي: الخطور والجَوَازُ، والمريضُ المذكورُ في الآية هو الحَضَرِيُّ، وأصل الغائِطِ ما انخفض مِنَ الأرض، ثم كَثُر استعماله في قضاء الحَاجَةِ.
واللَّمْسُ في اللغةِ لَفْظٌ يقعُ لِلَّمْسِ الَّذي هو الجِمَاعُ، ولِلَّمْسِ الذي هو جَسُّ اليدِ والقُبْلَةُ ونَحْوُهُ، واختلف في موقِعِهَا هنا، فمالكٌ رحمه اللَّه يقولُ: اللفظةُ هنا تقتضِي الوَجْهَيْنِ، فالملامِسُ بالجِمَاعِ يتيمَّم، والملامِسُ باليد يتيمَّم، ومعنى قوله سبحانه: {فَتَيَمَّمُواْ}: اقصدوا، والصَّعِيدُ؛ في اللغة: وَجْه الأرضِ؛ قاله الخَلِيلُ وغيره، واختلف الفُقَهاءُ فيه من أجْلِ تقييدِ الآيةِ إياه بالطَّيِّبِ.
فقالتْ طائفة: يتيمَّم بوَجْه الأرْض، تراباً كان أو رَمْلاً أو حجارةً أو مَعْدِناً أو سَبِخَةً، وجعلَتِ الطِّيب بمعنى الطَّاهر، وهذا هو مذهَبُ مالكٍ، وقالتْ طائفة منهم: الطِّيب بمعنى المُنْبِتِ؛ كما قال تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ} [الأعراف: 58]، فالصعيد عندهم هو الترابُ، وهذه الطائفةُ لا تُجِيزُ التيمُّم بغيره، فمكانُ الإجماع أنْ يتيمَّم في تُرَابٍ مُنْبِتٍ طاهرٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ، ولا مَغْضُوبٍ، وترتيبُ القرآن الوجْهُ قبل اليدَيْنِ، وبه قال الجمهور، وفي المدوَّنة؛ أنَّ التيمُّم ضربتانِ، وجمهورُ العلماء أنَّه ينتهِي في مَسْح اليدَيْن إلى المرافق.

.تفسير الآيات (44- 46):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة...} الآية: {أَلَمْ تَرَ}: مِنْ رؤية القَلْب، وهي عِلْمٌ بالشيء، والمراد ب {الَّذِينَ}: اليهودُ؛ قال قتادة وغيره، ثم اللفظ يتناوَلُ معهم النصارى، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بنِ التَّابُوتِ اليهوديِّ، والكتابُ: التوراةُ والإنجيلُ، و{يَشْتَرُونَ}: عبارةٌ عن إيثارهم الكفْرَ، وتركِهِمُ الإيمانَ، وقالتْ فرقة: أراد الَّذِينَ كانوا يُعْطُون أموالهم للأحبارِ على إقامةِ شَرْعِهِمْ، فهو شراءٌ حقيقةً، {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} معناه: أنْ تَكْفُروا.
وقوله سبحانه: {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} خبرٌ في ضمنه التحذيرُ منهم، {وكفى بالله وَلِيّاً}، أيْ: اكتفوا باللَّه وليًّا.
وقوله سبحانه: {مِّنَ الذين هَادُواْ}، قال بعضُ المتأوِّلين: {مِنْ} راجعةٌ على {الَّذِينَ} الأولى، وقالتْ فرقة: {مِنْ} متعلِّقة ب {نَصِيراً}، والمعنى: ينصُرُكم من الذين هَادُوا، فعلى هذين التأويلَيْن لا يُوقَفُ في قوله: {نَصِيراً}، وقالتْ فرقة: هي ابتداء كلامٍ، وفيه إضمارٌ، تقديره: قَوْمٌ يحرِّفون، وهذا مذهبُ أبي عَلِيٍّ، وعلى هذا التأويلِ يُوقَفُ في {نَصِيراً}، وقول سيبَوَيْهِ أصْوَبُ؛ لأنَّ إضمار الموصولِ ثقيلٌ، وإضمار الموصوفِ أسهلُ، وتحريفهم للكلامِ على وجْهَيْنِ، إما بتغييرِ اللفظِ، وقد فَعَلُوا ذلك في الأقَلِّ، وإمَّا بتغيير التَّأْويلِ، وقد فَعَلُوا ذلك في الأكْثَرِ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ، وهذا كلُّه في التوراة؛ على قولِ الجُمْهورِ، وقالتْ طائفة: هو كَلِمُ القُرآن، وقال مَكِّيٌّ: هو كلامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالتَّحْرِيفُ على هذا في التأويلِ.

