فصل: تفسير الآيات (31- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (31- 32):

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}
وقوله تعالى: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً...} الآية: قيل: أصبح في ثاني يومٍ قتله يطلب إخفاء أَمْرِ قتله، فلم يَدْرِ ما يصنعُ به، فبعث اللَّه غراباً حيًّا إلى غرابٍ ميتٍ، فجعل يبحَثُ في الأرض، ويُلْقِي الترابَ على الغُرَاب الميِّت، وظاهرُ الآية أنَّ هابيلَ هو أول مَيِّتٍ من بني آدم، ولذلك جَهِلَ سُنَّة المواراةِ؛ وكذلك حكى الطبريُّ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أَهْلِ العِلْمِ بما في الكُتُب الأَوَلِ، والسَّوْءَةُ: العورةُ، ويحتمل أن يراد الحالة التي تَسُوء النَّاظر، ثم إن قابيلَ وارى أخَاه، ونَدِمَ على ما كان منه مِنْ معصية في قَتْله، حيث لا ينفعه الندم.
واختلف العلماء في قابيلَ، هل هو مِنَ الكُفَّار أو من العُصَاة، والظاهر أنه من العُصَاة، قال الفَخْر: ولم ينتفعْ قابيلُ بندمه؛ لأن نَدَمَهُ كان لأسبابٍ؛ منها: سَخَط أبويه وإخوته، وعدمُ انتفاعه بقتله، وَنَحْوُ ذلك، ولما كان ندمه لهذه الأسبابِ لا لأجْلِ الخَوْف من اللَّه تعالى، فلا جَرَمَ لم ينفعْهُ هذا الندَمُ.
وقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذلك} هو إِشارة إلى ما تضمَّنته هذه القصَّة من أنواع المفاسِدِ الحاصلة بسبب القَتْل الحرامِ، لا أنه إشارة إلى قصة قابيلَ وهابيلَ. انتهى.
وقوله سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِي إسراءيل...} الآية: جمهورُ النَّاس على أن قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلك}: متعلِّق بقوله: {كَتَبْنَا} أي: من أجل هذه النازلة، ومِنْ جَرَّاها؛ كتبنا، وقالَ قومٌ: بل هو متعلِّق بقوله: {مِنَ النادمين} أي: ندم؛ من أجل ما وقع، والوقْفُ؛ على هذا، على {ذلك}، والناس على أن الوَقْف {مِنَ النادمين}، ويقال: فعلْتُ ذلك مِنْ أَجْلِكَ بفتح الهمزة ومِنْ إجْلِكَ بكسرها.
وقوله سبحانه: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي: بغير أن تَقْتُلَ نفْسٌ نفْساً، والفسادُ في الأرض: يجمع الزنا، والارتداد، والحِرَابة.
وقوله سبحانه: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} روي عن ابن عباس؛ أنه قال: المعنى: مَنْ قتل نفساً واحدةً، وانتهك حرمتها، فهو مِثْلُ مَنْ قتل الناس جميعاٌ، ومَنْ ترك قتْلَ نفسٍ واحدةٍ، وصان حرمتها؛ مخافَتِي، واستحياها، فهو كَمَنْ أحيا الناسَ جميعاً، قال الحسنُ وابْنُ زيدٍ: {وَمَنْ أحياها} أي: عفا عمَّن وَجَبَ له قتلُهُ بعد القدرة، وقيل غير هذا.
ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل؛ أنهم جاءتهم الرسُلُ بالبيِّنات في هذا وفي سِوَاه، {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك} في كُلِّ عَصْر يسرفُونَ، ويتجاوزون الحُدُود.

