فصل: تفسير الآية رقم (105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (105):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم...} الآية: قال أبو ثعلبة الخُشَنِيُّ: سَأَلتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ هذه الآيةِ، فَقَالَ: «ائتمروا بِالمَعْرُوفِ وانهوا عَنِ المُنْكَرِ، فَإذَا رَأَيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَشُحًّا مُطَاعاً، وإعْجَابَ كُلِّ ذِيَ رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَّةِ نَفْسِكَ، وذَرْ عَوَامَّهُمْ؛ فَإنَّ وَرَاءَكِمُ أَيَّاماً؛ أَجْرُ العَامِلِ فِيهَا كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي لاَ نَظَرَ لأحَدٍ مَعهُ؛ لأنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِلصَّلاَحِ صادرٌ عن النبيِّ عليه السلام، وجملةُ ما عليه أهْلُ العِلْمِ في هذا أنَّ الأمر بالمعروفِ متعيِّن، متى رُجِيَ القبولُ، أو رُجِيَ ردُّ الظالم، ولو بعنف ما لم يَخَفِ الآمرُ ضرراً يلحقه في خاصَّته، أو فتنةً يُدْخِلُها على المُسْلمين؛ إما بشَقِّ عَصَا، وإما بضَرَرٍ يلحق طائفةً من الناس، فإذا خيف هذا، ف {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}: محكَمٌ واجبٌ أنْ يوقَفَ عنده.
وقوله سبحانه: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، هذا تذكيرٌ بالحَشْر وما بعده، وذلك مُسَلٍّ عن أمور الدنيا، مكروهِهَا ومحبوبِها، رُوِيَ عن بعض الصالحين؛ أنه قال: ما مِنْ يَوْمٍ إلاَّ ويجيءُ الشيطانُ، فيقول: ما تأكلُ، وما تلبسُ، وأين تَسْكُنُ، فأقول له: آكُلُ المَوْتَ، وألْبَسُ الكَفَنَ، وأسْكُنُ القَبْرَ.
قال * ع *: فَمَنْ فكَّر في مرجعه إلى اللَّه سبحانه، فهذا حاله، قلْتُ: وخرَّج البغويُّ في المسنَدِ المنتَخَبِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالاً تَعْزُبُ عَنْكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَتُوشِكُ العَوَازِبُ أَنْ تَؤوبَ إلى أَهْلِهَا، فَمَسْرُورٌ بِهَا، وَمَكْظُومٌ» انتهى من الكوكب الدري، واللَّه المستعان.

.تفسير الآيات (106- 108):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان...} الآيةَ، إلى قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] قال مكِّيٌّ: هذه الآياتُ عند أهْل المعانِي مِنْ أشكل ما في القرآن إعراباً، ومعنًى، وحُكْماً.
قال * ع *: وهذا كلام من لم يقع له الثَّلَجُ في تفسيرها؛ وذلك بيِّن من كتابه، وباللَّه نستعين.
لا نَعْلَمُ خلافاً أن سبب هذه الآيةِ أنَّ تميماً الدَّارِيَّ وعَدِيَّ بْن بَدَّاء، وكانا نصرانيَّيْنِ، سافرا إلى المدينةِ، يريدانِ الشامَ؛ لتجارتهما، وقَدِمَ المدينة أيضاً ابْنُ أَبِي مَارِية مولى عَمْرِو بنِ العاصِي، يريد الشامَ تاجِراً، قال الفخْر: وكان مُسْلماً، فخرَجُوا رفاقة، فمرض ابنُ أبي مارية في الطريقِ، وأوصى إلى تميمٍ وعديٍّ؛ أنْ يؤدِّيَا رَحْلَهُ إلى أوليائه من بني سَهْم، وروى ابْنُ عباس عن تميمٍ الداريِّ؛ أنه قال: بَرِئ النَّاسُ من هذه الآيةِ غيري وغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاء، وذكر القصَّة، إلا أنه قال: وكان معه جَامُ فِضَّةٍ، يريد به المُلْكَ، فأخذتُهُ أَنَا وعديٌّ، فبْعنَاه بألفٍ، وقَسَّمنا ثمنه، فلما أسلَمْتُ بعد قُدُومِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينةَ، تَأَثَّمْتُ من ذلك، فأتيْتُ أهْلَهُ، فأخبرتهم الخبر، وأدَّيْتُ خمسمائة، فوثَبُوا إلى عَدِيٍّ فأتوا به رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وحلَفَ عمْرُو بن العاصِي، ورجُلٌ آخر معه، ونُزِعَتْ من عَدِيٍّ خَمْسُمِائَةٍ.
