فصل: تفسير الآيات (151- 153):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (151- 153):

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
وقوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}: هذا أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه عليه السلام أنْ يدعو جميع الخَلْق إلى سماع تلاوة ما حَرَّم اللَّه بشَرْع الإسلام المبعوثِ به إلى الأسود والأحمر، و{مَا} نصبَتْ بقوله: {اتل}، وهي بمعنى الَّذِي، وأنْ، في قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} في موضع رفع، التقدير: الأمر أنْ، أو ذَاكَ أنْ، وقال كعب الأحبار: هذه الآية هي مفتتحُ التوراة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ... إلى آخر الآيات، وقال ابن عباس: هذه الآيات هي المحْكَمَات المذْكُورة في آل عمران، اجتمعت عليها شرائعُ الخَلْقِ، ولم تنسخ قطُّ في ملة، وقد قيل: إنها العَشْر الكلمات المنزَّلة على موسى، والإملاق: الفَقْر وعدَمُ المال؛ قاله ابن عباس وغيره، قال القُشَيْريُّ: خوفُ الفقر قرينةُ الكفر، وحُسْنُ الثقةِ بالرَّبِّ سبحانه نتيجةُ الأَيمان. انتهى من التحبير.
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ}، قال مجاهد: {التي هِيَ أَحْسَنُ}: التجارة فيه، والأَشُدُّ هنا: الحَزْمُ والنظرُ في الأمور وحُسْنُ التصرُّف فيها، وليس هذا بالأَشُدِّ المقرونِ بالأربعين، بل هذا يكون مع صِغَر السِّنِّ في ناسٍ كثيرٍ.
وقوله سبحانه: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان}: أمر بالاعتدال.
وقوله سبحانه: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}: يقتضي أن هذه الأوامر إنما هِيَ فيما يقع تَحْتَ قُدْرة البَشَر من التحفُّظ والتحرُّز.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا}: يتضمَّن الشهاداتِ والأحكامَ والتوسُّطَ بيْنَ الناسِ وغيْرَ ذلك، أي: ولو كان ميل الحقِّ على قراباتكم.
وقوله سبحانه: {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه}: الإشارة ب {هذا} هي إلى الشرعِ الذي جَاءَ بِهِ نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال الطبريُّ: الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدَّمت مِنْ قوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ}، وقال ابن مسعود: إن اللَّه سبحانه جَعَلَ طريقه صراطاً مستقيماً طرفه محمَّد صلى الله عليه وسلم وشرعه، ونهايتُه الجنَّة، وتتشعَّب منه طُرُقٌ، فمن سَلَك الجادَّة نجا، ومن خَرَج إلى تلْكَ الطرُقِ أفْضَتْ به إلى النَّار، وقال أيضاً: خطَّ لنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً خطًّا، فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ وَعَنْ شِمَالِهِ خُطُوطاً، فَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ على كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهَا»، ثم قرأ هذه الآية.
قال * ع *: وهذه الآية تعمُّ أهل الأهواء والبِدَع والشُّذُوذ في الفُرُوع وغير ذلك من أهل التعمُّق في الجَدَلِ، والخَوْضِ في الكلامِ، هذه كلُّها عُرْضَة للزَّلَل، ومَظِنَّة السوء المعتقَدِ، و{لَعَلَّكُمْ} ترجٍّ بحسبنا، ومن حيث كانَتِ المحرَّمات الأوَلُ لا يقع فيها عاقلٌ قد نظر بعَقْله، جَاءَتِ العبارةُ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، والمحرَّمات الأُخَرُ شهواتٌ، وقد يقع فيها من العقلاءِ مَنْ لم يتذكَّر، وركوبُ الجادَّة الكاملة يتضمَّن فعل الفضائلِ، وتلك درجةُ التقوى.

.تفسير الآيات (154- 157):

{ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}
وقوله سبحانه: {ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ}، {ثُمَّ}؛ في هذه الآية: إنما مُهْلَتها في ترتيب القولِ الذي أمر به نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال: ثم ممَّا قضَيْناه أنَّا آتينا موسَى الكتاب؛ ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدِّم بالزمانِ على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وتلاوته ما حرَّم اللَّه، و{الكتاب}: التوراةُ، و{تَمَاماً}: مصدر، وقوله: {عَلَى الذي أَحْسَنَ}: مختلفٌ في معناه، فقالت فرقة: {الذي} بمعنى الَّذِينَ و{أَحْسَنَ}: فعلٌ ماضٍ صلَةُ الذين، وكأن الكلام: وآتينا موسَى الكتابَ تفضُّلاً على المحسنين من أهْل ملَّته، وإتماماً للنعمة عليهم، وهذا تأويل مجاهد؛ ويؤيِّده ما في مصحف ابْنِ مسعود: {تَمَاماً عَلَى الَّذِينَ أحْسَنُوا}، وقالت فرقة: المعنى: تماماً على ما أحْسَنَ هو مِنْ عبادة ربِّه، يعني: موسى عليه السلام وهذا تأويل الربيع وقتادة، وقالت فرقة: المعنى: تماماً على الذي أحسن اللَّه فيه إلى عبادة من النبوُّات وسائر النعم؛ و{بِلَقَاء رَبِّهِمْ}، أي: بالبعث.
وقوله سبحانه: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، {هذا} إشارة إلى القرآن، و{مُّبَارَكٌ}: وصف بما فيه من التوسُّعات وأنواعِ الخَيْرات، ومعناه: مُنَمًّى خيره مُكثَّر، والبركةُ: الزيادةُ والنموُّ، {فاتبعوه}: دعاء إلى الدِّين، {واتقوا}: أمر بالتقوَى العامَّة في جميع الأشياء؛ بقرينةِ قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، و{أنْ} في قوله: {أَن تَقُولُواْ} في موضعِ نصبٍ، والعاملُ فيه: {أنزلناه}، والتقدير: وهذا كتاب أنزلناه؛ كراهيةَ أنْ تقولوا، والطائفتان: اليهودُ والنصارى بإجماع المتأوِّلين، والدِّرَاسَة: القراءةُ والتعلُّم بها، ومعنى الآية: إزالة الحجة مِنْ أيدي قُرَيْشٍ وسائرِ العربِ، ولما تقرَّر أن البينة قد جاءَتْهم، والحجَّةَ قد قامَتْ عليهم حَسُنَ بعد ذلك أنْ يقع التقريرُ بقوله سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله وَصَدَفَ عَنْهَا}، أيْ: حَادَ عنها، وزَاغَ، وأعرض، و{سَنَجْزِي الذين}: وعيدٌ.

.تفسير الآية رقم (158):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}
وقوله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ}، أي: ينتظرُونَ، يعني: العربَ المتقدِّمَ الآن ذكرهُم، و{الملائكة} هنا: هم ملائكة المَوْت الذين يصحبون عزرائيل المخْصُوصَ بقَبْض الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابنُ جْرَيْج.
وقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}، قال الطبريُّ: لموقف الحساب يَوْمَ القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعةٍ من المتأوِّلين، وقال الزَّجَّاج: إن المراد: أو يأتي عذاب ربك.
قال * ع *: وعلى كلِّ تأويل فإنما هو بحذفِ مضافٍ، تقديره: أمر ربك، أو بَطْش رَبِّك، أو حسابُ ربك، وإلا فالإتيانُ المفهومُ من اللغة مستحيلٌ على اللَّه تعالى؛ ألا ترى أن اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: {فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} [الحشر: 2]؛ فهذا إتيان قد وقع، وهو على المجازِ، وحذفِ المضافِ.
قال الفَخْر: والجواب المعتمَدُ عليه هنا أنَّ هذا حكايةُ مذهب الكفَّار، واعتقادِهِم، فلا يفتقر إلى تأويله، وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علاماتُ القيامةِ. انتهى.
قلتُ: وما ذكره الفَخْر من أن هذا حكايةُ مذهب الكفار هي دعوى تفتقر إلى دليلٍ.
وقوله سبحانه: {أَو يَأْتِيَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ}، قال مجاهد وغيره هي إشارة إلى طلوعِ الشمْسِ من مغربها؛ بدليلِ الَّتي بعدها.
قال * ع *: ويصحُّ أن يريد سبحانه بقوله: {أَو يَأْتِيَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ} جميعَ ما يُقْطَعُ بوقوعه من أشراط الساعة، ثم خصَّص سبحانه بعد ذلك بقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءايات رَبِّكَ} الآيةَ التي ترتفع التوبةُ معها، وقد بيَّنت الأحاديثُ الصِّحاح في البخاريِّ ومسلمٍ؛ أنها طلوع الشمس مِنْ مغربها، ومقْصِدُ الآية تهديدُ الكفَّار بأحوالٍ لا يخلُونَ منها، وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْراً}؛ يريد: جميعَ أعمال البرِّ، وهذا الفَصْل هو للعُصَاة من المؤمنين؛ كما أن قوله: {لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ} هو للكافرين، فالآية المشارُ إليها تقْطَعُ توبة الصِّنْفَيْنِ، قال الداووديُّ: قوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْراً}، يريد أن النفس المؤمنة التي ارتكبت الكبائر لا تُقْبَلُ منها التوبة يومئذ، وتكونُ في مشيئة اللَّه تعالى؛ كأن لم تَتُبْ، وعن عائشة رضي اللَّه عنها: إذا خرجَتْ أول الآيات، طُرِحَتِ الأقلامُ، وحُبِسَتِ الحَفَظَةُ، وشَهِدَتِ الأجساد على الأعمال. انتهى.
وقوله سبحانه: {قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}: لفظٌ يتضمَّن الوعيد.

