فصل: تفسير الآيات (138- 141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (138- 141):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}
وقوله سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسراءيل البحر}: أي: بَحْرَ القُلْزُم، {فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ}، قيل: هم الكَنْعَانِيُّونَ.
وقيل: هم مِنْ لَخْم وجُذام، والقَوْمُ في كلام العرب: هم الرجَالُ خاصَّة {يَعْكُفُونَ}، العُكُوفُ: الملازمة {على أَصْنَامٍ لَّهُمْ}، قيل كانت بقراً.
وقال ابن جُرَيْج: كانت تماثيلَ بقرٍ من حجارةٍ وعيدانٍ ونحوها، وذلك كان أوَّل فتنةِ العِجْل، وقولهُم: {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، يظهر منه استحسانهم لمَا رَأَوْه من تلك الآلهة؛ بجهلهم؛ فأرادوا أنْ يكون ذلك في شَرْع موسى، وفي جملة ما يُتقرَّبُ به إِلى اللَّه، وإِلاَّ فبعيدٌ أن يقولوا لموسَى: اجعل لنا صنماً نُفْرِدُهُ بالعبادة، ونَكْفُر بربِّك؛ وعلى هذا الذي قُلْتُ يقعُ التشابهُ الذي نصَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ أَبي واقِدٍ اللِّيْثِّي اجعل لَنَا، يَا رَسُولَ اللَّه، ذَاتَ أَنْوَاطٍ؛ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فأنكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَر! قُلْتُمْ واللَّهَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ؛ {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}: لَتَّتبعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ» الحديث، ولم يقصد أبو واقدٍ بمقالته فساداً، وقال بعضُ الناسَ؛ كان ذلك من بني إسرائيل كفراً، ولفظةً الإله تقتضي ذلك، وهذا محتملٌ، وما ذكرتُهُ أولاً أصحُّ، واللَّه أعلم.
قلتُ: وقولهم: {هذا إلهكم وإله موسى} [طه: 88]، وجواب موسى هنا يقوِّي الاحتمال الثاني، نعم: الَّذي يجب أن يعتقد أنَّ مِثْلَ هذه المقالاتِ إنما صَدَرَتْ مِنْ أشرارهم وقريبي العَهْد بالكُفْر، قال الشيخُ الحافظُ أبو القاسِمِ عَبْدُ الرحمن بْنُ عبْدِ اللَّهِ الخَثْعَمِيُّ ثم السُّهَيْليُّ ذكر النَّقَّاش في قوله تعالى: {فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ}؛ أنهم كانوا مِنْ لَخْمٍ، وكانو يعبُدُون أصناماً على صور البقر، وأنَّ السامِريَّ كان أصله منهم، ولذلك نزع إِلى عبادة العجْلِ. انتهى، واللَّه أعلم، وهذا هو معنى ما تقدَّم من كلام * ع *، وقوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ}، أي: مُهْلَكٌ، مُدَمَّر، رديءُ العاقبة، والتَّبَار: الهلاكُ، وإِنَا مُتَبَّرٌ، أي: مكسورٌ، وكسارته تِبْرٌ؛ ومنه: تِبْرُ الذَّهَبِ؛ لأنه كسارة، وقوله: {مَّا هُمْ فِيهِ} يعمُّ جميع أحوالهم و{بَاطَلٌ}: معناه: فاسدٌ ذاهبٌ مضحملٌّ، و{أَبْغِيكُمْ} معناه: أطلبُ.
ثم عدَّد عليهم سبحانه في هذه الآية النِّعَمَ التي يجبُ من أجلها أَلاَّ يكفروا به، ولا يَرْغَبُوا في عبادة غيره، فقال: {وَإِذْ أنجيناكم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ...} الآية: و{يَسُومُونَكُمْ} معنا: يحمِّلُونكم، ويكلِّفونكم، ومساوَمَةُ البيع تنظر إِلى هذا؛ فإِنْ كلَّ واحد من المتساوِمَيْن يكلِّف صاحبه إِرادَتُه، ثم فَسَّرَ سوء العذاب بقوله: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ...} الآية.

