فصل: تفسير الآيات (156- 157):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (156- 157):

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
وقوله سبحانه: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً...} الآية: {اكتب}: معناه: أَثْبتْ واقض، والكَتْب: مستعملٌ في كلِّ ما يخلَّد، و{حَسَنَةً}: لفظ عامٌّ في كل ما يحسن في الدنيا من عاقبة وطاعة للَّه سبحانه، وغَيْرِ ذلك، وحَسَنَةُ الآخرةِ: الجَنَّة، لا حَسَنَةَ دونها، ولا مرمى وراءها، و{هُدْنَا}- بضم الهاء-: معناه: تُبْنَا.
وقوله سبحانه: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ}، يحتمل أن يريد ب العذاب الرجفةَ التي نزلَتْ بالقوم، ثم أخبر سبحانه عن رحمته، ويحتملُ؛ وهو الأظهر: أن الكلام قصد به الخَبَرُ عن عذابه، وعن رحمته، وتصريف ذلك في خليقته؛ كما يشاء سبحانه، ويندرجُ في عمومِ العذابِ أصحابُ الرجفة، وقرأ الحسنُ بنُ أبي الحسن، وطَاوُسٌ، وعَمْرُو بن فائدٍ: {مَنْ أَسَاءَ} من الإِساءة، ولا تعلُّق فيه للمعتزلة، وأطنب القُرَّاء في التحفُّظ من هذه القراءَةِ، وَحَمَلَهُمْ على ذلك شُحُّهم على الدِّين.
وقوله سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، قال بعض العلماء: هو عمومٌ في الرحمة، وخصوصٌ في قوله: {كُلَّ شَيْءٍ}، والمراد: مَنْ قد سبق في عِلْم اللَّه أن يرحمهم، وقوله سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا}، أي: أقدِّرها وأقضيها.
وقال نَوْفٌ البِكَالِيُّ: إِن موسى عليه السلام قال: يا رَبِّ، جعلْتَ وِفَادَتِي لأمَّة محمَّد عليه السلام، وقوله: {وَيُؤْتُونَ الزكواة}: الظاهر: أنها الزكاةُ المختصَّة بالمالِ، وروي عن ابن عباس؛ أن المعنى: يؤتون الأعمالَ التي يزكُّون بها أنفسهم.
وقوله سبحانه: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الأمي...} الآية: هذه ألفاظٌ أخرجَت اليهودَ والنصارى مِنَ الاشتراك الذي يظهر في قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، وخلُصَتْ هذه العِدَةُ لأُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وغيره. قلْتُ: وهذه الآيةُ الكريمة مُعْلِمَةٌ بشَرَف هذه الأمَّة على العُمُوم في كلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه تعالى، وأقرَّ برسَالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم هم يتفاوتون بعدُ في الشرف؛ بحَسَب تفاوتهم في حقيقة الاتباعية للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في الإِحياء: وإِنما أُمَّتُه صلى الله عليه وسلم مَنِ اتبعه، وما اتبعه إِلاَّ مَنْ أعرض عن الدنيا، وأَقْبَلَ على الآخرةِ، فإِنه عليه السلام ما دَعَا إِلاَّ إِلى اللَّهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، وما صَرَفَ إِلاَّ عن الدنيا والحظوظِ العاجلةِ، فبقدْرِ ما تُعْرِضُ عن الدنيا، وتُقْبِلُ على الآخرة، تَسْلُكُ سبيله الذي سَلَكَهُ صلى الله عليه وسلم، وبقَدْرِ ما سَلَكْتَ سبيله، فقد اتبعته، وبقَدْر ما اتبعتَهُ، صِرْتَ من أمته، وبقَدْرِ ما أَقبلْتَ على الدنيا، عَدَلْتَ عن سبيله، ورغبْتَ عَنْ متابعته، والتحقت بالذين قال اللَّه تعالى فيهم: {فَأَمَّا مَن طغى * وَءَاثَرَ الحياة الدنيا * فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} [النازعات: 37، 38، 39]. انتهى، فإن أردتَّ اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، واقتفاء أثره، فابحث عن سيرته وخُلُقه في كتب الحديث والتفسير.
قال ابنُ القَطَّان في تصنيفه الذي صنَّفه في الآيات والمعجزات: والقول الوجيز في زُهْدِهِ وعبادتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وسائرِ حُلاَه وَمعَاليه صلى الله عليه وسلم: أنه مَلَكَ مِنْ أقْصَى اليمن إلى صحراء عمان إِلى أقصى الحجاز، ثم تُوُفِّيَ عليه السلام، وعليه دَيْنٌ، ودِرْعُهِ مَرْهونةٌ في طَعَام لأهله، ولم يتركْ ديناراً ولا درهماً، ولا شَيَّد قَصْراً، ولا غَرَس نَخْلاً، ولا شَقَّقَ نَهْراً، وكان يأكل على الأرْضِ ويجلسُ على الأرض، ويَلْبَسُ العَبَاءة، ويجالسُ المَساكين، ويَمْشِي في الأسواق، ويتوسَّد يَدُه، ويلعقُ أصابعه، ويُرقِّع ثوبه، ويَخْصِفُ نَعْلَه، ويُصْلِح خُصَّه، ويمهنُ لأهله، ولا يأكل متْكِئاً، ويقول: أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْد، ويقتصُّ من نفْسه، ولا يرى ضاحكاً مِلْء فِيهِ ولو دُعِيَ إِلى ذراعٍ، لأجاب، ولو أُهْدِيَ إِليه كُرَاعٌ لَقِبل، لا يأكلُ وحده، ولا يَضْرِبُ عبده، ولا يمنعُ رفْده ولا ضَرَبَ قطُّ بيدِهِ إِلاَّ في سَبِيل اللَّه، وقام للَّه حتَّى تَوَرَّمَتْ قدماه، فقيل له: أتَفْعَلُ هذا وقد غَفَرَ اللَّه لك مَا تَقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ؟ فقال: «أفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً»، وكان يُسْمَعُ لِجَوْفه أَزِيزٌ؛ كأزيز المِرْجَلِ من البكاءِ؛ إِذا قام بالليل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأتباعه صلاةً دائمةً إلى يوم القيامة. انتهى.
وقال الفَخْر: قوله تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول...} الآية، قال بعضهم: الإِشارة بذلك إِلى مَنْ تقدَّم ذكْرُه من بني إِسرائيل، والمعنى: يتبعونه باعتقاد نبوَّته؛ من حيث وَجَدُوا صفتَهُ في التوراة، وسيجدونه مكتوباً في الإِنجيل.
وقال بعضهم: بل المرادُ مَنْ لحق مِنْ بني إِسرائيل أيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبيَّن تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا تكتب لهم رحمةُ الآخرة إِلاّ إذا اتبعوا النبيَّ الأُميُّ.
قال الفخْر: وهذا القول أقربُ. انتهى. وقوله: {يَجِدُونَهُ}، أي: يجدون صفة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ونعته؛ ففي البخاريِّ وغيره، عن عبد اللَّه بن عمرو؛ أنَّ في التوراة مِنْ صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم «يَأيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَحِرْزاً لِلأُمِيِّيِّن، أنْتَ عَبْدِي وَرَسُولي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سخَّاب في الأَسْوَاق، وَلاَ يَجْزي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو، وَيَصْفَحُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حتى أُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاء؛ بأنْ يَقُولُوا: لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، فَنُقِيمُ بِهِ قُلُوباً غُلْفاً، وأَذَاناً صُمًّا، وَأَعْيُناً عُمْياً»، وفي البخاريِّ: «فَيَفْتَحُ بِهِ عُيُونَاً عُمْياً، وآذاناً صُمًّا، وقُلُوباً غُلْفاً»، ونصَّ كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إِلاَّ أنه قال: «قُلُوباً غُلُوفاً، وآذناً صُمُوماً».
وقوله سبحانه: {يَأْمُرُهُم بالمعروف...} الآية: يحتملُ أن يكون ابتداء كلامٍ وُصِفَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أن يكون متعلِّقاً ب يجدونه في موضع الحال على تجوُّزٍ، أي: يجدونه في التوراةِ آمراً؛ بشرط وجوده، والمعروف: ما عُرِفَ بالشرع، وكلُّ معروف من جهة المروءة، فهو معروفٌ بالشرع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَحَاسِنَ الأَخْلاَقِ» و{المنكر}: مقابله، و{الطيبات}؛ عند مالك: هي المحلَّلات، و{الخبائث} هي المحرَّمات، وكذلك قال ابن عباس، والإِصْرُ الثَّقْل، وبه فَسَّرَ هنا قتادةُ وغيره، والإِصْر أيضاً: العَهْد، وبه فسر ابنُ عباس وغيره، وقد جَمَعَتْ هذه الآيةُ المعنيين؛ فإِن بني إِسرائيل قد كان أخذ عليهم العَهْدُ بأن يقوموا بأعمال ثقال، فَوَضَعَ عنهم نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن جُبيْر: الإِصْر: شدَّة العبادة، وقرأ ابن عامر: {آصارَهُمْ} بالجمع فمَنْ وحَّد الإصر؛ فإنما هو اسمُ جنْس عِنده، يراد به الجمعُ، {والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} عبارةٌ مستعارَةٌ أيضاً لتلك الأثقال، كَقَطْعِ الجِلْدِ من أثر البَوْلِ، وأن لا ديةَ، ولابد من قَتْل القاتل، إلى غير ذلك، هذا قول جمهور المفسِّرين، وقالَ ابن زَيْدٍ: إنما المراد هنا ب {الأغلال} قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ في اليهود:
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]، فمنْ آمن بنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، زالَتْ عنه الدعوةُ، وتغليلها، ومعنى {عَزَّرُوهُ}: أي: وقَّروه، فالتعْزيرُ والنصْرُ: مشاهدةٌ خاصَّة للصحابة، واتباع النور: يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة، والنُّورُ: كنايةٌ عن جُمْلة الشرع، وشَبَّه الشرعَ والهدى بالنور، إِذ القلوبُ تستضيء به؛ كما يستضيء البَصَرُ بالنُّور.

