فصل: تفسير الآية رقم (104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (104):

{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
وقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغاء القوم}: أي: لا تَلِينُوا وتَضْعُفوا؛ يُقَالُ: حَبْلٌ وَاهِنٌ، أيْ: ضعيفٌ؛ ومنه: {وَهَنَ العَظْمُ} وابتغاءُ القَوْمِ: طَلَبُهم، وهذا تشجيعٌ لنفوسِ المُؤْمنين، وتحقيرٌ لأمْر الكَفَرة، ثم تأَكَّد التشجيعُ بقوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ}، وهذا برهانٌ بَيِّنٌ، ينبغي بحَسَبِهِ أنْ تقوى نفوسُ المؤمنين، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآية رقم (105):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)}
وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أراك الله...} الآية: في هذه الآيةِ تشريفٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتفويضٌ إليه، وتقويمٌ أيضاً على الجادَّة في الحُكْم، وتأنيبٌ مَّا على قبولِ ما رُفِعَ إلَيْه في أمْر بَنِي أُبيْرِقٍ بِسُرْعَةٍ.
وقولُهُ تعالى: {بِمَا أَرَاكَ الله}: معناه: على قوانينِ الشَّرْعِ إمَّا بوَحْيٍ ونَصٍّ أو نَظَرٍ جارٍ على سَنَنِ الوحْي، وقد تضمَّنَ اللَّه تعالى لأنبيائه العِصْمَةَ.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً}، قال الهَرَوِيُّ: {خَصِيماً}: أيْ: مُخَاصِماً، ولا دَافِعاً. انتهى.
قال * ع *: سببها، باتفاق من المتأولين: أمْرُ بني أُبَيْرِقٍ، وكانوا إخْوَةً: بِشْرٌ، وبَشِيرٌ، وَمُبَشِّر، وطُعَيْمَةُ، وكان بَشِيرٌ رجلاً منافقاً يهجُو أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وينحل الشِّعْر لغيره، فكان المسلمونَ يَقُولُونَ: واللَّهِ، ما هو إلاَّ شِعْرُ الخَبِيثِ، فقال شعراً يتنصَّل فيه؛ فَمِنْهُ قوله: [الطويل]
أَفِي كُلِّ مَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَة ** نُحِلْتُ، وَقَالُوا: ابن الأُبَيْرِقِ قَالَهَا

قال قتادةُ بنُ النُّعْمَانِ: وكان بَنُو أُبَيْرِقٍ أهْلَ فَاقَةٍ، فابتاع عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلاً مِنْ دَرْمَكِ الشِّامِ، فجعله في مَشْرُبَةٍ له، وفي المَشْرُبَةِ دِرْعَانِ له، وسَيْفَانِ، فَعُدِيَ على المَشْرُبَةِ من اللَّيْلِ، فلما أصْبَحَ، أتانِي عَمِّي رفاعَةُ، فقال: يَابْنَ أَخِي، أتعلَمُ أنه قَدْ عُدِيَ علَيْنا في لَيْلَتِنَا هذه، فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتُنَا، وذُهِبَ بطَعَامِنَا، وسِلاَحِنا، قال: فتحسَّسْنا في الدَّار، وسألنا، فَقِيلَ لنا: قد رأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ استوقدوا نَاراً في هذه الليلةِ، ولاَ نُرَاهُ إلاَّ على بعض طعامِكُمْ، قال: وقد كان بَنُو أُبَيْرِقٍ قالُوا، ونَحْنُ نَسْأَلُ: وَاللَّهِ، مَا نرى صَاحِبَكُمْ إلاَّ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ، رَجلٌ مِنَّا لَهُ صَلاَحٌ وإسْلاَمٌ، فَسَمِعَ ذَلِكَ لَبِيدٌ، فاخترط سَيْفَهُ، ثُمَّ أتى بَنِي أُبَيْرِقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، فَقَالُوا: إلَيْكَ عَنَّا، أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَوَاللَّهِ، مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حتى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي: يَابْنَ أَخِي، لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأخبرتَهُ بِهَذِهِ القِصَّةِ، فأتيتُهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: انظر فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ، أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ، فكلَّموه في ذلكَ، واجتمع إلَيْهِ ناسٌ مِنْ أَهْلِ الدارِ، فأَتَوْا رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ رِفَاعَةَ عَمَدَا إلى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إسْلاَمٍ وَصَلاَحٍ يَرْمِيَانِهِمْ بِالسَّرِقَةِ على غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال قَتَادةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: عَمَدتَّ إلى أَهْلِ بَيْتٍ، ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ، فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال: فَرَجَعْتُ، وَقَدْ وَدِدتُّ أَنْ أَخْرُجَ عَنْ بَعْضِ مَالِي، وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، فَأَتَيْتُ عَمِّي، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اللَّهُ المُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ القُرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق...} الآيات، قال: فالخائِنُونَ: بنو أُبَيْرِقٍ، والبريءُ المَرْمِيُّ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ، والطائفةُ التي هَمَّتْ أُسَيْرٌ وأصحابُهُ.
قال * ع *: قال قتادة وغَيْرُ واحدٍ: هذه القصَّة ونحوها إنما كان صاحبُها طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، ويقال فيه: طُعَيْمَةُ.
قال * ع *: وطُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِق صرَّح بعد ذلك بالاِرتدادِ، وهَرَبَ إلى مكَّة، فرُوِيَ أنه نَقَبَ حائطَ بَيْتٍ؛ ليسرقه، فانهدم الحائطُ عليه، فقَتَلَه، ويروى أنه اتبع قوماً من العرب، فسرقهم، فقتلوه.

