فصل: تفسير الآيات (167- 168):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (167- 168):

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العذاب} معنى هذه الآية: وإِذْ علم اللَّه لَيَبْعَثَنَّ، وتقتضي قوَّة الكلام؛ أنَّ ذلك العلْمَ منه سبحانه مقترِنٌ بإنفاذٍ وإمِضاء؛ كما تقول في أمر عَزَمْتَ عليه: عَلِمَ اللَّهُ لأَفْعَلَنَّ.
وقال الطبريُّ وغيره: {تَأَذَّنَ} معناهُّ: أعْلَمَ، وقال مجاهد: {تَأَذَّنَ} معناه: أَمَرَ وقالت فرقة: معنى {تَأَذَّنَ}: تَأَلَّى، والضمير في {عَلَيْهِمْ}، لبني إِسرائيل، وقوله: {مَن يَسُومُهُمْ} قال ابن عباس: هي إشارةٌ إِلى محمَّد صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِهِ، يسومُونَ اليهودَ سُوءَ العذاب.
قال * ع *: والصحيح أنَّ هذا حالهم في كل قُطْر، ومَعَ كُلِّ مِلَّة، و{يَسُومُهُمْ}: معناه: يكَلِّفهم ويحمِّلهم، و{سُوءَ العذاب}: الظاهر منه: أنه الجِزْيَةُ، والإذلالُ، وقد حتم اللَّه علَيْهم هذا، وحَطَّ مُلْكَهم، فليس في الأرض رايَةٌ ليهوديٍّ، ثم حَسُنَ في آخر الآية التنبيهُ على سرعة العِقَاب، والتخويفُ لجميعِ الناسِ، ثم رجى سبحانه بقوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ لطفاً منه بعباده جلَّ وعَلا، {وقطعناهم فِي الأرض}، معناه: فرَّقناهم في الأرض.
قال الطبريُّ عن جماعة من المفسِّرين: ليس في الأرض بقعةً إِلاَّ وفيها مَعْشَرٌ من اليهودِ، والظاهر في المُشَارَ إِليهم بهذه الآية؛ أنهم الذين بعد سُلَيْمَانَ وَقْتَ زوالِ مُلْكهم، والظاهر أنهم قبل مُدَّة عيسى عليه السلام؛ لأنهم لم يكُنْ فيهم صالحٌ بعد كُفْرهم بعيسَى صلى الله عليه وسلم و{بلوناهم}، معناه: امتحناهم {بالحسنات}، أي: بالصِّحَّة والرخاءِ، ونحو هذا ممَّا هو بَحَسَب رأي ابْن آدم ونَظَرِه، و{السيئات}: مقابلات، هذه {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إِلى الطاعة.

.تفسير الآيات (169- 170):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
وقوله سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب...} الآية: خَلَفَ معناه: حَدَثَ خَلْفَهم وبعدهم، و{خَلْفٌ}- بإِسكان اللام- يستعمل في الأشهر: في الذَّمِّ.
وقوله سبحانه: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} إشارةٌ إِلى الرُّشَاوالمكاسب الخبيثة، والعَرَضُ: ما يَعْرِضُ وَيعنُّ، ولا يثبُتُ، والأَدنَى: إِشارةٌ إِلَى عيشِ الدنيا، وقولهم: {سَيُغْفَرُ لَنَا} ذمٌّ لهم باغترارهم، وقولهِمْ {سَيُغْفَرُ لَنَا}، مع علمهم بما في كتاب اللَّهِ، مِنَ الوعيد على المعاصي، وإِصرارِهِم، وأنَّهم بحالٍ إِذا أمكنَتْهم ثانيةً ارتكبوها، فهؤلاء عَجَزَةٌ؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنى عَلَى اللَّهِ»، فهؤلاءِ قطعوا بالمغفرة وهم مُصِرُّون، وإِنما يقول: {سَيُغْفَرُ لَنَا} مَنْ أقلع ونَدِمَ.
وقوله سبحانه: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكتاب...} الآية: تشديدٌ في لزوم قول الحقِّ على اللَّه في الشَّرْع والأحكام، وقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} معطوفٌ على قوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ}؛ لأنه بمعنى المُضِيِّ، والتقديرُ: أَلَيْسَ قد أُخِذَ عليهم ميثاقُ الكتابِ، ودَرَسُوا ما فيه، وبهذَيْنِ الفعْلَيْنِ تقومُ الحجَّة عليهم في قولهم الباطَل، وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ: {وادارسوا مَا فِيه}.
ثم وعظ وذكَّر تبارَكَ وتعالى بقوله: {والدار الأخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، وقرأ أبو عمرو: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ}- بالياء- من أسْفَلُ.
وقوله سبحانه: {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب} عطْفٌ على قوله: {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، وقرأ عاصمٌ وحْده؛ في رواية أبي بَكْرٍ {يُمْسِكُونَ}- بسكون الميم، وتخفيف السين، وقرأ الأعمش: {والَّذينَ استمسكوا}.