.تفسير الآيات (158- 160):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}
وقوله سبحانه: {قُلْ ياأيها الناس إِنِّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} هذا أمر من اللَّه سبحانه لنبيِّه بإشهار الدعوة العامَّة، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم مِنْ بين سائر الرسُلِ؛ فإِنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلى الناس كافَّة، وإِلى الجنِّ، وكلُّ نبيٍّ إِنما بعث إِلى فرقة دون العُمُوم.
وقوله سبحانه: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ...} الآية: حَضٌّ على اتباع نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقوله: {الذي يُؤْمِنُ بالله وكلماته}، أيْ: يصدق باللَّه وكلماته، والكلماتُ هنا: الآياتُ المنزلة مِنْ عند اللَّه؛ كالتوراة والإنجيل، وقوله: و{اتبعوه} لفظ عامٌّ يدخل تحته جميعُ إلزامات الشريعة، جعلنا اللَّه مِنْ متَّبعيه على ما يلزم بمنِّه ورحمته.
قُلْتُ: فإِن أردتَّ الفوْزَ أيُّها الأَخُ، فعَلَيْكَ باتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتعظيمِ شريعته، وتعظيم جَمِيعِ أسبابه.
قال عِيَاضٌ: وَمِنْ إِعظامه صلى الله عليه وسلم وإِكبارهِ إِعظام جميع أَسبابه وإِكْرَامُ مشاهده وأَمْكِنَتِهِ، ومعاهِدِهِ، وما لَمَسَهُ عليه السلام أَوْ عُرِفَ به، حُدِّثْتُ أن أبا الفَضْل الجوهري، لمَّا وَرَدَ المدينةَ زائراً، وقَرُبَ من بيوتها، ترجَّل، ومشى باكياً منشداً: [الطويل]
وَلَمَّا رَأَيْنَا رَسْمَ مَنْ لَمْ يَدَعْ لَنَا ** فُؤَاداً لِعِرْفَانِ الرُّسُومَ وَلاَ لُبَّا