.تفسير الآيات (33- 34):

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا جزاؤا الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ...} الآية: روى أنس بن مالك وغيره: أن الآية نزلَتْ في قومٍ مِنْ عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمُوا، ثم إنهم مَرِضُوا، واستوخموا المدينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ أنْ يَكُونُوا فِي لقَاح الصَّدَقَةِ، وَقَالَ: «اشربوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا»، فخرَجُوا فِيهَا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا الرَّاعِيَ، واستاقوا الإبِلَ، فَبَلَغَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَبَرُهُمْ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، قَالَ جَمِيعُ الرُّوَاةِ: فَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ويروى: وَسَمَلَ وَتَرَكَهُمْ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ، فَلاَ يُسْقَوْنَ، فقيل: إن هذه الآية ناسخةٌ لفعْله صلى الله عليه وسلم بالعُرَنِيِّينَ، ووقَف الأمْر على هذه الحدودِ.
وقال جماعةٌ: إنها غير ناسخةٍ لذلك الفعْل؛ لأن العرنيين مرتدُّون، لا سيَّما، وفي بعض الطُّرُق؛ أنهم سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ، وقالوا: هذه الآيةُ هي في المحارِبِ المُؤْمِنِ.
قال مالك: المُحَارِبُ عندنا: مَنْ حَمَلَ على الناس السلاحَ فِي مِصْرٍ أو بَرِّيَّةٍ، فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم، دون نَائِرَةٍ، ولا دَخلٍ، ولا عداوةٍ؛ وبهذا القولِ قال جماعةٌ من أهل العِلْمِ، قالوا: والإمامُ مخيَّرٌ فيه بأن يعاقبه بما رأى مِنْ هذه العقوبات، فأما قَتْلُ المحارِبِ، فبالسَّيْف ضربةً للعنُق، وأما صَلْبه، فبعد القتْلِ عند جماعة، وقال جماعة: بل يُصْلَبُ حيًّا، ويُقْتلُ بالطعن على الخَشَبة، وروي هذا عن مالك، وهو الأظهر من الآيةِ، وهو الأنكى في النكال، وأما القَطْع، فاليد اليمنى من الرُّسْغ والرِّجْل الشِّمال من المَفْصِلِ.
وقوله سبحانه: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض}: الظاهر: أن الأرض في هذه الآية هي أرضُ النازلة، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابُوا فيها الذُّنُوب؛ ومنه حديثُ الذي نَاءَ بصَدْره نحو الأرْضِ المقدَّسة، وينبغي للإمام، إنْ كان هذا المحارِبُ المنفيُّ مخُوفَ الجانِبِ، يظنُّ به أن يعود إلى حِرابةٍ وإفسادٍ أنْ يسجنه في البلد الذي يغرب إلَيْهِ، وإنْ كان غير مخُوفِ الجانبِ، ترك مسرَّحاً، وهذا هو صريحُ مذهب مالك.
وقوله تعالى: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا} إشارة إلى هذه الحدود التي تُوقَعُ بهم، فيحتمل الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سَلِمَ في الدنيا، وبالجملة فهم في المشيئة.
وقوله سبحانه: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}: استثنى عز وجل التائِبَ قبل أنْ يُقْدَرَ عليه، وأخبر سبحانه بِسُقُوطِ حقوقِهِ عنْه؛ بقوله: {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، والعلماءُ على أن الآية في المؤمنين، ويؤخذ المحارِب بحقوقِ الناسِ، وإن تاب؛ هذا هو الصحيح.