وقوله تعالى عنهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} عبارةٌ عَنْ عُتُوِّهم في كُفْرهم وطُغْيانِهِمْ فيه، و{غَيْرَ مُسْمَعٍ}: يتخرَّج فيه معنيانِ:
أحدُهُما: غير مأمور وغير صاغر؛ كأنهم قالوا: غَيْرَ أَنْ تُسَمَّعَ مأموراً بذلك.
والآخر: على جهة الدعاءِ، أي: لاَ سَمِعْتَ؛ كما تَقُولُ: امض غَيْرَ مُصِيبٍ، ونحو ذلك، فكانَتِ اليهودُ إذا خاطَبَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ب {غَيْرَ مُسْمَعٍ}، أَرادَتْ في الباطِنِ الدعاءَ علَيْه، وأَرَتْ ظاهراً؛ أنها تريدُ تعظيمَهُ، قال ابنُ عبَّاس وغيره نحوه، وكذلكَ كَانُوا يُرِيدُونَ منه في أَنْفُسِهِمْ معنَى الرُّعُونَة، وحكى مَكِّيٌّ معنى رِعَايَةِ الماشِيَةِ، ويُظْهِرُونَ منه مَعْنَى المُرَاعَاةِ، فهذا معنى لَيِّ اللسانِ، وقال الحسنُ ومُجَاهد: {غَيْرَ مُسْمَعٍ}، أي: غَيْرَ مقبولٍ منك، و{لَيّاً}: أَصله لَوْياً، و{طَعْناً فِي الدين}: أيْ: توهيناً له وإظهاراً للإستخفافِ به.
قال * ع *: وهذا اللَّيُّ باللسانِ إلى خلافِ مَا في القَلْبِ موجُودٌ حتَّى الآن فِي بَنِي إسرائيل، ويُحْفِظُ منه في عَصْرنا أمثلة إلاَّ أنه لا يَلِيقُ ذِكْرُهَا بهذا الكتَابِ.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ...} الآية: المعنى: ولو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا، و{أَقْوَم}: معناه: أعْدَلُ وأصوَبُ، و{قَلِيلاً}: نعْتٌ إما لإِيمانٍ، وإما لِنَفَرٍ، أوْ قَوْمٍ، والمعنى مختلفٌ.

.تفسير الآيات (47- 50):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين أُوتُواْ الكتاب ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ...} الآية: هذا خطابٌ لليهودِ والنصارى، {وَلِمَا مَعَكُمْ}: مِنْ شَرْعٍ ومِلَّةٍ، لا لما معهم من مُبَدَّلٍ، ومُغَيَّرٍ، والطامس: الداثر المغيَّر الأعلامِ، قالتْ طائفة: طَمْسُ الوجوهِ هنا هو خُلُوُّ الحَوَاسِّ منها، وزوالُ الخِلْقَةِ، وقال ابنُ عَبَّاس وغيره: طَمْسُ الوجُوه: أنْ تُزَالَ العينَانِ خاصَّة منها، وتُرَدّ العينان في القفا، فيكون ذلك رَدًّا على الأدْبَارِ، ويَمْشِي القهقرى، وقال مالكٌ رحمه اللَّه: كان أول إسلام كَعْبِ الأَحْبَارِ؛ أنَّه مَرَّ برَجُلٍ من الليل، وهو يقرأُ هذه الآية: {ياأيها الذين أُوتُواْ الكتاب ءَامِنُواْ...