فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (32):

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
وقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} أي: قل لهم على جِهَةِ التوبيخ. وَزِينَةُ اللَّه هي ما حَسَّنته الشَّرِيعَةُ، وقررته، وزِينَةُ الدنيا كل ما اقتضته الشَّهْوَةُ، وطلب العلو في الأرض كالمَالِ والبنين.
و{الطَّيِّبَاتُ} قال الجمهور: يريد المُحَلّلات.
وقال الشافعي وغيره: هي المُسْتَلَذَّاتُ أي: من الحلال، وإنما قاد الشَّافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوَزَغِ ونحوهَا، فإنه يقول: هي من الخَبَائِث.
* ت *: وقال مكي: المعنى قل مَنْ حَرَّمَ زينة اللَّه، أي: اللِّبَاس الذي يزين الإنسان بأَن يستر عَوْرَتهُ، ومن حرم الطيبات من الرزق المُبَاحَةِ.
وقيل عنى بذلك ما كَانَتِ الجَاهِلِيَّةُ تحرمه من السوائب والبَحَائِر. انتهى.
وقوله سبحانه: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} قال ابن جُبَيْرٍ: المعنى: قل هي للذين آمَنُوا في الحَيَاةِ الدنيا يَنْتَفِعُونَ بها في الدُّنْيَا، ولا يتبعهم إثمها يوم القِيَامَةِ.
وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغيرهم: المعنى هو أن يخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الطَّيبات المَوْجُودَاتِ هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا، وإن كانت أيْضاً لغيرهم معهم، وهي يوم القيامة خالصة لهم، أي: لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة.
وقرأ نافع وحده {خالصةٌ} بالرفع، والباقون بالنَّصْب.
وقوله سبحانه: {كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: كما فَصَّلنا هذه الأشياء المتقدمة الذِّكر {نُفَصِّلُ الآيات} أي: نبين الأمَارَاتِ، والعَلاَمَاتِ، والهِدَايَاتِ لقوم لهم علم ينتفعون به.

.تفسير الآية رقم (33):

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
وقوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...} الآية: لما تقدم إنكار ما حرمه الكُفَّار بآرائهم أتبعه بذِكْرِ ما حرم اللَّه عز وجل.
والفَوَاحِشُ في اللغة ما فَحُشَ وشنع، وأصله من القُبْحِ في النظر، وهي هنا إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه، فكل ما حرمه الشَّرْعُ، فهو فاحش، والإثم لفظ عام في جَمِيعِ الأفعال والأقوال التي يَتَعَلَّقُ بمرتكبها إثم. هذا قول الجمهور.
وقال بعض الناس: هي الخَمْرُ وهذا قول مردود؛ لأن هذه السورة مَكيّة، وإنما حرمت الخَمْرُ ب المدينة بعد أُحد {والبغي} التعدي، وتجاوز الحد.
{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من أنه حرم البَحِيرَةَ والسائبة ونحوه.

.تفسير الآيات (34- 36):

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}
وقوله سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} المعنى: ولكل أمة أجل مُؤَقَّت لمجيء العَذَابِ إذا كفروا، وخالفوا أَمْرَ ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك. قاله الطبري وغيره.
وقوله: {سَاعَةً} لفظ عين به الجزء القليل من الزمان، والمراد جميع أجزائه، والمعنى: لا يستأخرون سَاعَة، ولا أقل منها، ولا أكثر.
وقوله عز وجل: {يابني آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * والذين كَذَّبُواْ بآياتنا واستكبروا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} الخِطَابُ في هذه الآية لجميع العالم، وإن هي الشرطية دخلت عليها ما مؤكدة، وكان هذا الخطاب لجميع الأُمم قَدِيمِها وحَدِيثِهَا هو متمكن لهم، ومتحصِّل منه لحاضري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا حُكْمُ اللَّه في العالم منذ أنشأه، {ويَأْتِيَنَّكُمْ} مستقبل وُضِعَ موضع ماضٍ ليفهم أن الإتيان بَاقٍ وَقْتَ الخطاب، لِتَقْوَى الإشارة بصِحَّةِ النبوءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا على مُرَاعَاةِ وَقْتِ نزول الآية.
وأسند الطَّبَري إلى أبي سَيَّارٍ السُّلمي قال: «إن اللَّه سبحانه خَاطَبَ آدم وذُريته، فقال: {يابني آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ...} الآية: قال: ثم نَظَر سبحانه إلى الرُّسُل، فقال: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون...} [المؤمنون: 51، 52]» الحديث.
قال * ع *: ولا مَحَالَةَ أن هذه المُخَاطَبَة في الأزل.
وقيل: المراد بالرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ النقاش {ويَقُصُّونَ} أي: يسردون، ويوردون، والآيات لَفْظٌ جامع لآيات الكُتُب المنزلة، وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، ونفي الخوف والحزن يعم جَمِيعَ أنواع مَكَارِهِ النَفس وأَنْكَادِهَا.