قال * ع *: واختلفتِ ألفاظ هذه القصَّة، وما ذكرتُهُ هو عمود الأمْر، ولم تصحَّ لعديٍّ صُحْبة فيما عَلِمْتُ، ولا ثبت إسلامه، وقد صنَّفه في الصحابة بعْضُ المتأخِّرين، ولا وجه عندي لذكْره في الصَّحابة.
وأما معنى الآية مِنْ أولها إلى آخرها، فهو أن اللَّه سبحانه أخبر المؤمنين أنَّ حكمه في الشهادةِ عَلَى المُوصِي، إذا حضره الموتُ: أنْ تكونَ شهادة عَدْلَيْنِ، فإن كان في سَفَرٍ، وهو الضَّرْب في الأرض، ولم يكن معه من المؤمنين أحدٌ، فليُشْهِدْ شاهدَيْنِ ممن حَضَرَهُ مِنْ أهْل الكُفْر، فإذا قدما، وأَدَّيا الشهادةَ على وصيَّته، حَلَفَا بعد الصَّلاة؛ أنهما ما كَذَبَا، ولا بَدَّلاَ، وأنَّ ما شهدْنَا به حقٌّ ما كتمنا فيه شهادةَ اللَّه، وحُكِمَ بشهادتهما، فإن عُثِرَ بعد ذلك على أنهما كَذَبَا، أو خَانَا، أو نَحْوِ هذا ممَّا هو إثْم، حَلَفَ رُجلانِ مِنْ أولياء المُوصِي في السفر، وغُرِّمَ الشاهدانِ ما ظَهَرَ علَيْهما، هذا معنى الآيةِ على مذهب أبي موسَى الأشعريِّ، وابن عبَّاس، وسعيدِ بْنِ المسيَّب، ويحيى بن يَعْمَرَ، وابنِ جُبَيْر، وأبي مِجْلَزٍ، وإبراهيم، وشُرَيْحٍ، وعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وابن سِيرِينَ، ومجاهدٍ وغَيْرِهم، قالوا: ومعنى قوله: {مِّنكُمْ}، أي: مِنَ المؤمنين، ومعنى: {مِنْ غَيْرِكُمْ}، أي: من الكافرين.
قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلَتْ، ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون في التِّجارة مع أنواع الكَفَرة، واختلفتْ هذه الجماعةُ المذْكُورة، فمذهبُ أبي مُوسَى الأشعريِّ وغيره؛ أن الآية مُحْكَمَةٌ، ومذهب جماعة منهم؛ أنها منسوخةٌ؛ بقوله:
{وَأَشْهِدُواْ ذَوِيْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ} [الطلاق: 2]؛ وبما عليه إجماعُ جمهور النَّاس؛ أن شهادة الكُفَّار لا تجوزُ،
قال * ع *: ولنرجع الآنَ إلى الإعراب، ولنقصِدِ القَوْل المفيدَ؛ لأن الناس خَلَطُوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً، وذِكْرُ ذلك والرَّدُّ عليه يطولُ، وفي تَبْيِينِ الحَقِّ الذي تتلَقَّاه الأذهانُ بالقَبُول مَقْنَعٌ، واللَّه المستعان.