} الآية، فوضَعَ كَفَّيْهِ على وَجْهه، وَرَجَعَ القهقرى إلى بيته، فأسْلَمَ مكَانَهُ، وقال: واللَّهِ، لَقَدْ خِفْتُ أَلاَّ أَبْلُغَ بَيْتِي، حتى يُطْمَسَ وجهي، وأصْحَابُ السَّبْتِ: هم الذين اعتدوا في السَّبْت في الصَّيْد؛ حَسْبَمَا تقدَّم، قال قتادةُ وغيره: وأمر اللَّه في هذ الآية واحدُ الأمور دالٌّ على جِنْسها لا واحدُ الأوامر، فهي عبارةٌ عن المخْلُوقَاتِ؛ كالعَذَابِ، واللَّعْنَة هنا، أو ما اقتضاه كُلُّ موضِعٍ ممَّا يختصُّ به.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...} الآية: هذه الآيةُ هي الحاكِمَةُ ببَيَانِ ما تَعَارَضَ مِنْ آيات الوعْدِ والوعيدِ، وتلخيصُ الكلامِ فيها أنْ يُقَالَ: النَّاسُ أربعةُ أصْنَافٍ: كَافِرٌ مات على كُفْره، فهذا مُخَلَّد في النَّار؛ بإجمَاع، ومُؤْمِنٌ مُحْسِنٌ لَمْ يُذْنِبْ قطُّ، وماتَ على ذلك، فهذا في الجنة مَحْتُومٌ علَيْه حَسَبَ الخَبَرِ من اللَّه تعالى، بإجماع، وتَائِبٌ مَاتَ على توبتِهِ، فهو عنْدَ أَهْلِ السُّنَّة وجمهورِ فُقَهَاء الأُمَّة لاَحِقٌ بالمُؤْمِنِ المُحْسِنِ، إلاَّ أنَّ قانُونَ المتكلِّمين أنَّه في المَشيئَةِ، ومُذْنِبٌ مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، فهذا هو موضعُ الخلاَفِ، فقالَت المُرْجِئَةُ: هو في الجنَّة بإيمانه، ولا تَضُرُّه سيئاته، وجعلوا آيات الوعيدِ كلَّها في الكُفَّار، وآياتِ الوَعْد عامَّةً في المؤْمنين؛ تَقِيِّهِمْ وعَاصِيهِمْ، وقالتِ المعتزِلةُ: إذا كان صاحبَ كبيرةٍ، فهو في النَّار، ولا بُدَّ، وقالتِ الخوارجُ: إذا كان صاحِبَ كَبيرة، أو صغيرةٍ، فهو في النَّار مخلَّد، ولا إيمان له؛ لأنهم يَرَوْنَ كل الذنُوبِ كبائرَ، وجعلوا آيات الوَعْدِ كلَّها في المؤمِنِ الذي لم يَعْصِ قَطُّ، والمؤمِنِ التائِبِ، وقال أهْلُ السُّنَّة: هو في المشيئة، وهذه الآيةُ هي الحاكِمَةُ، وهي النصُّ في مَوْضِعِ النِّزاعِ، وذلك أنَّ قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} فصْلٌ مجمعٌ عليه، وقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} فَصْلٌ قاطع للمعتزلة، رادٌّ على قولهم ردًّا لا محيدَ لهم عنه، ولو وقَفْنَا في هذا الموضع مِنَ الكلامِ، لَصَحَّ قولُ المرجئَةِ، فجاء قوله: {لِمَن يَشَاءُ}، ردًّا عليهم مبيناً أنَّ غفران مَا دُونَ الشِّرْك إنما هو لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ؛ بخلاف ما زَعَمُوه مِنْ أنه مغفورٌ لكلِّ مؤمنٍ، ولما حتم سبحانه على أنه لا يغفرُ الشِّرك، ذكر قُبْحَ موقعه، وقَدْرِهِ في الذُّنُوبِ، والفِرْيَةُ: أشدُّ مراتبِ الكَذِبِ قُبْحاً، وهو الإختلاقُ.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ...} الآية: لا خِلاَفَ بين المتأوِّلين أنَّ المراد بالآية اليهودُ، وإنما اختلفوا في المعنَى الَّذي به زَكَّوْا أنفسهم.
