فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (4):

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}
وقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}: سببُ نزولها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا أمر بقَتْل الكلابِ. سأله عاصمُ بنُ عَدِيٍّ وغيره، مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الكِلابِ.
قال * ع *: وظاهر الآية أنَّ سائلاً سأل عمَّا يحلُّ للنَّاسِ من المَطَاعِمِ؛ لأنَّ قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ليس بجوابٍ عمَّا يحِلُّ للناسِ اتخاذه من الكلاَبِ إلاَّ أنْ يكون مِنْ باب إجَابَةِ السائلِ بأكثر ممَّا سأَلَ عنه، وهو موجودٌ كثيراً من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والطَّيِّبُ: الحَلاَل.
وقوله سبحانه: {وَمَا عَلَّمْتُمْ}: أي: وصَيْدُ ما علَّمتم، قال الضَّحَّاك وغيره: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ}: هي الكلاَبُ خاصَّةٌ.
قال العِرَاقِيُّ في {مكلِّبين}: أصحاب أَكْلُبٍ لها مُعَلِّمين. انتهى، وأعلى مراتِبِ التَّعْلِيمِ، أنْ يُشْلى الحَيَوانُ فَيَنْشَلِي، ويدعى فَيُجِيب، ويُزْجَر بَعْد ظَفَرِهِ بالصَّيْد، فينزجر، وجوارِحُ: جمع جَارِحٍ، أي: كاسب، يقال: جَرَحَ فلانٌ، واجترح؛ إذا اكتسب؛ ومنه قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60]، أي: ما كَسَبْتُمْ مِنْ حسنةٍ وسيئةٍ.
قال * ع *: وقرأ جمهورُ النَّاس: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} بفتح العين واللامِ، وقرأ ابنُ عبَّاس ومحمَّدُ بْنُ الحنفيَّة: {عُلِّمْتُمْ} بضم العين وكسر اللام: أي: من أمرِ الجوارحِ، والصَّيْدِ بِها، وقرأ جمهورُ النَّاس: {مُكَلِّبِينَ} بفتح الكاف وشَدِّ اللام، والمُكَلِّبُ: معلِّم الكلابِ، ومُضَرِّبها، ويقال لِمَنْ يعلِّم غَيْرَ كَلْبٍ: مُكَلِّب؛ لأنه يَرُدُّ ذلك الحيوان كالكَلْبِ.
وقوله سبحانه: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله}: أيْ: تعلمونَهُنَّ الحِيلَةَ في الاِصطياد، والتأني لتحصيلِ الحيوانِ، وهذا جزءٌ مما علمَّه الإنسان، ف مِنْ: للتبعيض.
وقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}: يحتملُ: ممَّا أمسكْنَ، فلم يأكلْنَ منه شيئاً، ويحتملُ: ممَّا أمسكْن، وإن أكلْنَ منه، وبحَسَبِ هذا الاحتمالِ اختلف العلماءُ في جواز أكْلِ الصيد، إذا أكل منه الجارحُ.
وقوله سبحانه: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ}: أمر بالتسمية عنْدَ الإِرسال، وذهب مالكٌ وجمهورُ العلماء؛ أنَّ التسمية واجبةٌ، مع الذِّكر، ساقطةٌ مع النِّسْيَان، فمن تركَهَا عامداً، فقد أفْسَدَ الذبيحةَ والصَّيدَ، ومن تَرَكها ناسياً، سمى عند الأكْلِ، وكانَتِ الذبيحةُ جائزةً، وفِقْهُ الصيْدِ والذبْحِ في معنى التسميةِ واحدٌ.
ثم أمر سبحانه بالتقوى على الجُمْلة، والإشارة إلى ما تضمَّنته هذه الآياتُ مِنَ الأوامِرِ والنواهِي، وفي قوله: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}: وعيدٌ وتحذيرٌ.

.تفسير الآية رقم (5):

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
وقوله سبحانه: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}: إشارةٌ إلى الزَّمَنِ والأوانِ، والخِطَابُ للمؤمِنِينَ.