.تفسير الآيات (171- 174):

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}
وقوله عز وجل: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، {نَتَقْنَا}: معناه: اقتلعنا ورفَعْنا، وقد تقدَّم قصص الآية في البقرة، وقوله سبحانه: {واذكروا مَا فِيهِ}، أي: تدبَّروه واحفظوا أوامره ونواهيه، فما وَفَّوْا.
وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا...} الآية، قوله: {مِن ظُهُورِهِمْ} قال النُّحاة: هو بدلُ اشتمال من قوله: {مِن بَنِي آدَمَ}، وتواترتِ الأحاديثُ في تفسير هذه الآية عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طُرُقٍ: «أن اللَّه عزَّ وجلَّ استخرج مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عليه السلام نَسَمَ بنيه، ففي بعض الروايات كالذَّرِّ، وفي بعضها: كالخَرْدَلِ». وقال محمد بن كَعْب: إِنها الأرواحُ جُعلَتْ لها مِثَالاَتٌ، وروي عن عبد اللَّه بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «أُخِذُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ؛ كَمَا يُؤْخَذُ بالمُشْطِ مِنَ الرَّأْس، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَقُولاً كَنَمْلَةِ سُلَيْمَانَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَأَنْ لاَ إله غَيْرُهُ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، والتزموه؛ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهْ سَيَبْعَثُ الرُّسْلَ إِلَيْهِمْ مُذَكِّرَةً وداعيةً، فشهد بعضُهم على بعض، وشهد اللَّه عليهم وملائكته» قال الضحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: من مات صَغيراً، فهو على العَهْدِ الأول، ومَنْ بَلَغَ، فقد أخذه العهدُ الثَّاني، يعني الذِي في هذه الحياة المعقولة الآنَ.
وقوله {شَهِدْنَا} يحتملُ أن يكون مِنْ قَوْلَ بَعْضِ النَّسمِ لبعضٍ، فلا يَحْسِنُ الوقْفُ على قوله: {بلى}، ويحتمل أن يكون قوله: {شَهِدْنَا} من قول الملائكة، فيحسن الوقْفُ على قوله: {بلى}.
قال السديُّ: المعنى: قال اللَّه وملائكته: شَهِدْنَا ورواه عبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين...} الآية: المعنى: لِئَلاَّ تقولُوا، أَوْ مخافَةَ أنْ تقولوا، والمعنى في هذه الآية: أنَّ الكَفَرَة لو لم يؤخذ عليهم عَهْدٌ، ولا جاءَهُمْ رسولٌ مذكِّر بما تضمَّنه العَهْد من توحيد اللَّه وعبادته، لكانَتْ لهم حُجَّتَان:
إحداهما: أنّ يقُولُوا كُنَّا عن هذا غافلين.
والأخرى: كنا تباعاً لأسلافنا، فكَيْفَ نَهْلِكُ، والذنْبُ إنما هو لِمَنْ طَرَّق لنا وأضلَّنا، فوقَعَ شهادَةُ بعضهم على بعضُ، وشهادةُ الملائكة عَلَيْهمِ، لتنقطع لهم هذة الحجةُ.