.تفسير الآيات (142- 145):

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)}
وقوله سبحانه: {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ...} الآية: قال ابن عباس وغيره: الثلاثون ليلةً هي شَهْرُ ذي القَعْدَة، وأن العَشْرَة هي عَشْرُ ذي الحِجَّة، وروي أن الثلاثين إِنما وعد بأن يصومَهَا، وأَنَّ مدة المناجاة هِيَ العَشْر، وحيث ورد أنَّ المواعدة أربعُونَ ليلةً، فذلك إِخبار بجملة الأمْر، وهو في هذه الآية إِخبار بتفصيله، والمعنى في قوله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}: أنه خلق لَهُ إِدراكاً سَمِعَ به الكلام القائِمَ بالذاتِ القديمِ الذي هو صفةُ ذاتٍ، وكلامُ اللَّه سبحانه لا يشبه كلامَ المخلوقين، وليسَ في جهة مِنَ الجهاتِ، وكما هو موجودٌ لا كالموجودات، ومعلومٌ لا كالمعلومات؛ كذلك كلامه لا يُشْبِهُ الكلامَ الذي فيه علاماتُ الحدوثِ، وجَوابُ لَمَّا في قوله: {قَالَ}، والمعنى أنَّه لمَّا كلَّمه اللَّه عزَّ وجلَّ، وخصَّه بهذه المرتبة، طَمَحَتْ همته إِلى رُتْبة الرؤْية، وتشوَّق إِلى ذلك، فسأل ربَّه الرؤية، ورؤيةُ اللَّه عز وجلَّ عند أهل السنة جائزةٌ عقْلاً؛ لأنه من حيثُ هو موجودٌ تصحُّ رؤيته؛ قالوا: لأن الرؤية للشَّيْءِ لا تتعلَّق بصفةٍ مِنْ صفاته أَكْثَرَ من الوُجُود، فموسى عليه السلام لم يسأَلْ ربَّه محالاً، وإِنما سأله جائزاً، وقوله سبحانه: {لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ...} الآية: ليس بجواب مَنْ سأل محَالاً، و{لَنْ} تنفي الفَعْلَ المستقبَلَ، ولو بقينا مع هذا النفْي بمجرَّده، لقضينا أنه لا يَرَاهُ موسى أبداً، ولا في الآخرةِ، لكنْ ورد من جهة أخرى بالحديثِ المتواتر؛ أنَّ أهل الإِيمانَ يَرَوْنَ اللَّه يوم القيامة، فموسى عليه السلام أحرَى برؤيته، قُلْتُ: وأيضاً قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] فهو نصٌّ في الرؤية بيَّنه صلى الله عليه وسلم؛ ففي الترمذي عن ابن عمر، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلى جنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمُهُمْ على اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلى وَجْهِهِ غُدْوَةً وعَشيَّةً»، ثم قرأ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديثُ مِنْ غير وجه مرفوعاً، وموقوفاً. انتهى.
قال مجاهد وغيره: إن اللَّه عز وجل قال له: يا موسى، لن تراني، ولكنّ سأتجلَّى للجَبَل، وهو أقوى منك، وأَشَدُّ؛ فإِن استقر وأطاقَ الصبْرَ لهيبتي، فسَتُمْكِنُكَ أَنْتَ رؤيتي.
قال * ع *: فعلى هذا إِنما جعل اللَّه الجَبَل مثالاً، قلتُ: وقول * ع *: ولو بَقِينَا مَعَ هذا النفْي بمجرَّده، لَقَضَيْنَا أنَّه لا يراه موسَى أبداً ولا في الآخرة، قولٌ مرجوحٌ لم يتفطَّن له رحمه اللَّه، والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه أَنَّ لن لا تقتضي النفْيَ المؤبَّد.