.تفسير الآيات (35- 37):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة...} الآية: هذه الآية وعْظٌ من اللَّه تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعْظ؛ لأنه يرد على النفوس، وهي خائفةٌ وجِلَةٌ {وابتغوا}: معناه: اطلبوا، و{الوسيلة}: القُرْبَةُ، وأما الوسيلةُ المطلوبةُ لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهي أيضاً من هذا؛ لأن الدعاء له بالوسيلةِ والفضيلةِ إنما هو أنْ يُؤْتَاهُما في الدنيا، ويتَّصف بهما، ويكونُ ثمرةُ ذلك في الآخرةِ التشفيعَ في المَقَامِ المحمودِ، قلْتُ: وفي كلامه هذا ما لا يخفى، وقد فسر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوسيلةَ التي كان يَرْجُوها من ربه، «وأَنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الجَنَّةِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ...» الحديث، وخص سبحانه الجهادَ بالذكْر، وإن كان داخلاً في معنى الوسيلة تشريفاً له؛ إذ هو قاعدةُ الإسلام.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار}: إخبار بأنهم يتمنَّوْنَ هذا، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن: إذا فَارَتْ بهم النارُ، قَرُبُوا من حاشيتها، فحينئِذٍ يريدونَ الخُرُوجَ، ويطمعون به، وتأوَّل هو وغيره الآية على هذا؛ قلْتُ: ويؤيِّده ما خرَّجه البخاريُّ في رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ «حَيْثُ أَتَاهُ آتيَانِ، فَأَخَذَا بِيَدِهِ»، وفيه: «فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ، فَإذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رمى الرجل بِحَجَرٍ فِي فِيهِ»، وفيه أيضاً: «فَانْطَلَقْنَا إلى ثُقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ تَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارٌ، فَإذَا اقترب، ارتفعوا، فَإذَا خَمَدَتْ، رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالاَ: انطلق» الحديث، وأخبر سبحانه عن هؤلاءِ الكفَّار؛ أنهم ليسوا بخارجين من النار، بل عذابهم فيها مقيمٌ مؤبَّد.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}
وقوله سبحانه: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا...} الآيةَ: قلت: المسروقُ: مال أو غيره.
فشرط المال: أنْ يكون نصاباً، بعد خروجه، مملوكاً لغير السارقِ، ملكاً محترماً تامًّا، لا شُبهة له فيه، مُحْرَزاً، مُخْرَجاً منه إلى ما ليس بِحِرْزٍ له، استسرارا.
فالنصاب: ربعُ دينارٍ أو ثلاثةُ دراهم، أو ما يساوِي ثلاثة دراهمَ، وقوله: {أَيْدِيَهُمَا} يعني: أَيْمانَ النوعَيْن، والنَّكَال: العذابُ، والنِّكْل: القَيْد.
وقوله سبحانه: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ...} الآية: جمهورُ العلماءِ على أَنَّ توبة السارق لا تُسْقِطُ عنه القَطْعَ، وقال الشافعيُّ: إذا تاب السارق قبل أنْ يتلبَّس الحُكَّام بأخْذه، فتوبته تَدْفَعُ عنه حُكْمَ القطع؛ قياساً على توبة المُحَارِبِ.
وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} أي: فلا معقِّب لحكمه سبحانه، ولا معتَرِضَ عليه، يفعلُ ما يَشَاء لا إله إلا هو.

.تفسير الآيات (41- 43):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}
وقوله تعالى: {ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر...} الآية: تسليةٌ لنبيِّه عليه السلام وتقويةٌ لنفسه؛ بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود، والمعنى: قد وعَدْناك النصْرَ والظهورَ عليهم، فلا يحزنْكَ ما يقعُ منهم، ومعنى المسارعة في الكُفْرِ: البِدَارُ إلى نَصْره، والسعْيُ في كيد الإسلام، وإطفاءِ نوره، قال مجاهدٌ وغيره: قوله تعالى: {مِنَ الذين قَالُواْ ءَامَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} يراد به المنافقون.
وقوله: {سماعون لِلْكَذِبِ سماعون لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ}: يراد به اليهودُ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين؛ لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ، بعضَهُم مِنْ بعض، ويقبلونه؛ ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة؛ إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك.
وقوله سبحانه: {سماعون لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ}: يحتمل أنْ يريد: يَسْمَعُون منهم، وذكر الطبريُّ عن جابر؛ أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ، وقيل: يهود خَيْبَر، ويحتمل أنْ يكون معنى {سماعون لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ} بمعنى: جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ؛ لينقلوه لقوم آخرينَ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ويهودُ المدينة، قلْتُ: وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في السِّيَرِ.
قال * ع *: وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: {سماعون لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ}.