فقال الحسن، وقتادة: ذلك قولُهُمْ: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً} [البقرة: 111] إلى غير ذلك من غُرُورِهِم.
قال * ع *: فتقتضي هذه الآيةُ الغَضَّ مِنَ المُزَكِّي لنفسه بلِسَانِهِ، والإعلامَ بأنَّ الزَّاكِيَ المزكى مَنْ حَسُنَتْ أفعاله، وزَكَّاه اللَّه عزَّ وجلَّ، قال ابْنُ عَبَّاس وغيره: الفَتِيلُ: الخَيْطُ الذي في شَقِّ نواة التَّمْرة، وذلك راجعٌ إلى الكناية عن تَحْقير الشَّيْء وتصغيرِهِ، وأنَّ اللَّه لا يظلمه، ولاَ شَيْءَ دونه في الصِّغَر، فكيف بما فَوْقَهُ.
وقوله تعالى: {انظر كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب...} الآية: يبيِّن أنَّ تزكيتهم أنفسَهُمْ كانَتْ بالباطلِ، والكَذِبِ؛ ويُقَوِّي أنَّ التزكية كانَتْ بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} أنَّ الاِفتراءَ أَعظمُ في هذه المقالةِ، و{كَيْفَ} يَصِحُّ أنْ تكونَ في موضِع رَفْعٍ بالاِبتداءِ، والخَبَرُ في قوله {يَفْتَرُونَ}؛ و{كفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} خبرٌ، في ضِمْنه تعجُّب وتعجيبٌ مِنْ أمْرهم،
قال * ص *: {وكفى بِهِ} عائدٌ على الاِفتراءِ، وقيل: على الكذب. انتهى.

.تفسير الآيات (51- 52):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت...} الآية: أجْمَعَ المتأوِّلون أنَّ المراد بها طائفةٌ من اليهود، والقَصَصُ يبيِّن ذلك، ومجموعُ ما ذكره المفسِّرون في تَفْسير الجِبْتِ والطَّاغُوتِ يقتضي أنَّهُ كُلُّ مَا عُبِدَ وأُطِيعَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية: سببها أنَّ قريشاً قالَتْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، حين وَرَدَ مكَّة: أنْتَ سَيِّدُنَا، وَسيِّدُ قَوْمِكَ، إنَّا قومٌ نَنْحَرُ الكَوْمَاءَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ، وَنَسْقِي الحَجِيجَ، وَنَعْبُدُ آلِهَتَنَا الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وهَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ قَطَعَ الرَّحِمَ، فَمَنْ أهدى نَحْنُ أوْ هُوَ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: أَنْتُمْ أهدى مِنْهُ، وَأَقْوَمُ دِيناً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ، فالضمير في {يَقُولُونَ} عائد على كعْبٍ، وعلى الجماعةِ الَّتي معه من اليهودِ المُحَرِّضين على قتَالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والَّذِينَ كَفَرُوا في هذه الآيةِ هم كفَّار قريشٍ، والإشارة ب هؤلاء إليهم والَّذِين آمنوا هم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأمته، وقالتْ فرقة: بل المرادُ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ وأتباعه، وهم المقصودُ من أول الآيات.
قال * ص *: {لِلَّذِينَ}: اللامُ للتبليغِ متعلِّقة ب {يقولون}. انتهى.