وقوله سبحانه: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ}: الطعامُ في هذه الآيةِ: الذَّبَائِحُ؛ كذا قال أهل التفسير.
واختلفوا في لَفْظَةِ {طَعَام}.
فقال الجمهورُ: هي الذبيحةُ كلُّها، وقالتْ جماعة: إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحةِ، أي: الحلال لهم منها لا ما لا يَحِلُّ لهم؛ كَالطَّرِيفِ، وَالشُّحُومِ المحْضَةِ.
واختلف في لَفْظة {أُوتُواْ الكتاب}.
فقالتْ طائفة: إنما أحل لنا ذبائح الصُّرَحَاءِ منهم، لا مَنْ كان دخيلاً في هذَيْن الدِّينَيْنِ، وقال جمهورُ الأمَّة؛ ابنُ عَبَّاس، والحسنُ، ومالكٌ، وغيرهم: إنَّ ذبيحةَ كُلِّ نصرانيٍّ حلالٌ، كان مِنْ بني تَغْلِبَ أو غيرهم، وكذلك اليهودُ، وتأوَّلوا قوْلَ اللَّهِ تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].
وقولُهُ سُبْحَانه: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}: أي: ذبائحكم، فهذه رُخْصَة للمسلمين، لا لأهْلِ الكتابِ، لَمَّا كان الأمْرُ يقتضي أنَّ شيئاً قد تشرَّعنا فيه بالتَّذْكِيَةِ ينبغي لنا أنْ نَحْمِيَهُ منهم، رخَّص اللَّه تعالى لنا في ذلك؛ دفعاً للمشقَّة بحَسَب التجاوُرِ.
وقوله سبحانه: {والمحصنات}: عطْفٌ على الطَّعَام المُحَلَّل، ذهب جماعةٌ منهم مالكٌ إلى أنَّ المحصنات في هذه الآيةِ الحرائر، فمنعوا نِكَاحَ الأَمَةِ الكتابيَّة، وذهب جماعةٌ إلى أنهنَّ العَفَائِفُ، فأجازوا نكاحَ الأَمَةِ الكتابيَّة، والأجورُ في الآية: المُهُورُ، وانتزع بعضُ العلماءِ مِنْ لَفْظ: {ءَاتَيْتُمُوهُنَّ}؛ أنَّه لا ينبغِي أنْ يدخل زَوْجٌ بزوجته إلاَّ بَعْدَ أنْ يَبْذُلَ من المَهْر ما يستحلُّها به، و{مُّحْصِنِينَ}: معناه: متزوِّجين على السُّنَّة.
وقوله سبحانه: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان}: أي: بالأمور التي يَجِبُ الإيمان بها، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآية رقم (6):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ...} الآية: قال ابن العَرَبِيِّ: في أحكامه: لا خِلاَفَ بَيْن العلماءِ أنَّ هذه الآيةَ مَدَنِيَّةٌ؛ كما أنه لا خِلاَفَ أنَّ الوضوء كانَ مَعْقُولاً قَبْلَ نزولها غَيْرَ مَتْلُوٍّ؛ ولذلك قال علماؤُنا: إنَّ الوُضُوءَ كان بمكَّة سُنَّةً، ومعناه: كان مفْعولاً بالسُّنَّة، وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ}: معناه: إذا أردتُّمُ القِيَامَ إلى الصلاة. انتهى.
قال زيدُ بْنُ أَسْلَمَ والسُّدِّيُّ: معنى الآية: إذا قمتُمْ من المضاجِعِ، يعني النَّوْمَ، والقصْدُ بهذا التأويلِ أنْ يعمَّ الأحداث بالذِّكْر، وفي الآية على هذا التأويلِ تقديمٌ وتأْخيرٌ، تقديره: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النومِ، أو جاء أَحدٌ منكم من الغائِطِ، أو لامَسْتُمُ النِّساء، يعني: الملامسة الصغرى فاغسلوا، وهنا تمَّتْ أحكامُ الحَدَثِ الأَصْغَرِ، ثم قال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا}، فهذا حُكْم نوعٍ آخر، ثم قال للنوعين جميعاً: {وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً}، وقال بهذا التأويل محمَّد بْنُ مَسْلمة مِنْ أصحاب مالكٍ وغيره.