.تفسير الآية رقم (106):

{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)}
وقوله تعالى: {واستغفر الله}، ذهب الطبريُّ إلى أنَّ المعنَى: استغفر مِنْ ذَنْبِكَ في خِصَامِكَ للنَّاس.
قال * ع *: وهذا ليس بذَنْبٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما دَافَعَ عن الظاهرِ، وهو يعتقدُ براءتهم، والمعنى: واستغفر للمؤْمنينَ مِنْ أمَّتك، والمتخاصِمِينَ بالباطل، لا أنْ تكون ذا جدالٍ عنهم، وعن أبي هُرَيْرة، قال: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ، فَكثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُوَم مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إلَيْكَ، إلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ»، رواه أبو داود والتِّرمذيُّ والنسائِيُّ والحاكمُ وابنُ حِبَّانَ في صحيحيهما، وقال الترمذيُّ، واللفظ له: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، ورواه النسائيُّ والحاكمُ أيضاً مِنْ طُرُق عن عائشةَ وغيرها. انتهى من السلاح.

.تفسير الآية رقم (107):

{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)}
وقوله تعالى: {وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ}، لفظ عامٌّ يندرج تحته أصحابُ النازلةِ، ويتقرَّر به توبيخُهُمْ، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}: رفْقٌ وإبقاءٌ؛ فإن الخَوَّان هو الذي تتكرَّر منه الخيانَةُ؛ كَطُعَيْمَةَ بْنِ الأُبَيْرِقِ، والأَثِيمُ هو الذي يَقْصِدُها، فيخرج من هذا التشديدِ السَّاقط مرةً واحدةً، ونحو ذلك، واختيان الأَنْفُسِ هو بما يَعُودُ عليها من الإثْمِ والعقوبةِ في الدنيا والآخرة.

.تفسير الآية رقم (108):

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}
وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله...} الآية: الضميرُ في {يستخفون} للصِّنْفِ المرتكبِ للمعاصِي، ويندرجُ في طَيِّ هذا العموم أهْلُ الخيانةِ في النازلة المذكورةِ، وأهْلُ التعصُّب لهم، والتَّدْبيرِ في خَدْعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتلبيسِ عليه، ويحتملُ أَنْ يكونَ الضميرُ لأَهْلِ هذه النازلةِ، ويدْخُلُ في معنى هذا التوبيخِ كلُّ من يفعل نَحْوَ فعلهم، قال صاحبُ الكَلِمِ الفَارِقِيَّة، والحِكمِ الحقيقيَّة: النفوسُ المرتكبةُ للمحارِمِ؛ المحتقبَةُ للمآثِمِ، والمَظَالِمِ؛ شبيهةٌ بالأراقم، تملأ أفواهَهَا سُمًّا، وتقصدُ مَنْ تقذفُهُ عَلَيْه عدواناً وظلماً، تجمعُ في ضمائرها سُمُومَ شُرُورِهَا وضَرَرها، وتحتالُ لإلقائها على الغافَلَينَ عَنْ مكائدهَا وخُدَعِهَا. انتهى.
ومعنى: {وَهُوَ مَعَهُمْ}، بالإحَاطَةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، ويبيِّتون: يدبِّرون لَيْلاً، ويحتمل أنْ تكون اللفظة مأخوذةً من البَيْت، أي: يستَتِرُونَ في تَدْبِيرِهمْ بالجُدُرَاتِ.