قال بدْرُ الدين أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مالِكٍ في شرح التَّسْهِيلِ: وَلَنْ كغيرها من حروفِ النفي في جواز كون استقبال المنفيِّ بها منقَطعاً عنْدَ حَدٍّ وغَيْرَ منقطعٍ، وذكر الزمخشريُّ في أُنْمُوذجِهِ؛ أَنَّ لَنْ لتأبيدِ النفْي، وحاملُهُ على ذلك اعتقادُهُ أنَّ اللَّه تعالى لا يُرَى، وهو اعتقادٌ باطلٌ؛ لصحَّةَ ثبوتِ الرؤية عن رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ واستدل على عدم اختصاصها بالتأبيد بمجيء استقبال المنْفِيِّ بها مُغَيًّا إِلى غايةٍ ينتهي بانتهائها، كما في قوله تعالى: {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} [طه: 91]، وهو واضح. انتهى، ونحوه لابْنِ هشامٍ، ولفظه: ولا تفيدُ لَنْ توكيدَ المنفيِّ؛ خلافاً للزمخشريِّ في كشافه، ولا تأْبِيدَهُ، خلافاً له في أنموذجه، وكلاهما دعوى بلا دليلٍ؛ قيل: ولو كانَتْ للتأبيدِ، لم يقيد منفيُّها ب اليوْم في {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26] ولكان ذكْرُهُ الأَبَدَ في {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] تَكْراراً، والأصل عدمه. انتهى من المغني.
وقوله سبحانه: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}: التجلِّي: هو الظهورُ منْ غير تشبيهٍ ولا تكييفٍ، وقوله: {جَعَلَهُ دَكّاً}، المعنى: جعله أرضاً دكًّا، يقال: ناقةٌ دَكَّاء، أَيْ: لا سنامَ لها، {وَخَرَّ موسى صَعِقاً}، أي: مغشيًّا عليه، قاله جماعة من المفسِّرين.
قال * ص *: {وَخَرَّ} معناه سقَطَ، وقوله: {سبحانك}، أي: تنزيهاً لك؛ كذا فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ}، معناه: منْ أن أسألك الرُّؤْية في الدنيا، وأنْتَ لا تبيحها فيها.
قال * ع *: ويحتمل عنْدي أنه لفظ قاله عليه السلام؛ لشدَّة هَوْل المَطْلَعَ، ولم يعن التَّوْبَة مِنْ شيء معيَّن، ولكنَّه لفظٌ لائقٌ بذلك المقامِ، والذي يتحرَّز منه أَهْلُ السنة أنْ تكون تَوْبَةً من سؤال المُحَال؛ كما زعَمَتِ المعتزلةُ، وقوله: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين}، أي: مِنْ قومه؛ قاله ابن عباس وغيره، أَو مِنْ أَهْلِ زمانه؛ إِنْ كان الكُفْر قد طَبَّق الأرض، أو أولُ المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا؛ قاله أبو العالية.
وقوله سبحانه: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشاكرين} فيه تأديبٌ، وتقنيعٌ، وحملٌ على جادَّة السلامة، ومثالٌ لكلِّ أحدٍ في حاله، فإِن جميع النِّعم من عند اللَّه سبحانه بمْقدَارٍ، وكُلُّ الأمور بِمَرْأًى منه ومَسْمَعٍ، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ}، أي: مِنْ كل شيءٍ يَنْفَعُ في معنى الشرْع، وقوله: {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} مثُلُه، وقوله: {بِقُوَّةٍ}، أي: بجدٍّ وصبرٍ عليها؛ قاله ابن عباس، وقوله: {بِأَحْسَنِهَا} يحتملُ معنيين.
أحدهما: التفضيلُ؛ كما إِذا عرض مثلاً مباحانِ؛ كالعفو والقِصَاصِ، فيأخذون بالأحْسنِ منهما.
والمعنى الثاني: يأخذون بَحَسن وَصْفِ الشريعة بجملتها؛ كما تقول: اللَّه أَكْبَرُ، دون مقايسة.
وقوله سبحانه: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين}، الرؤية هنا: رؤيةُ عَيْن؛ هذا هو الأظهر إِلا أن المعنى يتضمَّن الوعد للمؤمنين، والوعِيدَ للفاسقين، ودارٌ الفاسقين: قيل: هي مِصْرُ، والمراد آل فرعون، وقيل: الشام، والمراد العَمَالِقَةُ وقيل: جَهَنَّم، والمرادُ الكَفَرَةُ بموسى، وقيل غير هذا ممَّا يفتقرُ إِلى صحة إِسناد.