وقوله سبحانه: {يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه}: هذه صفةُ اليهود في معنى ما حرَّفوه من التوراةِ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم {مِن بَعْدِ مواضعه}، أي: من بعد أن وُضِعَ مواضِعَهُ، وقصدت به وجوهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ: استفتوا محمَّداً، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ، فخذوه، وإن أفتاكم بالرَّجْم، فاحذروا الرجْمَ؛ قاله الشعبيُّ وغيره وقيل غير هذا من وقائعهم، فالإشارة ب {هذا} إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا، على قولٍ، ثم قال تعالى لنبيِّه عليه السلام؛ على جهة قَطْع الرجاء منهم: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} أي: محنَتَهُ بالكفر، {فلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً}، ثم أخبر تعالى عنهم؛ أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه ألاَّ يطهِّر قلوبَهُم، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر، {لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ}؛ بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ، وفي كلِّ أُمَّة.
قال * ص *: {سماعون}، أي: هم سمَّاعون، ومثله أكَّالون. انتهى.
وقوله سبحانه: {أكالون لِلسُّحْتِ}: فعَّالون؛ بناءُ مبالغة، أي: يتكرَّر أَكْلُهم، ويَكْثُر، والسُّحْت: كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال.
وقوله تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}: تخييرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده، وقال ابنُ عباس وغيره: هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه:
{وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 49]، وقال كثيرٌ من العلماء: هي مُحْكَمَة، وهذا هو الأظهر؛ إن شاء اللَّه، وفِقْهُ هذه الآية أنَّ الأَمَّة مُجْمِعَة فيما علمتُ على أنَّ حاكم المسلمين يحْكُمُ بيْنَ أهْل الذمَّة في تظالمهم، وأمَّا نوازل الأحْكَام التي لا تَظَالُمَ فيها، فالحاكمُ مخيَّر، وإذا رضي به الخَصْمان، فلابد مِنْ رِضَى أساقِفَتِهِمْ أو أحبارهم؛ قاله ابن القاسِمِ في العتبية، قلت: وعبارة الداوديُّ قال مالك: ولا يَحْكُمُ بينهم، إذا اختار الحكم إلا في المظالمِ، فيحكم بينهما بما أنزل اللَّه، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أنْ يعلنوه، فيعاقَبُونَ بسبب إعلانه، ثم يردُّون إلى أساقفتهم، قال مالك: وإنما رجم النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهودِيَّيْنِ قبل أنْ تكون لهم ذمَّة. انتهى.
وقال ابنُ العربيِّ في أحكامه: إنما أَنْفَذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ بينهم؛ ليحقِّق تحريفَهُم، وتبديلَهم، وكَذِبَهم، وكَتْمَهم مَا في التوراة، ومنْه صفتُهُ صلى الله عليه وسلم فيها، والرجْمُ على زناتهم، وعنه أخبر اللَّه تعالى بقوله: {ياأهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [المائدة: 15]؛ فيكون ذلك من آياته الباهرةِ، وحُجَجِهِ البيِّنة، وبراهينِهِ القاطعةِ الدَّامغة للأَمَّة المُخْزية اليهودية. انتهى.
وقوله تعالى: {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً}: أمَّنَ اللَّه سبحانَهُ نبيَّه من ضررهم، إذا أعْرَضَ عنهم، وحقَّر في ذلك شأنهم، {وَإِنْ حَكَمْتَ}، أي: اخترت الحكْمَ في نازلةٍ مَّا، {فاحكم بَيْنَهُم بالقسط}، أيْ: بالعدل، ثم قال سبحانه: {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ} المعنى: وكيفَ يحكِّمونك بنيَّةٍ صادقةٍ، وهم قد خالفوا حُكْمَ التوراة التي يصدِّقون بها، وتولَّوْا عن حُكْمِ اللَّه فيها؛ فأنْتَ الذي لا يؤمِنُونَ بك أحرى بأن يخالفوا حُكْمَك، وهذا بيِّن أنهم لا يحكِّمونه عليه السلام إلا رغبةً في ميله إلى أهوائهم.