وقال جمهورُ أهْلِ العِلْمِ: معنى الآيةِ: إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثِينَ، وليس في الآيةِ على هذا تقديمٌ ولا تأْخيرٌ، بل ترتَّب في الآية حُكْمُ واجِدِ المَاءِ إلى قوله: {فاطهروا}، ودخلَتِ الملامسةُ الصغرى في قولنا: مُحْدِثِينَ، ثم ذكَرَ بعد ذلك بقوله: {وَإِنْ كُنتُم مرضى...} إلى آخر الآية حُكْمَ عادمِ الماءِ مِنَ النوعَيْنِ جميعاً، وكانت الملامسةُ هي الجماعَ،
وقال * ص *: {إِذَا قُمْتُمْ} أي: إذا أردتُّم، وعبَّر بالقيامِ عن إرادَتِهِ؛ لأنه مُسَبَّبٌ عنها. انتهى.
ومِنْ أحسن الأحادِيثِ وأصحِّها في فَضْل الطهارةِ والصَّلاة: ما رواه مالكٌ في الموطَّإ، عن العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عن أبِيهِ، عن أبي هريرة؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرَكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إسْبَاغُ الوُضُوءِ عِنْدَ المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إلَى المَسَاجِدِ، وانتظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»
قال أبو عمر في التمهيد: هذا الحديثُ مِنْ أَحْسَنِ ما رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فضائِلِ الأعمالِ.
قال صاحبُ كتاب العَيْنِ: الرِّبَاطُ: ملازمةُ الثُّغُور، قال: والرِّبَاطُ مواظبةُ الصلاةِ أَيضاً انتهى.
والغُسْلُ، في اللغة: إيجادُ المَاء في المَغْسُول، مع إمرار شَيْء علَيْه كاليَدِ، والوَجْه ما وَاجَهَ النَّاظر وقابله، والنَّاس كلُّهم على أنَّ داخل العينَيْنِ لا يلْزَمُ غسله إلا ما رُوِيَ عنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أنه كان يَنْضَحُ الماءَ في عَيْنَيْهِ واليَدُ لغةً تَقَعُ على العُضْوِ من المَنْكِبِ إلَى أطرافِ الأصابِعِ، وحَدَّ اللَّه سبحانه مَوضِعَ الغُسْلِ منه؛ بقوله: {إِلَى المرافق}.
واختلف العلماءُ، هل تدخُلُ المرافِقُ في الغُسْلِ أم لاَ، وتحريرُ العبارةِ في هذا المعنى: أنْ يقَالُ: إذا كان مَا بَعْد إلى لَيْسَ مما قَبْلَهَا، فالحَدُّ أولُ المذكورِ بعدها، وإذا كان ما بَعْدَها مِنْ جملة ما قَبْلَهَا، فالاحتياطُ يُعْطِي أنَّ الحدَّ آخر المذكور بَعْدَها؛ ولذلك يترجَّح دخولُ المرفَقَيْنِ في الغُسْل، والروايتان عن مالكٍ، قال ابنُ العَرَبِيِّ في أحكامه، وقد رَوَى الدارقطنيُّ وغيره عن جابرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا تَوَضَّأَ أَدَارَ المَاءَ على مِرْفَقَيْهِ.
انتهى.
واختلفَ في رَدِّ اليدَيْنِ في مَسْح الرَّأْسِ، هل هو فرضٌ أوْ سُنَّة، بعد الإجماع على أنَّ المَسْحَةَ الأولى فَرْضٌ، فالجمهورُ على أنَّه سُنَّة.