فقوله تعالى: {شهادة بَيْنِكُمْ}، هي الشهادةُ التي تُحْفَظُ لتؤدى، ورفعها بالابتداء، والخَبَرُ في قوله: {اثنان}، وقوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت}: إذا قارب الحضُورَ، والعاملُ في {إذا} المصدرُ الذي هو {شهادة}، وهذا على أنْ تجعل {إذا} بمنزلة حِينَ، لا تحتاج إلى جوابٍ، ولك أن تجعل {إذا} في هذه الآية المحتاجةَ إلى الجوابِ، لكن استغني عن جوابها بما تقدَّم في قوله: {شهادة بَيْنِكُمْ}؛ إذ المعنى: إذا حَضَر أحدَكُمُ المَوْتُ، فينبغي أن يُشْهِدَ، وقوله: {حِينَ الوصية}: ظرْفُ زمانٍ، والعاملُ فيه {حَضَرَ}، وإنْ شِئْتَ، جعلته بَدَلاً مِنْ إذا، وقوله: {ذَوَا عَدْلٍ}: صفة لقوله: {اثنان}، و{مِّنكُمْ}: صفةٌ أيضاً بعد صفةٍ، وقوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ}: صفةٌ ل {ءَاخَرَانِ} وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا}: صفة ل {ءَاخَرَانِ} أيضاً، واعترض بَيْن الموصوفِ والصفةِ بقوله: {إِنْ أَنتُمْ}، إلى {الموت}، وأفاد الاِعتراضُ أنَّ العدول إلى آخرَيْنِ من غَيْر الملَّة، إنما يكونُ مع ضَرُورة السَّفَر، وحلولِ الموتِ فيه، واستغني عن جواب {إنْ}؛ لِمَا تقدَّم من قوله: {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، وقال جمهورٌ مِن العلماء: الصلاةُ هنا صلاةُ العَصْر، وقال ابنُ عباس: إنما هي صلاة الذِّمِّيِّين، وأما العصر، فلا حُرْمَة لها عنْدَهما، والفاءُ في قوله: {فَيُقْسِمَانِ}: عاطفةٌ جملةً على جملةٍ؛ لأن المعنى تَمَّ في قوله: {مِنْ بَعْدِ الصلاة}، وقوله: {إِنِ ارتبتم} شرطٌ لا يتَّجه تحليفُ الشاهدَيْن إلا به، والضميرُ في قول الحالِفَيْن: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ}: عائدٌ على القَسَمِ، أو على اسم اللَّهِ، وقوله: {لاَ نَشْتَرِي} جوابٌ يقتضيه قوله: {فَيُقْسِمَانِ بالله}؛ لأن أقسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الإيْمَانُ، وقوله: {ثَمَناً}، أي: ذا ثَمَنٍ، وخُصَّ ذو القربى بالذِّكْر؛ لأن العرب أمْيَلُ النَّاس إلى قراباتهم، واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يُسْتَسْهَل، وقوله: {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله}، أضاف الشهادةَ إلَيْه تعالى مِنْ حيث هو الآمِرُ بإقامتها، الناهِي عن كتمانها، وروي عن الشِّعْبِيِّ وغيره: شَهَادَةً بالتنوين، اللَّه بقطع الألف دون مَدٍّ وخفضِ الهاءِ، وقال أيضاً: يقف على الهاء مِن: شهادة بالسكون، ثم يقطع الألفَ المكتوبَةِ منْ غير مَدٍّ؛ كما تقدَّم، ورُوِيَ عنه كان يقرأ: {آللَّهِ} بمد ألفِ الإستفهامِ في الوجْهَيْن، أعني: بسكون الهاء من شهادة، وتحريكها منوَّنةً منصوبةً، ورُوِيَتْ هذه التي هي تَنْوينُ شهادة، ومدُّ ألف الاستفهام بَعْدُ عن عَلِيِّ بن أبي طالب، قال أبو الفَتْح: إنما تُسَكَّن هاء شهادة في الوقْف عليها.