.تفسير الآية رقم (37):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}
قوله سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بآياته...} الآية: هذه الآية وَعِيدٌ واستفهام على جهة التقرير، أي: لا أحد أظلم منه، والكتاب هو اللوح المَحْفُوظُ في قول الحَسَنِ وغيره.
وقيل: ما تكتبه الحَفَظَةُ، ونصيبهم من ذلك هو الكُفْرُ وَالمَعَاصي. قاله مجاهد، وغيره.
وقيل: هو القرآن، وحَظُّهم فيه سَوَادُ الوجوه يوم القيامة.
وقال الربيع بن أنس، وغيره: المعنى بالنصيب مَا سَبَقَ لهم في أُم الكتاب من رِزْق، وعمر، وخير وشر في الدنيا، ورجحه الطبري.
واحتج له بقوله تعالى بعد ذلك: {حتى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} أي: عند انقضاء ذلك، فكان معنى الآية على هذا التأويل: أولئك يتمتعون، ويتصرَّفُونَ في الدنيا بِقَدْرِ ما كتب لهم حتى إِذا جاءتهم رُسُلنا لموتهم؛ وهذا تأويل جَمَاعَةٍ، وعلى هذا يترتّبُ ترجيحُ الطبري.
وقالت فرقة: {رُسُلُنَا} يريد بهم مَلاَئِكَةَ العَذَابِ يوم القيامة، و{يَتَوَفَّوْنَهُمْ} معناه عندهم يستوفونهم عَدَداً في السوق إلى جهنم.
وقوله سبحانه حكايةً عن الرسل {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ} استفهام تقرير، وتوبيخ، وتوقيف على خِزْيٍ، {وتَدْعُونَ} معناه: تعبدون، وتؤمِّلُون.
وقولهم: {ضَلُّواْ عَنَّا} معناه: هلكوا، وتلفوا، وفقدوا.
ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله سبحانه: {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين}.

.تفسير الآيات (38- 39):

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
قوله سبحانه: {قَالَ ادخلوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الجن والإنس فِي النار} هذه حكاية ما يَقُولُ اللَّه سبحانه لهم يَوْمَ القيامة، بواسطة ملائكة العَذَابِ، نسأل اللَّه العافية. وعبر عن يقول ب {قال} لتحقُّق وقوع ذلك، وصدق القصة، وهذا كثير، و{خَلَتْ} حكاية عن حَالِ الدنيا، أي: ادخلوا في النَّار في جملة الأمم السابقة لكم في الدنيا الكافرة.
* ت *: وكذا قدره أبو حَيَّانَ في جملة {أمم}، قال: وقيل: {في} بمعنى مع أي: مع أمم، وتقدم له في سورة البقرة أن {في} تجيء للمُصَاحَبَةِ، كقوله تعالى: {ادخلوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} انتهى.
وقدم ذِكْرَ الجن؛ لأنهم أَعْرَقُ/ في الكفر، وإبليس أَصْلُ الضلال والإغواء، وهذه الآية نص في أن كفرة الجنِّ في النار، والذي يقتضيه النظر أن مُؤمنيهم في الجَنَّةِ؛ لأنهم عُقَلاَءُ، مُكَلَّفُونَ، مبعوث إليهم، آمنوا وصدقوا، وقد بَوَّب البخاري رحمه اللَّه باباً في ذِكْرِ الجن، وثوابهم، وعقابهم.
وذكر عبد الجليل: أن مؤمني الجن يكونون تُرَاباً كالبهائم، وذكر في ذلك حديثاً مجهولاً، وما أَراه يصحُّ. واللَّه أعلم. والإِخْوَةُ في هذه الآية إِخْوَةُ الملة.
قال * ص *: في {النار} متعلق ب {خَلَتْ}، أو بمحذوف، وهو صفة ل {أمم} أي: في أمم سابقة، في الزمان كائنة، من الجن والإنس كائنة في النار، ويحتمل أن يتعلق ب ادخلوا على أن في الأولى بمعنى مع، والثانية للظرفية، وإذا اختلف مَدْلُول الحرفين، جاز تعلقهما بمحلٍّ واحد. انتهى.
{اداركوا} معناه: تلاحقوا، أصله: تداركوا أدغم، فجلبت ألف الوَصْل.
وقال البخاري: {اداركوا} اجتمعوا. انتهى. وقوله سبحانه: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهم} معناه: قالت الأمم الأخيرة التي وجدت ضلالات متقررة، وسنناً كاذبةً مستعملة للأولى التي شرعت ذلك، وافترت على اللَّه، وسَلَكَتْ سبيل الضَّلال ابتداءً {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا}، أي: طرقوا لنا طُرُقَ الضلال، {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} أي: عذاب مشدَّد على الأول والآخر {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} أي المقادير، وصور التضعيف.
قوله سبحانه: {وَقَالَتْ أولاهم لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي: قد اسْتَوَتْ حالنا وحالكم {فَذُوقُواْ العذاب} باجْتَرَامِكُمْ، وهو من كلام الأمة المتقدمة للمتأخّرة.
وقيل: قوله: {فَذُوقُواْ} هو من كَلاَمِ اللَّه عز وجل لجميعهم.