.تفسير الآيات (53- 55):

{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك...} الآية: عُرْفُ {أَمْ} أنْ تُعْطَفَ بعد استفهامٍ متقدِّم؛ كقولك: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو؟ فَإذا وردَتْ، ولم يتقدَّمها استفهامٌ؛ كما هي هنا، فمذهب سيبَوَيْهِ؛ أنَّها مضمَّنةٌ معنى الإضراب عن الكلامِ الأوَّلِ، والقَطْع منه، وهي متضمِّنة مع ذلك مَعْنَى الاِستفهام، فهي بمعنى بَلْ مع همزةِ استفهامٍ؛ كقول العربِ: إنها لإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ، التقدير عند سيبويه: إنَّهَا لإِبِلٌ بَلْ أَهِيَ شَاءٌ؟ وَكَذَلك هذا الموضعُ: بَلْ أَلهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ، فإذا عرفْتَ هذا، فالمعنى على الأرجَحِ الذي هو مذْهَبُ سيبَوَيْهِ والحُذَّاقِ: أنَّ هذا استفهامٌ على معنى الإِنكار، أي: ألهم مُلْكٌ؛ فإذن لَوْ كان، لَبَخِلُوا به، والنَّقِيرُ: هي النُّكْتَةُ التي في ظَهْر النَّوَاة من التَّمْر؛ هذا قول الجمهور، وهَذَا كنايةٌ عن الغايَةِ في الحَقَارة والقِلَّة، وتُكْتَبُ إذَنْ بالنُّون وبالألِفِ، فالنُّونُ هو الأصْلُ؛ ك عَنْ، ومِنْ، وجاز كتبها بالألِفِ؛ لصحَّة الوقوفِ عليها، فأشبهَتْ نونَ التَّنْوينِ، ولا يصحُّ الوقوف على عَنْ ومِنْ.
وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَا ءاتاهم الله...} الآية: {أمْ} هذه على بابها من العطْفِ بعد الاِستفهام.
وقال * ص *: {أَمْ يَحْسُدُونَ}: {أَمْ} أيضاً منقطعةٌ تتقدَّر ب بَلْ والهمزة. انتهى. قلت: والظاهر ما قاله * ع * واختلف في المراد ب الناس هنا.
فقال ابنُ عبَّاس وغيره: هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والفَضْلُ: النبوَّة فقط، والمعنى: فَلِمَ يخصُّونه بالحَسَد، ولا يَحْسُدُونَ آل إبراهيم في جميعِ مَا آتيناهم مِنْ هذا وغيره مِنَ المُلْك، وقال قتادة: النَّاسُ هنا: العَرَبُ، حَسَدَتْها بَنُو إسرائيل في أنْ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم منْها، والفَضْلُ على هذا التأويل هو محمَّد صلى الله عليه وسلم، قَالَ أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ: وقد ذَمَّ اللَّه قوماً على حَسَدهم، فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ}، ثم حدَّث بسنده، عن عمرو بن مَيْمُونٍ، قَالَ: لما رَفَع اللَّه موسى نَجِيًّا، رأى رجُلاً متعلِّقاً بالعَرْش، فقال: يا رَبِّ، مَنْ هَذَا، فقالَ: هذا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي، صَالِحٌ، إنْ شئْتَ أخبرتُكَ بعمله، فقال: يا رَبِّ، أخبِرْنِي، فقال: كَانَ لاَ يَحْسُدُ النَّاسَ على ما آتاهم اللَّه مِنْ فَضْله، ثم حدَّث أبو عمر بسنده، عن أنسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ؛ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ» وذكر عبد الرزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن إسماعيل بْنِ أُمَّيَةَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ لاَ يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ، والظَّنُّ، وَالحَسَد! قِيلَ: فَمَا المَخْرَجُ مِنْهُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا تَطَيَّرْتَ فَلاَ تَرْجِعْ، وَإذَا ظَنَنْتَ فَلاَ تُحَقِّقْ، وَإذَا حَسَدتَّ فَلاَ تَبْغِ» انتهى من التمهيد.
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ} اختلف في الضمير مِنْ {به}.
فقال الجمهور: هو عائدٌ علَى القرآن الذي في قوله تعالى: {آمِنُوا بِمَا نزَّلنا مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} [النساء: 47]؛ فأعلم اللَّه سبحانه أنَّ منهم مَنْ آمَنَ؛ كما أُمِرَ؛ فلذلك ارتفَعَ الوعيدُ بالطَّمْسِ، ولم يَقَعْ، وصَدَّ قومٌ ثبَتَ الوعيدُ عليهم في الآخرة؛ بقوله سبحانه: {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً}.
وقيل: هو عائدٌ على إبراهيم عليه السلام.
وقيل: هو عائدٌ على الفَضْلِ الذي آتاه اللَّه النبيَّ عليه السلام، والعربَ على ما تقدَّم.