وقوله سبحانه: {فَإِنْ عُثِرَ}: استعارة لما يُوقَعُ على علمه بعد خَفَائه، و{استحقا إِثْماً}: معناه: استوجباه مِنَ اللَّه، وكانا أهْلاً له؛ لأنهما ظَلَمَا وخَانَا.
وقوله تعالى: {فَآخَرَانِ}، أي: إذا عُثِرَ على خيانتهما، فَالأَوْلَيَانِ باليمينِ وإقامةِ القضية: آخرَانِ من القَوْم الذين هُمْ ولاة المَيِّت، واستَحَقَّ عليهم حظُّهم، أو نصيبهم، أو مالهم، أو مَا شِئْتَ من هذه التقديراتِ، وقرأ نافعٌ وغيره: {استحق} مضمومةَ التاءِ، {والأَوْلَيَانِ}؛ على تثنية الأولى، ورُوِيَ عنِ ابنِ كَثِيرٍ: {استحق} بفتح التاء؛ وكذلك روى حَفْصٌ عن عاصم.
وفي قوله: {استحق}: استعارة؛ لأنه وَجْه لهذا الاستحقاق إلاَّ الغلبة على الحالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعَدَمه لقرابَتِه أو لأهل دِينه، فاستحق هنا كما تقول لظالمٍ يظلمُكَ: هذا قَدِ استحق علَيَّ مالِي أوْ مَنْزِلِي بظلمه، فتشبهه بالمستَحِقِّ حقيقةً؛ إذْ تصوَّر تصوُّره، وتملَّك تملُّكه؛ وهكذا هي {استحقَّ} في الآية على كلِّ حال، وإنْ أسندتَّ إلى النصيب ونحوه.
وقرأ حمزة وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر: {استحق} بضم التاء، {الأَوَّلِينَ}: على جَمْعِ أوَّل؛ ومعناها: من القومِ الذين استحق عليهم أمْرُهُمْ؛ إذْ غُلِبُوا علَيْه، ثم وصَفَهم بأنَّهم أوَّلُون، أي: في الذِّكْر في هذه الآية، وذلك في قوله: {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ}، ثم بعد ذلك قال: {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، وقوله: {فَيُقْسِمَانِ}، يعني: الآخَرَيْنِ اللذَيْنِ يقُومانِ مَقَامَ شاهِدَيِ الزُّورِ، وقولُهما: {لشهادتنا}؛ أي: لَمَا أَخْبَرْنَا نَحْنُ به، وذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ القصَّة أحقُّ مما ذَكَراه أوَّلاً وحرَّفاه، {وَمَا اعتدينا}؛ في قولنا هذا، وقولُهما: {إِنَّا إِذَاً لَمِنَ الظالمين}: تَبَرٍّ في صيغة الاِستعظامِ والاِستقباحِ للظُّلْمِ.