.تفسير الآيات (175- 177):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)}
وقوله سبحانه: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتيناه آياتنا}.
قال ابن عباس: هو رجُلٌ من الكَنْعَانِيِّينَ الجَبَّارِين، اسمه بَلْعَمُ بْنُ باعُوراء، وقيل: بَلْعَامُ بْنُ باعِر.
وقيل: غير هذا، وكان في جملة الجَبَّارِين الذي غَزَاهُمْ موسى عليه السلام، فَلَما قَرُبَ منهم موسى، لجؤوا إِلى بَلْعَام، وكانَ صالِحاً مستجابَ الدَّعْوة، وقيل: كان عنْدَهُ علْم مِنْ صُحُف إِبراهيم ونحوها.
وقيل: كان يعلم اسم اللَّه الأَعظمَ، قاله ابنُ عبَّاس أيضاً، وهذا الخلافُ هو في المراد بقوله: {آتيناه آياتنا}، فقال له قومُه: ادع اللَّه على موسى وعَسْكَره، فقالَ لَهُمْ: وَكَيْفَ أدعو عَلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فما زالوا به حتى فَتَنُوهُ، فخَرَجَ حتى أشْرَفَ عَلَى جَبَلٍ يرى منه عَسْكَرَ موسى، وكان قد قال لِقَوْمِهِ: لا أفعَلُ حتى أستأْمِرَ رَبِّي، فَفَعَلَ، فنُهِيَ عن ذلك، فقال لهم: قد نُهِيتُ، فما زالوا به حتَّى قال: سأَسْتَأْمِرُ ثانيةً، ففعل، فسكَتَ عنه، فأخبرهم، فقالوا له: إِن اللَّه لَمْ يَدَعْ نَهْيَكَ إِلا وقدْ أَراد ذلك، فخَرَجَ، فلما أشْرَفَ على العَسْكَر، جَعَلَ يدْعُو على موسَى، فتحوَّل لسانُهُ بالدعاءِ لموسى، والدعاءِ على قومه، فقالوا له: ما تقولُ؟ فقال: إِني لا أمْلِكُ هذا، وعَلِمَ أنه قد أخطأ، فَرُوِيَ أنه قد خرج لِسَانُه على صدره، فقال لقومه: إِني قَدْ هَلَكْتُ، ولكِنْ لَمْ يَبْقَ لكم إِلا الحِيلَة، فأخرجوا النِّسَاء إِلى عَسْكَرِ موسى عَلَى جهة التَّجْرِ وغيره، ومُرُوهُنَّ أَلا تَمْتَنِع امرأة مِنْ رجل، فإِنهم إِذا زَنَوْا هلَكُوا، ففعلُوا، فخرج النِّسَاء، فزنى بهِنَّ رجالٌ مَنْ بني إِسرائيل، وجاء فِنْحَاصُ بْنُ العِيزَارِ بْنِ هَارُونَ، فانتظم بُرمْحه امرأة ورجُلاً من بني إِسرائيل، ورفعهما على الرَمْحِ، فوقع في بني إِسرائيل الطاعونُ، فمات منهم في ساعةٍ واحدةٍ سبْعُونَ ألْفاً، ثم ذَكَرَ المعتمِرُ عن أبيه: أنَّ موسى عليه السلام قَتَلَ بعد ذلك الرَّجُلَ المُنْسَلِخَ مِنْ آيات اللَّه.