.تفسير الآيات (159- 161):

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، قال ابن عباس وغيره: المراد ب {الذين} اليهود والنصارى، أي: فَرَّقوا دين إبراهيم، ووَصَفَهم ب الشِّيَعِ؛ إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حضٌّ للمؤمنين على الائتلاف وتركِ الاختلافِ، وقال أبو الأحْوَص وأم سلمة زوجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: الآية في أهْل البدع والأهواء والفتنِ، ومَنْ جرى مَجْراهم من أمة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: فَرَّقوا دين الإسلام، وقرأ حمزة والكسائيُّ: {فارَقُوا}، ومعناه: تركوا.
وقوله تعالى: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}: أي: لا تشفع لهم، ولا لهم بك تعلُّق، وهذا على الإطلاق في الكفَّار، وعلى جهة المبالغة في العُصَاة.
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله...} الآية: وعيدٌ محضٌ، وقال السدي: هذه آية لم يؤمر فيها بقتالٍ، فهي منسوخة بالقتال.
قال * ع *: الآية خبر لا يدخله نسخٌ، ولكنها تضمَّنت بالمعنى أمراً بموادعةٍ، فيشبه أنْ يقال: إن النسخ وقع في ذلك المعنَى الذي قد تقرَّر نسخه في آيات أخرى.
وقوله سبحانه: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا...} الآية: قال ابن مسعود وغيره: {الحسنة} هنا: لا إله إلا اللَّه، و{السيئة}: الكفر.
قال * ع *: وهذه هي الغاية من الطرفَيْنِ، وقالت فرقة: ذلك لفظٌ عامٌّ في جميع الحسناتِ والسيئاتِ، وهذا هو الظاهر، وتقديرُ الآية: مَنْ جاء بالحسنة، فله ثوابُ عَشْرِ أمثالها، وقرأ يعقوبُ وغيره: {فَلَهُ عَشْرٌ} بالتنوين {أَمْثَالُهَا} بالرفع.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ...} الآية: في غاية الوضوحِ والبيانِ، و{قِيَماً}: نعت للدِّين، ومعناه: مستقيماً، و{مِلَّةَ}: بدلٌ من الدِّين.

.تفسير الآيات (162- 165):