وقوله تعالى: {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم...} الآية: الإشارة ب {ذلك} هي إلى جميع مَا حَدَّ قَبْلُ؛ مِنْ حَبْسِ الشاهدَيْن من بعد الصلاة لليمينِ، ثم إنْ عثر على جَوْرهما، رُدَّتِ اليمينُ، وغَرِمَا، فذلك كلُّه أقربُ إلى اعتدال هذا الصِّنْف فيما عسى أنْ ينزل من النوازلِ؛ لأنهم يخافُونَ الفضيحة، وردَّ اليمين؛ هذا قولُ ابنِ عبَّاس، وجُمِعَ الضميرُ في {يَأْتُواْ} أو {يخافوا}؛ إذ المرادُ صِنْفٌ ونوعٌ من الناسِ، والمعنى: ذلك الحُكْم كلُّه أقربُ إلى أنْ يأتوا، وأقربُ إلى أنْ يخافوا، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآيات (109- 111):

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل}؛ ذهب قومٌ إلى أن العاملَ في {يَوْمٍ}: ما تقدَّم مِنْ قوله تعالى: {لاَّ يَهِدِّي}، وذلك ضعيفٌ، ورصْفُ الآيةِ وبراعَتُها إنما هو أنْ يكونَ هذا الكلامُ مستأنَفاً، والعاملُ مقدَّر، إما اذكر، أو: تَذَكَّرُوا، أو احذروا، ونحو هذا ممَّا حَسُنَ اختصاره؛ لعِلْم السامعِ به، والإشارة بهذا اليوم إلى يومِ القيامةِ، وخُصَّ الرسلُ بالذكْر؛ لأنهم قادةُ الخَلْق، وهم المكلَّمون أوَّلاً، و{مَاذَا أَجَبْتُمُ}: معناه: ماذا أجابَتْكُمْ الأُمَمُ، وهذا السؤالُ للرُّسُل إنما هو لتقُومَ الحجة على الأممِ، واختلف الناسُ في معنى قولهم عليهم السلام: {لاَ عِلْمَ لَنَا}: قال الطبريُّ: ذُهِلُوا عن الجوابِ، لهولِ المَطْلَع؛ وقاله الحسنُ، وعن مجاهدٍ؛ أنه قال: يَفْزَعُون، فيقولُون: لا علْمَ لنا، وضعَّف بعضُ النَّاس هذا المنْزَع؛ بقوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103]، وقال ابنُ عبَّاس: معنى الآية: لاَ عِلْمَ لنا إلا ما علَّمتنا؛ أنْتَ أعلم به منَّا، وقولُ ابنِ عباس حَسَن، وهو أصوبُ هذه المناحِي؛ لأنه يتخرَّج على التسليم للَّه تعالى، وردِّ الأمر إلَيْه؛ إذ هو العالِمُ بجميعِ ذلك؛ على التَّفْصيل والكمالِ، فرأَوُا التسليمَ والخضوعَ لعلْمه المحيطِ سبحانه، قال مكِّيٌّ: قال ابنُ عباس: المعنى: لا علم لنا إلاَّ عِلمٌ أنت أعلَمُ به منَّا، وهو اختيار الطبريِّ، وقيل: لما كان السؤالُ عامًّا يقتضي بعمومه سؤالَهُم عَنْ سِرِّ الأمم وعلانِيَتِها، رَدُّوا الأمر إلَيْهِ؛ إذ ليس عندهم إلاَّ علْمُ الظاهر؛ قال مكِّيٌّ: وهذا القولُ أحبُّ الأقوالِ إلَيَّ، قال: ومعنى مسألة اللَّه الرُسلَ عمَّا أَجِيبُوا، إنما هو لمعنَى التوبيخِ لمَنْ أُرْسِلُوا إلَيْه؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} [التكوير: 8]، انتهى من الهداية.
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ...} الآية: {قَالَ} هنا بمعنى يَقُولُ؛ لأن ظاهر هذا القولِ أنه في القيامة؛ تقدمة لقوله سبحانه: {ءَأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116].
وقوله سبحانه: {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى}، أي: من قبورهم، وكفُّ بني إسرائيل عنه عليه السلام هو رَفْعُهُ حِينَ أحاطوا به في الَبيْتِ مع الحواريِّين، وكذلك مَنْعُه منْهم قَبْل ذلك إلى تلك النازلةِ الأخيرةِ، فهناك ظَهَر عِظَمُ الكَفِّ.
وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين}، هو مِنْ جملة تعديدِ النِّعمِ على عيسَى عليه السلام: و{أَوْحَيْتُ}؛ في هذا الموضع: إما أن يكون وحْيَ إلهامٍ أَو وحْيَ أمْرٍ، وبالجملةِ فهو إلقاءُ معنًى في خفاءٍ، أوْصَلَهُ سبحانه إلى نفوسهم، كيف شاء، والرسولُ في هذه الآية: عيسى، وقولُ الحواريِّين: {واشهد}: يحتملُ أن يكون مخاطبةً منهم للَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون لعيسى.

.تفسير الآيات (112- 113):

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)}
وقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ الحواريون...} الآية: اعتراضٌ أثناء وَصْفِ حالِ قول اللَّه لعيسى يوم القيامة، مضمَّن الاعتراض إخبارُ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأمته بنازلةِ الحواريِّين في المائدة، إذ هي مثالٌ نافعٌ لكلِّ أُمَّة مع نبيِّها تقتدِي بمحاسِنِهِ، وتزدجرُ عمَّا ينفُر منه مِنْ طلب الآياتِ ونحوه، وقرأ الجمهورُ: {هَلْ يَسْتَطِيعُ ربُّك} بالياءِ ورَفْعِ الباءِ من {رَبُّكَ}، والمعنى: هلْ يفعلُ ربُّك هذا، وهلْ تَقَعُ منه إجابةٌ إليه، ولم يكُنْ منهم هذا شَكًّا في قدرة اللَّه سبحَانَهُ؛ إذ هم أعرفُ باللَّه مِنْ أنْ يشكُّوا في قُدْرته، وقرأ الكسائيُّ: {هلْ تسْتَطِيعُ رَبَّكَ} بالتاء ونصبِ الباءِ مِنْ {رَبَّكَ}، والمعنى: هل تَسْتطيعُ سؤَالَ ربِّك، وأدغم اللام في التاء، أعني الكسائيَّ، وقال قومٌ: قال الحواريُّون هذه المقالةَ فِي صَدْر الأمر قبل عِلْمهم بأنه يُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ، ويُحْيِي الموتى، ويظهر من قوله عليه السلام: {اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: إنكارٌ لقولهم، واقتراحهم الآياتِ، والتعرُّضِ لسَخطِ اللَّه بها، وقلَّةِ طُمَأْنينتهم إلى ما قد ظهر، ولمَّا خاطبهم عليه السلام بهذه المخاطَبَة، صرَّحوا بمقاصدهم الَّتي حملَتْهم على طَلَب المائدةِ، فقالوا: {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا}؛ فنَشْرُفَ في العالَم، {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا}، أي: تسكُنَ فِكرُنَا في أمرك بالمعايَنَةِ لأَمْرٍ نازلٍ من السماء بأعيننا، {وَنَعْلَمَ} علْمَ الضرورةِ والمشاهدةِ؛ {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا}؛ فلا تَعْرِضُنا الشُّبَهُ التي تَعْرِضُ في عِلْم الاستدلالِ؛ وهذا يؤيِّد أنَّ مقالتهم كانَتْ في مبدأ أَمْرهم، ثم استمروا على إيمانهم، وصَبَرُوا، وهَلَكَ مَنْ كَفَر، وقولهم: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين}، أي: من الشاهدينَ بهذه النازلةِ، النَّاقلين لها إلى غيرنا الدَّاعين إلى هذا الشَّرْع؛ بسببها، ورُوِيَ أن الذي نَحَا بهم هذا المنحى مِنَ الاقتراح هو أنَّ عيسى قال لهم مرَّةً: هَلْ لَكُمْ فِي صِيَامِ ثَلاَثِينَ يَوْماً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ إنْ سَأَلْتُمُوهُ حَاجَةً، قَضَاهَا، فَلَمَّا صَامُوهَا، قَالُوا: يا معلِّم الخَيْر، إنَّ حقَّ مَنْ عمل عملاً أنْ يُطْعَمَ، فَهَلْ يستطيعُ ربُّكَ، فأرادوا أنْ تكون المائدةُ عِيدَ ذلك الصَّوْم.