وقوله سبحانه: {مِن بَعْدِ ذلك}، أي: مِنْ بعد كونِ حكمِ اللَّه في التوراة في الرجْمِ وما أشبهه.
وقوله تعالى: {وَمَا أولئك بالمؤمنين} يعني: بالتوراة وبموسى.

.تفسير الآية رقم (44):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
وقوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدىً}، أي: إرشاد في المعتقَدِ والشرائعِ، والنورُ: ما يستضاء به مِنْ أوامرها ونواهيها، و{النبيون الذين أَسْلَمُواْ}: هم مَن بُعِثَ من لدنْ موسَى بنِ عمرانَ إلى مدة نبيِّنا محمَّد عليه السلام، وأسلموا: معناه أخْلَصُوا وجوهَهُم ومقاصِدَهم للَّه سبحانه، وقوله: {لِلَّذِينَ هَادُواْ}: متعلِّق ب {يَحْكُمُ} أي: يَحْكُمُونَ بمقتضَى التوراةِ لبني إسرائيل وعليهم، {والربانيون}: عطف على النبيِّين، أي: ويحكم بها الرَّبَّانِيُّون، وهم العلماءُ، وقد تقدَّم تفسير الرَّبَّانِيِّ، والأحْبَارُ أيضاً: العلماءُ، واحدُهم: حِبْرٌ بكسر الحاء، وفتحها، وكثُر استعمال الفَتْح؛ فرقًا بينه وبين الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به، وإنما اللفظ عامٌّ في كلِّ حَبْرٍ مستقيمٍ فيما مضى من الزمان قبل مبعَثِ نبيِّنا محمد عليه السلام.
وقوله سبحانه: {بِمَا استحفظوا}، أي: بسبب استحفاظ اللَّه تعالى إياهم أمر التَّوْراة، وأخْذِهِ العهدَ علَيْهم؛ في العملِ والقَوْلِ بها، وعرَّفهم ما فيها، فصَارُوا شُهَداء عليه، وهؤلاء ضيَّعوا لَمَّا استحفظوا؛ حتى تبدَّلتِ التوراةُ، والقُرآنُ بخلافِ هذا؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9].
وقوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون}: حكايةٌ لما قيل لعلماء بني إسرائيل.
وقوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً}: نَهْيٌ عن جميع المكاسِبِ الخبيثةِ بالعلْمِ والتحيُّلِ للدنيا بالدِّين، وهذا المعنى بعينه يتناوَلُ علماء هذه الأمة وحُكَّامَها، ويحتملُ أنْ يكون قوله: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس...} إلى آخر الآية خطاباً لأمَّة نبينا محمد عليه السلام.
واختلف العلماء في المراد بقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون}.
فقالتْ جماعة: المرادُ: اليهودُ بالكافرين والظَّالمين والفاسِقِينَ؛ وروي في هذا حديثٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طريق البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ؛ قال الفَخْر: وتمسَّكت الخوارجُ بهذه الآية في التكْفِير بالذَّنْب، وأجيبَ بأنَّ الآية نزلَتْ في اليهود، فتكون مختصَّة بهم، قال الفَخْر: وهَذا ضعيفٌ؛ لأن الاعتبار بعمومِ اللفظِ، لا بخصوصِ السبَبِ.
قلْتُ: وهذه مسألةُ خلافٍ في العامِّ الوارِدِ على سببٍ، هَلْ يبقى على عمومه، أو يُقْصرُ على سببه؟ انتهى.
وقالتْ جماعة عظيمةٌ من أهل العلمِ: الآيةُ متناولة كلَّ مَنْ لم يحكُمْ بما أنزل اللَّه، ولكنَّها في أمراء هذه الأمَّة كُفْرُ معصية؛ لا يخرجهم عن الإيمان، وهذا تأويلٌ حسن، وقيل لحذيفة بْنِ اليَمَان: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل، فقال: نِعْمَ الإخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ، إنْ كَانَتْ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ، وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُم قُذَّ الشِّرَاكِ.