.تفسير الآيات (109- 111):

{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)}
وقوله تعالى: {هاأنتم هؤلاءآء}: خطابٌ للقوم الذين يَتَعَصَّبون لأَهْلِ الرَّيْبِ والمعاصِي، ويندرجُ في طَيِّ هذا العمومِ أهْلُ النازلةِ، وهو الأظهرُ عنْدِي؛ بحُكْم التأكيدِ بهؤلاءِ، وهِيَ إشارةٌ إلى حاضِرِينَ، ومِن مصابيح البَغَوِّي عن أبي دَاوُدَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ، حتى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الخَبَالِ؛ حتى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ»، ويروى: «مَنْ أَعَانَ على خُصُومَةٍ لاَ يَدْرِي أَحَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ، فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ؛ حتى يَنْزِعَ» انتهى.
وقوله تعالى: {فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة...} الآية: وعيدٌ محْضٌ، ولمَّا تمكَّن هذا الوعيدُ، وقَضَتِ العقولُ بأنْ لا مجادِلَ للَّهِ سبحانَهُ، ولا وَكِيلَ يقُومُ بأمْر العُصَاة عنده، عَقَّبَ ذلك بهذا الرَّجَاء العظيمِ، والمَهَلِ المنفسحِ، فقال: {ومَنْ يعملْ سوءاً أو يظلمْ نَفْسَه...} الآية، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآيات (112- 113):

{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
وقوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً}، ذهب بعضُ النَّاسِ إلى أنهما لفظانِ بمعنًى، كُرِّرَ؛ لإختلافِ اللفْظِ، وقال الطَّبَرِيُّ: إنما فَرَقَ بين الخطيئَةِ والإثْم؛ لأنَّ الخطيئة تكُونُ عَنْ عَمْدٍ، وعن غير عَمْدٍ، والإثمُ لا يكُونُ إلا عَنْ عمد، وهذه الآية لفظها عامٌّ، ويندرجُ تحْتَ ذلك العمومِ أهْلُ النازلةِ المَذْكُورة، وبَرِيءُ النَّازِلَةِ، وهو لَبِيدٌ، كما تقدَّم، أيْ: ويتناولُ عمومُ الآية كلَّ بريءٍ.
وقوله: {فَقَدِ احتمل بهتانا}: تشبيهٌ، إذ الذنوبُ ثِقْلٌ ووِزْرٌ، فهي كالمحمولاتِ، و{بهتانا}: معناه: كَذِباً، ثم وقَفَ اللَّه تعالى نبيَّه على مقدارِ عِصْمَتِهِ له، وأنها بفَضْل منه سُبْحَانه ورَحْمَتِهِ.
وقوله تعالى: {لَهَمَّتْ}: معناه: لَجَعَلَتْهُ همَّها وشُغُلَها، حتى تنفذه؛ وهذا يدلُّ على أنَّ الألفاظ عامَّة في غير أهْل النَّازلة، وإلاَّ فأهْلُ التعصُّب لبني أُبَيْرِقٍ قد وقَع هَمُّهم وثَبَت، ثم أخبر تعالى أنهم لا يضلُّون إلاَّ أنفسهم، وما يَضُرُّونَكَ مِنْ شيء، قُلْتُ: ثم ذكر سبحانه ما أنعم بِهِ على نبيه مِنْ إنزالِ الكتابِ، والحِكْمَةِ، وتعليمِهِ ما لم يكُنْ يعلم، قال ابنُ العربيِّ في رحلته: اعلم أنَّ علومَ القُرآنِ ثلاثةُ أقْسَامٍ: تَوْحِيدٌ، وتَذْكِيرٌ، وأَحْكَامٌ، وعلْم التذكيرِ هو معظم القُرآن، فإنه مشتملٌ علَى الوَعْد والوَعِيدِ، والخَوْف والرجاء، والقُرَبِ وما يرتبط بها، ويدْعو إليها ويكُونُ عنها، وذلك معنًى تَتَّسِعُ أبوابه، وتمتدُّ أطنابه. انتهى، وباقِي الآيةِ وعْدٌ كريمٌ لنبيِّهِ عليه السلام، وتقريرٌ نعمه لدَيْه سبحانه، لا إله غيره.