وقيل: هو فرضٌ، والإجماع على استحسَانِ مَسْحِ الرأس باليَدَيْنِ جمِيعاً، وعلى الإجزاء بواحدةٍ، واختُلِفَ فِيمَنْ مَسَحَ بأُصْبُعٍ واحدةٍ، والمشهورُ الإجزاءُ؛ ويترجَّح عدم الإجزاءِ؛ لأنه خروجٌ عن سُنَّة المَسْح، وكأنه لَعِبٌ إلاَّ أَنْ يكونَ ذلك عن ضَرَرِ مرضٍ ونحوه، فينبغي ألاَّ يُخْتَلَفَ في الإجزاء.
والبَاءُ في قوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ} مؤكِّدة زائدةٌ عند مَنْ يرى إجزاء بعض الرأْسِ؛ كأنَّ المعنى: أوجِدُوا مَسْحاً برؤوسكم، فمَنْ مَسَح، ولو شعرةً فقد فَعَلَ ذلك.
* ت *: قال ابنُ العَرَبِيِّ في أحكامه: وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صِفَةِ مَسْحِ الرأسِ؛ أَنه أَقْبَلَ بِيَدِهِ، وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، وفي البخاريِّ: فَأَدْبَرَ بِهِمَا، وَأَقْبَلَ، وَهُمَا صحيحانِ متوافِقَانِ، وهي مسألةٌ من أصول الفقْهِ؛ في تسمية الفعْلِ بابتدائه أو بغايته. انتهى.
وقرأ حمزة وغيره: {وَأَرْجُلِكُمْ} بالخفض، وقرأ نافع وغيره بالنَّصْب، والعاملُ: {اغسلوا}، ومن قرأ بالخفْضِ، جعل العامِلَ أقْرَبَ العامِلَيْنِ، وجمهورُ الأَمَّة من الصحابة والتابعِينَ على أنَّ الفَرْضَ في الرجْلَيْن الغَسْلُ، وأنَّ المَسْح لا يجزئ، وفي الصحيح: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ من النَّار» إذ رأى صلى الله عليه وسلم أعقابَهُمْ تلُوحُ، قال ابن العربِيِّ في القَبَس: ومَنْ قرأ {وَأَرْجُلِكُمْ} بالخَفْض، فإنه أراد المَسْح على الخُفَّيْن؛ وهو أحد التأويلاتِ في الآية. انتهى، وهذا هو الذي صحَّحه في أحْكَامِهِ.
والكلامُ في قوله: {إِلَى الكعبين} كما تقدَّم في قوله: {إِلَى المرافق}، وفي صحيح مسلم وغيره عن عُقْبَة بْنِ عامر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يتوضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثِمَّ يَقُومُ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلاً عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة»، فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدُ هذِهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ»
، وأخرجه الترمذيُّ من حديثِ أَبِي إدْرِيسَ الخَوْلاَنِيِّ، عن عمر، زاد في آخره: «اللَّهُمَّ، اجعلني مِنَ التَّوَّابِينَ، واجعلني مِنَ المُتَطَهِّرِينَ» انتهى مختصراً.
واختلَفَ اللغويُّونَ في {الكعبين}.
والجمهورُ على أنهما العَظْمَانِ الناتِئَانِ في جَنَبَتَيِ الرجلِ.
وألفاظُ الآيةِ تقتضِي المُوَالاَةَ بَيْن الأعضاء، قال مالك: هو فرضٌ مع الذِّكْر، ساقِطٌ مع النِّسْيان، وروى الدَّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ: «مَنْ تَوَضَّأَ، فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ على وُضُوئِهِ، كَانَ طُهُوراً لِجَسَدِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَذْكُرِ اسم اللَّهِ على وُضُوئِهِ كَانَ طُهُوراً لأعْضَائِهِ» انتهى من الكوكب الدري.
وكذلك تتضمَّن ألفاظ الآيةِ الترتيبَ، و{اطهروا} أمُرٌ لواجدِ المَاءِ عنْدَ الجمهورِ، وقال عمرُ بْنُ الخطَّاب وغيره: لا يتيمَّمِ الجُنُبُ ألبتَّة، بل يدع الصلاةَ حتى يجد الماء.