.تفسير الآيات (146- 147):

{سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)}
وقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض...} الآية: المعنى: سأَمْنَعُ وأصُدُّ، قال سفيان بن عُيَيْنَة: الآياتُ هنا كلُّ كتابٍ منزَّل.
* ع *: والمعنى عن فَهْمِها وتصدِيقها، وقال ابن جُرَيْج: الآياتُ: العلامات المنصوبة الدالَّة على الوحدانية، والمعنى: عن النظر فيها، والتفكُّر والاستدلال بها، واللفظُ يعمُّ الوجْهَيْن، والمتكبِّرون في الأرض بغير الحَقِّ: هم الكُفَّار، قُلْتُ: ويدخل في هذا المعنى مَنْ تشبَّهَ بهم من عُصَاة المؤمنين، والمعنى في هذه الآية: سأجْعَلُ الصَّرْف عن الآيات؛ عقوبةً للمتكبِّرين على تكبُّرهم، وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} حَتْمٌ من اللَّه على الطائفةِ التي قَدَّر عليهم أَلاَّ يؤمنوا، وقوله: {ذلك}: إِشارة إِلى الصَّرْف المتقدِّم.
وقوله سبحانه: {والذين كَذَّبُواْ بآياتنا وَلِقَاءِ الأخرة...} الآية: هذه الآية مؤكَّدة للتي قبلها، وفيها تهديدٌ.

.تفسير الآيات (148- 151):

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}
وقوله سبحانه: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ}: الخُوَارُ: صَوْتُ البقر، وقرأَتْ فرقة: {لَهُ جُؤَارٌ}- بالجيم-، أيْ: صِيَاحٌ، ثم بيَّن سبحانه سُوءَ فِطَرهم، وقرَّر فساد اعتقادهم بقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ...} الآية: وقوله: {وَكَانُواْ ظالمين}: إِخبارٌ عن جميع أحوالهم؛ ماضياً، وحالاً، ومستقبلاً، وقد مَرَّ في البقرة قصَّة العِجْلِ؛ فأغنى عن إِعادته.
قال أبو عُبَيْدة: يقال لمن نَدِمَ على أمْرٍ، وعَجَز عنه: سُقِطَ في يَدِهِ، وقولُ بني إِسرائيل: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا}، إِنما كان بَعْدَ رجوعِ موسى، وتَغَيُّرِهِ عليهم، ورؤيتِهِمْ أنهم قد خَرَجُوا من الدِّين، ووقعوا في الكُفْر.
وقوله سبحانه: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً}، يريد: رجَعَ من المُنَاجَاة، والأَسَفُ، قد يكون بمعنى الغَضَبِ الشديدِ، وأكثرُ ما يكونُ بمعنى الحُزْن، والمعنيانِ مترتبان هنا.
وعبارةُ * ص *: {غضبان}: صفةُ مبالغةٍ، والغَضَبُ غَلَيَانُ القَلْب؛ بسبب ما يؤلم و{أَسِفاً}: مِنْ أَسِفَ، فهو أَسِفٌ، كَفَرِقَ فهو فَرِقٌ، يدل على ثبوت الوصف، ولو ذُهِبَ به مَذْهَبُ الزمان، لقيل: آسِف؛ على وزن فَاعِل، والأَسَفُ: الحزنُ. انتهى.
وقوله تعالى: {أَعَجِلْتُمْ}، معناه: أسابقتم قضاء رَبِّكُم، واستعجلتم إِتْيَانِي قبل الوقت الذي قدر به، قال سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: كان سببُ إِلقائه الأَلْوَاحَ- غَضَبَهُ على قومه في عبادتهم العِجْل، وَغَضَبَهُ على أخيه في إِهمال أَمرهم.
قال ابن عباس: لمَّا ألقاها، تكسَّرت، فَرُفِعَ أكثَرُها الذي فيه تفصيلُ كلِّ شيء، وبقي الذي في نُسْخَتِهِ الهدى والرحمة، وهو الذي أخذ بعد ذلك، قال ابن عبَّاس: كانت الألواح مِنْ زُمُرُّدِ، وقيل: من ياقوتٍ، وقيل: من زَبَرْجَدٍ، وقيل: من خشبٍ، واللَّه أعلم.