.تفسير الآية رقم (114):

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}
وقوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نجواهم إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس...} الآية: الضَّمِيرُ في {نجواهم}: عائدٌ على النَّاس أجمع، وجاءَتْ هذه الآياتُ عامَّةَ التناولِ، وفي عمومهَا يندرجُ أصحابُ النَّازلة، وهذا من الفَصَاحة والإيجازِ المُضَمَّنِ الماضِي والغابر في عبارةٍ واحدةٍ، قال النوويُّ ورُوِّينا في كتابَيِ الترمذيِّ وابن ماجة، عن أمِّ حَبِيبَة رضي اللَّه عنها، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: «كُلَّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لاَ لَهُ إلاَّ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ، أوْ نَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ، أو ذِكْراً لِلَّهِ تَعَالَى» انتهى.
والنَّجْوَى: المسارَّة، وقد تسمى بها الجماعةُ؛ كما يقال: قَوْمٌ عَدْلٌ، وليستِ النجوى بمَقْصُورةٍ على الهَمْسِ في الأُذُنِ، والمعروفُ لفظ يعمُّ الصدَقَةَ والإصلاحَ وغيرهما، ولكنْ خُصَّا بالذِّكْر؛ اهتماماً؛ إذ هما عظيمَا الغَنَاءِ في مَصَالحِ العبادِ، ثم وعد تعالى بالأجر العظيم على فعل هذه الخَيْرات بنيَّةٍ وقَصْدٍ لِرِضَا اللَّه تعالى.

.تفسير الآيات (115- 116):

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)}
وقوله تعالى: {ومَن يُشَاقِقِ الرسول...} الآية: لفْظٌ عامٌّ نزَلَ بسببِ طُعْمَة بْنِ أُبَيْرِقٍ؛ لأنه ارتدَّ وسار إلى مكَّة، فاندرجَ الإنحاءُ علَيْهِ فِي طَيِّ هذا العمومِ المتناوِلِ لمَنِ اتصف بهذه الصفاتِ إلى يوم القيامة.
وقوله: {نُوَلِّهِ مَا تولى}: وعيدٌ بأنْ يترك مع فاسِدِ اختيارِهِ في تودُّد الطاغوتِ، ثم أوجَبَ تعالى؛ أنه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وقد مضى تفسيرُ مِثْلِ هذه الآية.

.تفسير الآيات (117- 119):