.تفسير الآيات (40- 42):

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة} الآية، هذه الآية عامة في جميع الكَفَرَةِ قديمهم وحديثهم.
قرأ نافع وغيره: {تُفَتَّح} بتشديد التاء الثانية، وقرأ أبو عمرو: {تُفْتَح} بالتاء أيضاً وسكون الفاء، وتخفيف الثانية، وقرأ حمزة {يفتح} بالياء من أسفل، وتخفيف التاء، ومعنى الآية: لا يرتفع لهم عَمَلٌ، ولا روح، ولا دعاء، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين. قاله ابن عباس، وغيره.
ثم نفى سبحانه عنهم دُخُولَ الجنة، وعلق كونه بِكَوْنٍ محال، وهو أن يدخل الجمل في ثُقْبِ الإبرة حيث يدخل الخَيْطُ، والجمل كما عهد، والسَّمّ كما عهد، وقرأ جمهور المسلمين {الجمل} واحد الجمال، وقرأ ابن عباس {الجُمّل} بضم الجيم وتشديد الميم، وهو حَبْلُ السفينة والسَّمُّ: الثقب من الإبرة وغيرها، و{كذلك} أي: وعلى هذه الصفة، وبمثل هذا الحتم، وغيره نجزي الكفرة وأهل الجَرَائِمِ على اللَّه.
{لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي: فراش، ومسكن، ومضجع يتمهَّدُونه، وهي لهم غَوَاشٍ جمع غاشية، وهي ما يَغْشَى الإنسان أي: يغطيه، ويستره من جهة فَوْق.
وقوله سبحانه: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} هذه آية وعد مخبرةٌ أن جميع المؤمنين هم أصْحَابُ الجنة، ولهم الخُلْدُ فيها، ثم اعترض فيها القَوْل بعقب الصِّفَةِ التي شرطها في المؤمنين باعتراض يُخَفِّفُ الشرط، ويرجى في رحمة اللَّه، ويعلم أن دينه يُسْر، وهذه الآية نصٌّ في أن الشريعة لا يَتَقَرَّرُ من تكاليفها شَيْءٌ لا يُطَاقُ، وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.
والوُسْعُ معناه: الطاقة، وهو القدر الذي يَتَّسِعُ له البشر.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
وقوله سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} هذا إخبار من اللَّه عز وجل أنه ينقي قُلُوبَ ساكني الجنة من الغِلِّ، والحِقْدِ، وذلك أن صاحب الغل مُعَذَّبٌ به، ولا عذاب في الجَنَّةِ.
وورد في الحديث: «الغلُّ على بَابِ الجنة كَمَبَارِكِ الإِبِلِ قد نَزَعَهُ اللَّه من قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ». والغل الحِقْدُ والإِحنة الخَفِيَّةُ في النفس. {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذي هدانا لهذا} الإِشارة بـ هذا يتجه أن تكون إلى الإيمان، والأعمال الصالحات المؤدية إلى الجنة، ويحتمل أن تكون إلى الجنة نَفْسِهَا، أي: أرشدنا إلى طرقها.
وقرأ ابن عمر وَحْدَهُ: {ما كنا لنهتدي} بسقوط الواو، وكذلك هي في مَصَاحِف أهل الشام، ووجهها أن الكَلاَمَ مُتَّصِلٌ، مرتبط بما قبله.
ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن اللَّه سبحانه، وَعَايَنُوا إنجاز المواعيد قالوا: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق وَنُودُواْ} أي: قيل لهم بِصِيَاحٍ، وهذا النداء من قِبَلِ اللَّه، وأن مفسرة لمعنى النداء، بمعنى: أي.
وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لا على طَرِيق وجوب ذلك على اللَّه تعالى لكن بقرينة رحمته، وتغمده، والأعمال أمارة من اللَّه سبحانه وطريق إلى قوة الرَّجَاء، ودخولُ الجَنَّة إنما هو بِمُجَرَّدِ رحمته، والقَسْمُ فيها على قدر العمل. وأورثتم مشيرة إلى الأَقْسَام.