وقوله سبحانه: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ...} الآية: الإرادة صفَةُ ذاتٍ، وجاء الفعْلُ مستقبلاً؛ مراعاةً للحوادِثِ التي تَظْهَرُ عن الإرادة، والحَرَجُ: الضِّيق، والحرجة: الشَّجرُ الملْتَفُّ المتضايقُ، ويَجْرِي مع معنى هذه الآية قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ»، وقوله عليه السلام: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»، وجاء لَفْظُ الآية على العُمُومِ، والشَّيْءُ المذكُورُ بقُرْبٍ هو أمر التيمُّمِ، والرُّخْصَة فيه، وزوالُ الحَرَجِ في تحمُّل الماءِ أبداً؛ ولذلك قال أُسَيْدٌ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ.
وقوله سبحانه: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ...} الآية: إعلامٌ بما لا يوازى بشُكْرٍ مِنْ عظيمِ تفضُّله تبارك وتعالى، و{لَعَلَّكُمْ}: ترَجٍّ في حقِّ البَشَرِ، وفي الحديثِ الصحيحِ عن أبِي مالك الأشعريِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، والحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأنِ، أَوْ تَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»، رواه مُسْلِم، والترمذيُّ، وفي روايةٍ له: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ»، وزاد في رواية أخرى: «وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ؛ حتى تَخْلُصَ إلَيْهِ» انتهى.

.تفسير الآيات (7- 10):

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}
وقوله تعالى: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وميثاقه...} الاية: خطابٌ للمؤمنين، ونِعْمَةُ اللَّهِ: اسْمُ جنْسٍ، يجمع الإسلامَ، وحُسْنَ الحالِ، وحُسْنَ المَآلِ، والميثاقُ: هو ما وقع للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في بَيْعَةِ العَقَبَةِ، وَبَيْعَةِ الرِّضْوان، وكلُّ موطِنٍ قال الناسُ فيه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، هذا قولُ ابنِ عبَّاس وجماعةٍ من المفسِّرين.
وقال مجاهدٌ: المرادُ: الميثاقُ المأخوذُ على النَّسَمِ حين استخرجوا مِنْ ظَهْر آدم عليه السلام.
والأوَّل أرجَحُ وألْيَقُ بنَمَطِ الكلامِ، وباقي الآية بيِّن متكرِّر، قال أبو عمر بْنُ عَبْدِ البَرِّ في كتابه بَهْجَةِ المَجَالِس: رُوَي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه قَالَ: «مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ على عَمَلٍ ثَوَاباً، فَهُوَ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وعَدَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ على عَمَلٍ عَقاباً، فَإنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»، وعن ابن عباسٍ مثله. انتهى.

.تفسير الآية رقم (11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ...} الآية: خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمته، والجمهورُ أنَّ سبب هذه الآية أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لمَّا استعان بيَهُودَ في ديةِ الرَّجُلَيْنِ اللذَيْن قَتَلَهُما عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وصاحِبُه، قالوا: نَعَمْ، يَا أَبَا القَاسِمِ، انزل حتى نَصْنَعَ لَكَ طَعَامَاً، وَنَنْظُرَ فِي مَعُونَتِكَ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ظِلِّ جِدَارٍ وَكَانَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، فَتَآمَرَتْ يَهُودُ فِي قَتْلِهِ، وَقَالُوا: مَنْ رَجْلٌ يَظْهَرُ عَلَى الحَائِطِ، فَيَصُبُّ عَلَيْهِ حَجَراً يَشْدَخُهُ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الخَبَرَ، فَقَامَ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَكَانِ، وَتَوَجَّهَ إلَى المَدِينَةِ، ونزلَتِ الآيةُ في ذلِكَ؛ ويترجَّح هذا القولُ بما يأتِي بَعْدُ من الآياتِ في وَصْفِ غَدْر يهودَ، ونَقْضِهِم المواثيقَ.