قال المَهْدَوِيُّ: رُوِيَ أنه دعا على مُوَسَى أَلاَّ يَدْخُلَ مدينةَ الجَبَّارين؛ فأجيب، ودعا عليه موسى أَنْ ينسى اسم اللَّهِ الأعْظَمَ؛ فأجيبَ، وفي هذه القصَّة رواياتٌ كثيرةً تحتاجُ إِلى صحَّة إِسناد، و{انسلخ}: عبارةٌ عن البراءةِ منها، والإنفصال والْبُعْدِ، كالمُنْسَلِخ من الثياب والجِلْد، و{أَتْبَعَهُ الشيطانُ}، أيْ: صيَّره تابِعاً؛ كذا قال الطبريُّ: أَما لضلالةٍ رَسَمَها له، وإِما لنفسه، و{مِنَ الغاوين}، أي: {مِنَ الضالين}، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، قال ابن عباس وجماعة: معنى {لرفعناه} لشرَّفنا ذكْرَه، ورفَعْنَا منزلته لدينا؛ بهذه الآيات الَّتي آتيناه، ولكنه أخلد إِلى الأرْضِ، أي: تقاعَسَ إلى الحضيض الأسفَلِ الأخسِّ من شهوات الدنيا ولذَّاتها؛ وذلك أنَّ الأرض وما ارتكن فيها: هي الدنيا وكلُّ ما عليها فانٍ، ومَنْ أخلد إِلى الفاني، فقد حرم حظَّ الآخرة الباقية.
* ت *: قال الهَرَوِيُّ: قوله: {أَخْلَدَ إِلَى الأرض}: معناه: سكَنَ إِلى لَذَّاتها، واتبع هواه، يقال: أخلد إِلى كَذَا، أي: رَكَنَ إِليه واطمأَنَّ به.
انتهى.
قال عَبْدُ الحَقِّ الإِشْبِيليُّ رحمه اللَّه في العاقبة: واعلم رحمك اللَّه؛ أَنَّ لسوء الخاتمة أعاذنا اللَّه منْها أسباباً، ولها طرقٌ وأبوابٌ، أعظمها: الإِكبابُ على الدنيا، والإِعراضُ عن الآخرة، وقد سَمِعْتَ بقصَّة بَلْعَام بْنِ بَاعُورَاءَ، وما كان آتاه اللَّه تعالى من آياته؛ وأطلعه عليه من بيِّناته؛ وما أراه من عجائب مَلَكُوته، أخْلَدَ إِلى الأرض، واتبع هواه؛ فسَلَبَه اللَّه سبحانه جَمِيعَ ما كان أَعطاه؛ وتَرَكَه مع مَنِ استماله وأغواه. انتهى.
وقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب}، شُبِّه به في أنه كان ضالاًّ قبل أن يُؤتى الآياتِ، ثم أُوتِيَها، فكان أيضاً ضالاًّ لَم تنفَعْه، فهو كالكَلْب في أنَّه لا يفارِقُ اللَّهَثَ في كلِّ حال؛ هذا قول الجمهور.
وقال السدِّيُّ وغيره: إِنَّ هذا الرجل عُوقِبَ في الدنيا، فإِنه كان يَلْهَثُ كما يَلْهَثُ الكَلْبُ، فشُبِّه به صورةً وهيئةً، وذكر الطبريُّ، عن ابن عباس؛ أنَّ معنى: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ}: إنْ تَطْرَدهُ.
وقوله: {ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا}، أي: هذا المَثَلُ، يا محمد، مثَلُ هؤلاء الذين كانوا ضالِّين قَبْلَ أن تأتيهم بالهدى والرِّسالة، ثم جئتهم بها، فَبَقُوا على ضلالتهم، ولم ينتفِعُوا بذلك، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الكَلْبِ.
وقوله: {فاقصص القصص}، أي: اسرد عليهم ما يعلمون أنَّه من الغيوب الَّتي لا يعلمها إِلا أهْل الكتب الماضية ولَسْتَ منهم؛ {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك؛ فيؤمنوا.