.تفسير الآيات (44- 46):

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}
وقوله سبحانه: {وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً...} الآية.
هذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تَقْرِيعٌ، وتوبيخ، وزيادة في الكَرْبِ، وهو بأن يشرفوا عليهم، ويخلق الإدراك في الأسماع والإبصار.
وقوله سبحانه: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} أي: أعلم معلم، والظالمون هنا هم الكافرون.
* ت *: قلت: حكي عن غير وَاحِدٍ أن طاوس دخل على هشام بن عبد الملِكِ فقال له: اتّقِ لله، واحْذَرْ يوم الأذان، فقال: وما يوم الأذان؟ فقال قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} فصعق هشام، فقال طاوس: هذا ذُلُّ الوَصْفِ، فكيف ذل المُعَايَنَةِ انتهى.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي: يطلبونها، أو يطلبون لها، والضمير في {يَبْغُونَهَا} عائد على السَّبيل.
وقوله سبحانه: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بسيماهم}.
{وَبَيْنَهُمَا}: أي: بين الجنة والنار، ويحتمل بين الجَمْعَيْنِ، والحِجَابُ هو السور الذي ذكره اللَّه عز وجل في قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} [الحديد: 13].
قال ابن عباس، وقال مجاهد: الأعراف حجاب بين الجنة والنار.
وقال ابن عباس أيضاً: هو تَلٌّ بين الجنة والنار.
وذكر الزَّهْرَاوِيُّ حديثاً أَن رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن أُحُداً جَبَلٌ يحبنا ونحبُّه، وإِنَّه يَوْمَ القِيَامَةِ يمثلُ بينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَحْتَبِسُ عَلَيْهِ أَقْوَامٌ، يعرفون كُلاًّ بِسِيماهُمْ، هُمْ إِن شَاءَ اللَّه من أَهْلِ الجَنَّةِ». والأعراف جمع عرف، وهو المرتفع من الأرض، ومنه عُرْفُ الفرس، وعرف الديك لعلوِّهُمَا.
وقال بعض الناس: سُمِّيَ الأعراف أَعرافاً؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.
قال * ع *: وهذه عُجْمَةٌ، وإنما المراد على أعراف ذلك الحِجَاب، أي أعاليه.
وقوله: {رِجَالٌ} قال الجمهور: إنهم رِجَالٌ من البَشَرِ، ثم اختلفوا في تعيينهم، فقال شرحبيل بن سَعْدٍ: هم المستشهدون في سَبِيلِ اللَّه الذين خَرَجُوا عُصَاةً لآبائِهِم.
وذكر الطَّبَرِيُّ في ذلك حَدِيثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعادل عُقُوقُهم، واستشهادهم.
وقال ابن عباس، وغيره: هم قوم اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وسيئاتهم، ووقع في مسند خيثمة بن سليمان في آخر الجزء الخامس عشر عن جَابِرِ بن عَبْدِ اللَّه؛ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «تُوضَعُ المَوَازِينُ يوم القيامة، فتوزن الحَسَنَاتُ والسَّيِّئَاتُ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ على سيئاته مِثْقَالَ صُؤَابَةٍ دخل الجَنَّةَ، ومن رَجَحَتْ سيئاته على حَسَنَاتِهِ مِثْقَالَ صُؤَابَةٍ دخل النار. قيل: يا رَسُولَ اللَّه؛ فمن استوت حَسَنَاتُهُ وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأَعْرَافِ لم يَدْخُلوها وهم يَطْمَعُون». وقيل غير هذا من التَّأويلات.
قال ع: واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السُّور، أو على مواضع مرتفعة عن الفَرِيقَيْنِ حيث شاء اللَّه تعالى رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ يتأخر دخولهم، ويقع لهم ما وصف من الاعتبار.
و{يَعْرِفُونَ كُلاًّ بسيماهم}، أي: بِعَلاَمَاتِهِمْ من بياض الوجوه، وحُسْنِهَا في أهل الجنة، وسَوَادِهَا وقبحها في أهل النَّارِ إلى غير ذلك في حَيِّزِ هؤلاء، وحيز هؤلاء.
وقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} المراد به: أهل الأعراف فقط، وهو تأويل ابن مَسْعُودٍ، والسدي، وقتادة، والحسن وقال: واللَّه ما جعل اللَّه ذلك الطَّمَعَ في قلوبهم إلا لخير أَرَادَهُ بهم.
قال * ع *: وهذا هو الأظهر الأليق مما قيل في هذه الآية، ولا نَظَرَ لأَحَدٍ مع قول النبي صلى الله عليه وسلم.