نَزَلْنَا عَنِ الأَكْوَارِ نَمْشِي كَرَامَةً ** لِمَنْ بَانَ عَنْهُ أَنْ نَلُمَّ بِهِ رَكْبَا

وحُكِيَ عن بعض المريدين؛ أنه لما أشْرَفَ على مدينة الرسول عليه السلام، أنشأ يقُولُ: [الكامل]
رُفِعَ الحِجَابُ لَنَا فَلاَحَ لِنَاظِرِي ** قَمَرٌ تَقَطَّعُ دُونَهُ الأَوْهَامُ

وَإِذَا المَطِيُّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمَّداً ** فَظُهُورُهُنَّ على الرِّجَالِ حَرَامُ

قَرَّبْنَنَا مِنْ خَيْرِ مَنْ وَطِئ الحَصَى ** فَلَهَا عَلَيْنَا حُرْمَةٌ وَذِمَامُ

وحُكِيَ عن بعض المشايِخِ؛ أنه حجَّ ماشياً، فقيل له في ذلك، فقال: العَبْدُ الآبِقُ يأتي إلى بيت مولاه راكباً؟ لو قَدْرَتُ أَنْ أَمْشِيَ على رأسِي، ما مَشَيْتُ على قدَمي.
قال عياضَ: وجديرٌ لمواطَنَ عُمِرَتْ بالوحْيِ، والتنزيل؛ وتردَّد فيها جبريلُ وميكائيل، وعَرَجَتْ منها الملائكةُ والرُّوح؛ وضجَّتْ عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملَتْ تربتها على جَسَد سَيِّد البَشَر؛ وانتشر عنْهَا مِنْ دِينِ اللَّه وسنة رسُوله ما انتشر، مدارسُ وآيات؛ ومَسَاجِدُ وصَلَوَات؛ ومَشَاهِدُ الفَضَائِلِ والخَيْرَات؛ ومعاهدُ البراهين والمُعْجِزَات- أنْ تعظَّم عَرَصَاتها؛ وتُتَنَسَّمَ نفحاتها؛ وتُقَبَّلَ ربُوعُها وجدراتُها: [الكامل]
يَا دَارَ خَيْر المُرْسَلِينَ ومَنْ بِه ** هَدْيُ الأَنَامُ وَخُصَّ بِالآيَاتِ

عِنْدِي لأَجْلِكَ لَوْعَةٌ وَصَبَابَةٌ ** وَتَشَوُّقٌ مُتَوَقِّدُ الجَمَرَاتِ

الأبيات. انتهى من الشفا.
وقوله سبحانه: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ}، أي: يرشدُونَ أنفسهم، وهذا الكلامُ يحتملُ أنْ يريد به وصْفَ المؤمنين منهم، على عهد موسى، وما والاَهُ مِنَ الزمَنِ، فأخبر سبحانه، أنه كان في بني إسرائيل على عتوِّهم وخلافِهِمْ مِنَ اهتدى واتقى وعَدَلَ، ويحتمل أنْ يريد الجماعةَ التي آمَنَتْ بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم، وقوله: {أَسْبَاطًا}: بَدلٌ من {اثنتى}، والتمييزُ الذي بَيْنَ العَدَدَ محذوفٌ تقديره: اثنتي عَشْرَةَ فرقةً أو قِطْعَةً أسباطاً.
وقوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام...} الآية: {انبجست}: بمعنى انفجرت، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المعاني في البقرة.

.تفسير الآيات (161- 162):

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم سَنَزِيدُ المحسنين فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ}: القَرْيَةُ هي بيْتُ المَقْدِسِ.
وقيل: أَرِيحَاء، وبَدَّلَ: معناه غَيَّرَ اللَّفْظَ.