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}
وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي...} الآية: أمْر من اللَّه عز وجل لنبيِّه عليه السلام أنْ يعلن بأنَّ مقصده في صلاته، وطاعتِهِ من ذبيحة وغيرها، وتصرفَهُ مدَّةَ حياتِهِ، وحالهُ من إخلاصٍ وإيمانٍ عند مماته إنما هو للَّه عزَّ وجلَّ، وإرادةِ وجهه، وطَلَبِ رضاه، وفي إعلان النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزمُ المؤمنين التأسِّي به؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قَصْدَ وجه اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة؛ أنَّ صلاته ونسكه وحياته ومماته بِيَدِ اللَّه عزَّ وجلَّ، واللَّه يصرفه في جميع ذلك كَيْفَ شاء سبحانه، ويكون قوله: {وبذلك أُمِرْتُ}؛ على هذا التأويل راجعاً إلى قوله: {لاَ شَرِيكَ لَهُ} فقطْ، أو راجعاً إلى القول؛ وعلى التأويل الأول، يرجع إلى جميع ما ذُكِرَ من صلاة وغيرها، وقالتْ فرقة: النُّسُكُ؛ في هذه الآية: الذبائح.
قال * ع *: ويُحَسِّن تخصيصَ الذبيحة بالذِّكْر في هذه الآية؛ أنها نازلةٌ قد تقدَّم ذكرها، والجَدَل فيها في السُّورة، وقالتْ فرقة: النسك؛ في هذه الآية: جميع أعمال الطاعاتِ؛ مِنْ قولك: نَسَكَ فُلاَنٌ، فَهُوَ نَاسِكٌ؛ إذا تعبَّد، وقرأ السبعة سوى نافع: {وَمَحْيَايَ} بفتح الياء، وقرأ نافع وحده: {وَمَحْيَايْ} بسكون الياء، قال أبو حَيَّان: وفيه جمع بين ساكنَيْنِ، وسوَّغ ذلك ما في الألفِ من المَدِّ القائمِ مَقَام الحركَة. انتهى، وقوله: {وأنا أول المسلمين}، أي: من هذه الأمة.
وقوله سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ...} الآية: حكى النَّقَّاش أنه روي أنَّ الكُفَّار قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ارجع يا محمَّد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفَّل لك بكلِّ تباعة تتوقَّعها في دُنْيَاك وآخرتك، فنزلَتْ هذه الآية، وهي استفهام يقتضي التوبيخَ لهم، و{أَبْغِي}: معناه أَطْلُبْ؛ فكأنه قال: أفَيَحْسُنُ عندكم أن أَطْلُبَ إلهاً غير اللَّه الذي هو رَبُّ كلِّ شيء، وما ذكَرْتُم من كَفَالَتِكُمْ باطلٌ ليس الأمرُ كما تظُنُّون، فلا تَكْسِبُ كلُّ نفس من الشَّرِّ والإثم إلا عليها وحْدها، {وَلاَ تَزِرُ}، أي: تحملُ {وازرة}، أي: حاملةٌ حمل أخرى وثقلها، والوِزْر: أصله الثقل، ثم استعمل في الإثم؛ تجوُّزاً واستعارة، {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ}: تهديد ووعيد، وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، أي: في أمري في قول بعضكم: هو سَاحِرٌ، وبعضكم: هو شاعرٌ، إلى غير ذلك؛ قاله بعض المتأوِّلين، وهذا التأويلُ يَحْسُنُ في هذا الموضع، وإن كان اللفظ يعمُّ جميع أنواع الاختلافاتِ بَيْن الأديان والمِلَلِ والمَذَاهِب وغَيْرِ ذلك، و{خلائف}: جمع خَلِيفَةِ، أي: يخلف بعضُكم بعضاً؛ لأن مَنْ أتى خليفةٌ لِمَنْ مضى، وهذا يتصوَّر في جميع الأممِ وسائرِ أصنافِ الناسِ، ولكنه يحْسُنُ في أمة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسمى أهلها بجملتهم خلائِف للأمم، وليس لهم من يخلفهم؛ إذ هم آخر الأمم، وعليهم تقومُ الساعة، وروى الحَسَنُ بْنُ أبي الحسن؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «تُوفونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، ويروى: «أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ». وقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات}: لفظٌ عامٌّ في المالِ، والقوةِ، والجاهِ، وجودةِ النفُوسِ والأذهانِ، وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر اللَّه سبحانه الخلْقَ، فيَرَى المحْسِنَ من المُسيء، ولما أخبر اللَّه عزَّ وجلَّ بهذا، ففسح للنَّاس مَيْدَانَ العَمَل، وحضَّهم سبحانه على الاستباقِ إلى الخيراتِ، توعَّد ووَعَد؛ تخويفاً منه وترجيةً، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب} إما بأخَذَاته في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحَسُنَ أنْ يوصف عقابُ الآخرة ب سريع؛ لما كان متحقّقاً مضمون الإتيانِ والوقوعِ، وكلُّ آت قريبٌ، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}: ترجيةٌ لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب اللَّه كثيرٌ، وهو اقتران الوعيد بالوعدِ؛ لطفاً من اللَّه سبحانه بعبادِهِ، اللَّهم اجعلنا مِمَّنْ شملته رحْمَتُكَ وغُفْرانُكَ، بجُودِكَ وإحسانِكَ، ومِنْ كلام الشيخ الوليِّ العارفِ أبي الحسن الشَّاذِلِيِّ رحمه اللَّه قَالَ: من أراد ألاَّ يضره ذنْبٌ، فليقل: ربِّ أعوذ بك من عذابِكَ يَوْمَ تبعث عبادَكَ، وأعوذ بك مِنْ عاجل العذابِ، ومِنْ سوء الحسابِ، فإنك لسريعُ الحِسَاب، وإنك لغفور رحيم، رَبِّ إني ظلمت نفسي ظُلْماً كثيراً، فاغفر لي وتُبْ عليَّ لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنْتُ من الظالمين. انتهى، نسأل اللَّه أنْ ينفع به ناظِرَهُ وأنْ يجعله لنا ذخراً ونوراً يسعى بين أيدينا يوم لقائه، والحمدُ للَّه الَّذي بنعمته تتمُّ الصالحاتُ، وصلى اللَّه على سيدنا محمَّد وآله وصَحْبه وسلَّم تسلماً.