{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)}
وقوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً...} الآية: الضميرُ في {يَدْعُونَ}: عائدٌ على مَنْ ذكر في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} [النساء: 115]، و{إنْ}: نافيةٌ بمعنى ما، ويدعون: عبارةٌ مغنيةٌ موجزةٌ في معنى: يعبدون ويتخذُونَ آلهة، قُلْتُ وفي البخاريِّ {إِلاَّ إناثا}: يعني المَوَاتَ حَجَراً ومدَراً، وما أشبهه. انتهى، وفي مُصْحَف عائشَةَ: {إلاَّ أوثَاناً}؛ ونحوه عن ابنِ عَبَّاس، والمرادُ بالشَّيْطَانِ هنا إبليسُ؛ قاله الجمهور، وهو الصوابُ؛ لأنَّ سائر المقالة به تليقُ، و{مَّرِيداً}: معناه: متمرِّداً عاتياً صليباً في غوايته، وأصْلُ اللعْنِ: الإبعادُ، والمفروضُ: معناه: في هذا الموضعِ المُنْحَاز، وهو مأخوذٌ من الفرضِ، وهو الحَزُّ في العود وغيره.
قال * ع *: ويحتملُ أنْ يريد واجباً إن اتَّخَذَهُ، وبَعْثُ النَّارِ هو نَصِيبُ إبْلِيسَ.
وقوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ...} الآية: معنى أُضِلَّنَّهُمْ: أصرفُهُمْ عن طريقِ الهدى، {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} لأسوِّلَنَّ لهم، وأَمَانِيُّهُ لا تنحصرُ في نَوْعٍ واحدٍ، والبَتْكَ: القَطْع.
وقوله: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} اختلف المتأوِّلون في معنى تَغْيير خَلْق اللَّه، ومِلاَكُ تفسير هذه الآية أنَّ كلَّ تغييرٍ ضَارٍّ، فهو داخلٌ في الآية، وكلّ تغييرٍ نافعٍ فهو مباحٌ، وفي مختصر الطبريِّ: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله}، قال ابنُ عبَّاس: خَلْقَ اللَّهِ: دِينَ اللَّهِ، وعن إبراهيم، ومجاهدٍ، والحسن، وقتادَةَ، والضَّحَّاك، والسُّدِّيِّ، وابْنِ زَيْدٍ مثله، وفسَّر ابن زيد: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30]، أيْ: لِدِينِ اللَّهِ، واختارَ الطبريُّ هذا القوْلَ؛ واستدلِّ له بقوله تعالى: {ذلك الدين القيم} [الروم: 30] وأَجاز أنْ يدخل في الآية كلُّ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ مِنْ معاصيه، والتَّرْكِ لطاعته. انتهى، وهو حَسَنٌ.
قال * ع *: واللامَاتُ كلُّها للقَسَمِ،
قال * ص *: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ}، مفعوله محذوفٌ، أي: عن الهدى؛ وكذا: {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ}، أي: الباطلَ؛ وكذا {وَلأَمُرَنَّهُمْ}، أي: بالبَتْكِ، فَلَيُبَتِّكُنَّ؛ وكذا: {وَلأَمُرَنَّهُمْ}، أي: بالتغيير، فَلَيُغَيِّرُنَّ كُلَّ ما أوجده اللَّه للطَّاعَةِ،. فيستعينُونَ به في المَعْصِيَةِ. انتهى.
ولما ذكر اللَّه سبحانه عُتُوَّ الشيطانِ، وما توعَّد بهِ منْ بَثِّ مَكْرِهِ، حَذَّر تبارك وتعالى عبادَهُ؛ بأن شرط لمن يتَّخذه وليًّا جزاءَ الخُسْرَان.

.تفسير الآيات (120- 122):

{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}
وقوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ}، أي: يعدُهُم بأباطِيلهِ من المالِ، والجاهِ، وأنْ لا بَعْثَ، ولاَ عِقَابَ، ونَحْوِ ذلك لكلِّ أحدٍ مَّا يليقُ بحاله، ويمنِّيهم كذلك، ثم ابتدأ سبحانه الخَبَرَ عن حقيقةِ ذَلِكَ؛ بقوله: {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} ثم أخْبَرَ سبحانه بمَصِيرِ المتَّخِذِينَ الشَّيْطَان وَليًّا، وتوعَّدهم بأنَّ مأُوَاهُمْ جهنَّم، لا يدافِعُونها بِحِيلَةٍ، ولا يتروَّغون، و{مَحِيصاً}: مِنْ حَاصَ؛ إذَا رَاغَ ونَفَرَ؛ ومنه قولُ الشَّاعر: [الطويل]
وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنَا مِنَ المَوْتِ حَيْصَة ** كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمدى مُتَطَاوِلُ

ومنْه الحديثُ: «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ»، ولما ذكر سبحانه ما تقدَّم من الوعيد، واقتضى ذلك التحذيرَ، عقَّبَ ذلك عزَّ وجلَّ بالترغيبِ في ذِكْره حالةَ المُؤْمنين، وأعْلَمَ بصحَّة وعده، ثم قرَّر ذلك بالتَّوْقِيفِ علَيْه في قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً}، والقيلُ والقَوْلُ واحدٌ، ونصبه على التمييز.