.تفسير الآيات (163- 166):

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}
وقوله سبحانه: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر...} الآية: قال بعضُ المتأوِّلين: إِن اليهودَ المعاصرينَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: إِنَّ بني إِسرائيل لم يَكُنْ فيهم عصْيانٌ، ولا معاندةٌ لمَا أُمرُوا به، فنزلَتْ هذه الآيةُ موبِّخة لهم، فسؤالهم إِنَّما هو على جهة التوبيخِ، والقريةُ هنا: أَيْلَةُ، قاله ابن عباس وغيره، وقيل: مَدْيَن، و{حاضِرة البَحْر}، أي: البحر فيها حاضرٌ، ويحتملُ أنْ يريد معنى الحاضرة؛ على جهة التعظيم لها، أي: هي الحاضرةُ في مُدُن البَحْر، و{يَعْدُونَ}: معناه: يخالفون الشرْعَ؛ مِنْ عَدَا يَعْدُو، و{شُرَّعاً}، أي: مقبلة إِليهم مُصْطَفَّة، كما تقولُ: شُرِعَتِ الرماحُ إِذا مُدَّتْ مصطَفَّة، وعبارةُ البخاري {شُرَّعاً} أيْ: شوارِعَ انتهى.
والعامل في قوله: {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} قولُهُ: {لاَ تَأْتِيهِمْ}، وهو ظرفٌ مقدَّم، ومعنى قوله {كذلك} الإشارةُ إلى أمر الحُوت، وفِتنَتِهِمْ به، هذا على من وَقَفَ على {تَأْتِيهِمْ}، ومن وقف على {كذلك}، فالإشارة إِلى كثرة الحيتانِ شُرَّعاً، أي: فما أتى منها يَوْمَ لا يسبتُونَ، فهو قليلٌ، و{نَبْلُوهُم}، أي: نمتحنهم بِفِسْقهم وعِصْيانهم، وقد تقدَّم في البقرة قصصهم.
وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا}.
قال جمهور المفسِّرين: إن بني إِسرائيل افترقت ثلاثَ فرقٍ: فرقةٌ عصَتْ، وفرقةٌ نهَتْ، وجاهَرَتْ وتكلَّمَت واعتزلت، وفرقةٌ اعتزلت، ولم تَعْصِ ولم تَنْهِ، وأن هذه الفرقة لما رأتْ مجاهرة الناهية، وطُغيانَ العاصيةِ وعَتُوَّهَا، قالَتْ للناهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً}، يريدونّ: العاصيةَ {الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ}، فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إِلى اللَّه، أي: إِقامة عُذْر، ومعنى {مُهْلِكُهُمْ}، أيُّ: في الدنيا، {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ}، أي: في الآخرةِ، والضمير في قوله: {نَسُواْ} للمَنْهِيين، وهو تَرْكٌ سُمِّيَ نِسياناً مبالغةً، وما في قوله: {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} بمعنى الَّذي، و{السُّوءِ} لفظ عامٌّ في جميع المعاصي إِلاَّ أنَّ الذي يختصُّ هنا بحَسَب قصص الآيةِ هو صَيْدُ الحوتِ، و{الذين ظَلَمُواْ}: هم العاصُونَ، وقوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} معناه: مؤلمٌ موجِعٌ شديدٌ، واختلف في الفرقة التي لم تَعْصِ ولم تَنْهَ، فقيل: نَجَتْ مع الناجين، وقيل: هلَكَتْ مع العاصين.
وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}، أي: لأجل ذلك، وعقوبةً عليه، والعُتُوُّ الاستعصاء وقلَّة الطواعية.
وقوله سبحانه: {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ}، يحتمل أن يكون قولاً بلفظ مِنْ مَلَك أسْمَعَهم؛ فكَانَ أذْهَبَ في الإِعراب والهَوْلِ والإِصغارِ، ويحتمل أن يكون عبَارةً عن القُدْرة المكوِّنة لهم قردةً، و{خاسئين}: معناه مبعَدِين ف {خاسئين} خبر بعد خبرٍ، فهذا اختيار أبي الفَتْح، وضعَّف الصفَة، فرُوِيَ أنَّ الشباب منهم مُسِخُوا قردةً، والرجالَ الكبارَ مُسِخَوا خنازير.