وقوله: {ابن أُمَّ} استعطافٌ برحمِ الأمِّ؛ إذ هو ألْصَقُ القراباتِ، وقوله: {كَادُواْ}، معناه: قاربوا، ولم يَفْعَلُوا، وقوله: {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين}، يريد: عَبَدَةَ العجْلِ.

.تفسير الآيات (152- 155):

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا}، وقد وقع ذلك النَّيْلُ بهم في عَهْدِ موسى عليه السلام، فالغضبُ والذِّلَّة هو أمرهم بقَتْل أنفسهم، وقال بعض المفسِّرين: الذِّلَّة: الجِزْيَة، ووَجْه هذا القول أن الغضب والذِّلَّة بقيتْ في عَقِبِ هؤلاء، وقال ابن جُرَيْج: الإِشارةُ إلى من مات من عَبَدة العجْل قبل التوبة بقَتْل الأنْفُس، وإِلى مَنْ فَرَّ، فلم يكُنْ حاضراً وقت القَتْلِ، والغَضَبُ من اللَّه عزَّ وجلَّ، إِن أخذ بمعنى الإِرادة، فهو صفةُ ذات، وإِن أُخِذ بمعنى العقوبةِ وإِحلالِ النِّقْمة، فهو صفةُ فِعْلٍ، وقوله: {وكذلك نَجْزِي المفترين}، المرادُ أَولاً أولئك الَّذين افتَرْوا عَلَى اللَّه سبحانَهُ في عبَادة العِجْل، وتكونُ قوَّة اللفظ تَعُمُّ كُلَّ مفترٍ إلى يوم القيامة، وقد قال سفيان بن عُيَيْنَة وأبو قِلاَبة وغيرهما: كلُّ صاحب بدعة أو فِرْيَة، ذليلٌ؛ واستدلوا بالآية.
وقوله سبحانه: {والذين عَمِلُواْ السيئات...} الآية تضمَّنت وعداً بأن اللَّه سبحانه يغفرُ للتائبين؛ وقرأ معاوية بنُ قُرَّة {وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ}.
قال أبو حَيَّان: واللام في {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} مُقَوِّية لوصولِ الفعْلِ، وهو {يَرْهَبُونَ} إلى مفعوله المتقدِّم.
وقال الكوفيُّون: زائدةٌ.
وقال الأخفشُ: لام المفعول له، أي: لأجْلِ ربِّهم. انتهى.
قلْتُ: قال ابنُ هِشَامٍ في المُغْني ولام التقْويَةِ هي المَزِيدَةُ لتقويةٍ عاملٍ ضَعُفَ؛ إِما لتأخيرٍ؛ نحو: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}، و{إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أو لكَوْنِهِ فرعاً في العمل؛ نحو: {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، وقد اجتمع التأخيرُ والفرعيةُ في: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين} [الأنبياء: 78]. انتهى.
وقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ...} الآية: قال الفَخْرُ: قال جماعة النحوِّيين: معناه: واختار موسى مِنْ قومه، فحذف مِنْ، يقال: اخترت مِنَ الرجالِ زيْداً، واخترْتُ الرجالَ زَيْداً. انتهى.
قال * ع *: معنى هذه الآية أَن موسى عليه السلام اختار مِنْ قومه هذه العِدَّة؛ لَيَذْهَبَ بهم إِلى مَوْضِعِ عبادةٍ وابتهالٍ ودعاءٍ، فيكون منه ومنهم اعتذار إِلى اللَّه سبحانه مِنْ خطإِ بني إِسرائيل في عبادةِ العِجْلِ، وقد تقدَّم في [سورة البقرة: 51] قصصهم، قالتْ فرقة من العلماء: إِنَّ موسى عليه السلام لمَّا أعلمه اللَّه سبحانه بعبادة بني إِسرائيل العِجْلَ، وبصفته، قالَ موسى: أيْ ربِّ، ومَنْ اختاره؟ قَالَ: أنا، قال موسى: فأنْتَ، يا ربِّ، أضْلَلْتهُمْ، {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ} أيْ: إِنَّ الأمور بيدك تفْعلُ ما تريدُ.