.تفسير الآيات (178- 180):

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}
وقوله سبحانه: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون}، القول فيه: أن ذلك كلَّه من عند اللَّه: الهدايةُ منه وبخَلْقه واختراعه؛ وكذلك الإِضلال، وفي الآيةِ تعجيبٌ مِنْ حال المذْكُورين.
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس}، هذا خبرٌ من اللَّه تعالى أنه خَلَق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثير، وفي ضِمْنه وعيدٌ للكفَّار، وذرأ: معناه: خَلَق وأوْجَدَ، مع بَثٍّ ونَشْرٍ.
وقوله سبحانه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ...} الآيةَ: لما كانَتْ هذه الطائفةُ الكافرةُ المُعْرِضَةُ عن النَّظَر في آيات اللَّه، لم ينفعْهم النظَرُ بالقَلْب، ولا بالعَيْن، ولا ما سَمِعُوه من الآيات والمواعظ، استوجبوا الوصْفَ بأنهم لا يفقهون، ولا يُبْصرون، ولا يَسْمعون، والفِقْه: الفَهْم، {أولئك كالأنعام} في أنَّ الأنعام لا تَفْقَهُ الأشياء، ولا تعقلُ المقاييسِ، ثم حَكَم سبحانه عَلَيْهم بأنهم أضَلُّ؛ لأن الأنعام تلك هِيَ بِنْيَتُها وخِلْقَتُها، وهؤلاءِ مُعَدُّونَ للفَهْم والنظر، ثم بَيَّنَ سبحانه بقوله: {أولئك هُمُ الغافلون} الطريق الذي به صاروا أضَلَّ من الأنعام، وهو الغَفْلة والتقصير.
قال الفَخْر: أمَّا قوله تعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، فتقريره: أن الإِنسان وسائر الحيوانات مُتشَاركةٌ في قُوَى الطَّبيعة؛ الغَاذِيَةِ، والنامية، والمُوَلِّدةِ، ومتشاركَةٌ أيضاً في منافع الحواسِّ الخَمْسِ؛ الباطنةِ والظاهرةِ، وفي أحوالِ التخيُّل، والتفكُّر، والتذكُّر، وإِنما حَصَل الامتياز بيْنَ الإِنسان، وسائِرِ الحيواناتِ؛ في القوَّة العقليَّة والفكْريَّة التي تهديه إِلى معرفة الحقِّ، فلما أعرضَ الكُفَّار عن أحْوالِ العَقْلِ والفكْرِ، ومعرفةِ الحقِّ، كانوا كالأنعام، بل هم أضلُّ؛ لأن الحيواناتِ لا قدرةَ لها على تحْصيلِ هذهِ الفضائل، وقد قال حَكِيمُ الشُّعَراء: [البسيط]
الرُّوحُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ العَرْشِ مَبْدَؤُه ** وَتُرْبَةُ الأَرْضِ أَصْلُ الجِسْمِ والبَدَنِ

قَدْ أَلَّفَ المَلِكُ الجَبَّارُ بَيْنَهُمَا ** لِيَصْلُحَا لِقَبُولِ الأَمْرِ والْمِحَنِ

فَالرُّوحُ فِي غُرْبةٍ وَالجِسْمُ في وَطَن ** فَلْتَعْرِفَنَّ ذِمَامَ النَّازِحِ الوَطنِ

انتهى.
وقوله سبحانه: {وَللَّهِ الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا...} الآية: السببُ في هذه الآية على ما روي، أن أبَا جهلٍ سمع بعْضَ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقرأ، فيذكُر اللَّه تعالَى في قراءته، وَمَرَّةَ يَذْكُر الرحمن، ونَحْوَ ذلك، فقال: محمَّدٌ يَزعم أنَّ إلإله واحِدٌ، وهو إِنما يعبدُ آلهةً كثيرةً، فنزلَتْ هذه الآية، ومِنْ أسماء اللَّه تعالى ما ورد في القُرآن، ومنها ما ورد في الحديث وتواتَرَ، وهذا هو الذي ينبغي أَنْ يُعْتَمدَ عليه.
وقوله سبحانه: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِي أسمائه}، قال ابن زيد: معناه: اتركوهم، فالآية على هذا منسوخةٌ، وقيل: معناه: الوعيدُ؛ كقوله سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] و{ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} [الحجر: 3] يقال: أَلْحَد وَلَحَدَ بمعنى جَارَ، ومَالَ، وانحرف، وألْحَدَ: أشهرُ؛ ومنه لَحْدُ القَبْرِ، ومعنى الإِلحاد في أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ: أنْ يسمُّوا اللاَّتَ نظيرَ اسم اللَّه تعالى؛ قاله ابن عباس، والعُزَّى نظيرَ العزيزِ؛ قاله مجاهد، ويسمُّون اللَّه أباً، ويسمُّون أوثانهم أرْباباً.
وقوله سبحانه: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}: وعيدٌ محضٌ.