فصل: تفسير الآيات (40- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (40- 41):

{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
وقوله سبحانه: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} هذا أيضاً شرطٌ وجوابٌ، ومعنى الآية: إِنكم إِن تركتم نَصْره، فاللَّه متكفِّل به؛ إِذ قد نصره في موضع القلَّة والانفراد وكثرةِ العدو، ولَنْ يترك نَصْرَهُ الآن.
وقوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ}، أسند الإخراج إِليهم؛ تذنيباً لهم، ولما كان مَقْصِدُ أبي سفيان بن الحارثِ الفَخْرَ في قوله: من طردت كل مطرد، لم يقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ما عُلِمَ في كتب السِّيرَةِ، والإِشارةُ إِلى خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مكَّة إلى المدينة، وفي صحبته أبو بَكْر، واختصار القصَّة أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر إِذْنَ اللَّه سبحانه في الهِجْرة من مكَّة، وكان أبو بَكْر حينَ تَرَكَ ذمَّة ابنِ الدِّغِنَّةِ قد أراد الخروجَ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اصبر، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُسَهِّلَ الصُّحْبَةَ» فَلَمَّا أَذِنَ اللَّه لنبيِّه في الخروج، تجهَّز مِنْ دار أبي بَكْر، وخَرَجَا، فبقيا في الغار الذي في جَبَلِ ثَوْرٍ في غَرْبِيِّ مَكَّة ثلاثَ ليالٍ، وخرج المشركُونَ في إِثرهِمْ؛ حتى انتهوا إِلى الغار، فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِم الأَثَرَ، وقال أبو بَكْرٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ نَظَر أَحَدُهُمْ إِلى قدمه، لرآنَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا ظَنُّكَ باثنين اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» هكذا في الحديث الصحيحِ، ويروَى أن العنكبوتَ نَسَجَتْ على باب الغَار.
ويُرْوَى أن الحمامة عشَّشَتْ عند باب الغارِ، وكان يروحُ عليهما باللَّبَنِ عامرُ بْنُ فُهَيْرَةَ.
وقوله: {ثَانِيَ اثنين}، معناه: أحد اثنين، وقوله: {إِنَّ الله مَعَنَا}، يريد: بالنصر والنجاة واللُّطْف.
وقوله سبحانه: {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا}، قيل: يريد: لا إله إِلا اللَّه، وقيل: الشرْعَ بأسره.
وقوله سبحانه: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} معنى الخِفَّة والثِّقَلِ ههنا: مستعار لمن يمكنه السفَرُ بسهولة، ومن يمكنه بصُعُوبة، وأما من لا يمكنه، كالعُمْيِ ونحوهم، فخارجٌ عن هذا.
وقال أبو طلحة: ما أسْمع اللَّه عذر أحد، وخرج إِلى الشامِ، فجاهد حتَّى ماتَ.
وقال أبو أيُّوب: ما أَجدني أبداً إِلا خفيفاً أو ثقيلاً.
وقوله سبحانه: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}: تنبيهٌ وهزٌّ للنفوس.

.تفسير الآيات (42- 45):

{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}
وقوله سبحانه: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ}، هذه الآية في المنافقين المتخلِّفين في غزوة تَبُوكَ، وكَشْفِ ضمائرهم، وأما الآيات التي قبلها، فعامَّة فيهم وفي غيرهم، والمعنى: لو كان هذه الغزوَ لِعَرَضٍ، أي: لمال وغنيمةٍ تنالُ قريباً؛ بسَفرٍ قاصدٍ يسيرٍ، لبادروا لا لوجه اللَّه، {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} وهي المسافةُ الطويلة.
وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله}، يريد: المنافقينَ، وهذا إِخبار بغَيْب.
وقوله عز وجل: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}، هذه الآيةُ هي في صِنْفٍ مُبَالِغٍ في النفاق، استأذنوا دون اعتذار، منهم: الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ التأبوت وَمنِ اتبعهم؛ قال مجاهدٌ: وذلك أَنَّ بعضهم قال: نَسْتَأْذنه، فإِن أَذِنَ في القعودِ قعدنا، وَإِلاَّ قعدنا، وقَدَّم له العَفْوَ قبل العتاب: إِكراماً له صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة: بل قوله سبحانه {عَفَا الله عَنكَ}: استفتاح كلامٍ كما تقولُ: أصْلَحَكَ اللَّهُ، وأَعَزَّكَ اللَّهُ، ولم يكنْ منه عليه السلام ذَنْبٌ يعفَى عنه؛ لأن صورة الاستنفار وقَبُول الأَعْذَار مصروفةٌ إِلى اجتهاده.
وقوله: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ}، يريد: في استئذانك، وأنك لو لم تأذن لهم، خرجوا معك.
وقوله: {وَتَعْلَمَ الكاذبين}، أي: بمخالفتكَ، لَوْ لم تأذن؛ لأنهم عَزَمُوا على العِصْيَان، أذنتَ لهم أو لم تأذن، وقال الطبريُّ: معناه: حتى تعلم الصَّادقين؛ في أَنَّ لهم عُذْراً، والكاذبين، في أن لا عُذْرَ لهم، والأول أصْوبُ، واللَّه أعلم، وأمَّا قوله سبحانه: في سورة: {فَإِذَا استئذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ...} [النور: 62] الآية، ففي غزوة الخندَقِ نزلَتْ: {وارتابت قُلُوبُهُمْ}، أيْ: شكَّت و{يَتَرَدَّدُونَ}، أي: يتحيَّرون؛ إِذ كانوا تخطر لهم صِحَّة أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحياناً، وأنه غير صحيحٍ أحياناً، فهم مذبذبُونَ.

.تفسير الآيات (46- 49):

{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}، أيْ: لو أرادوا الخروجَ بنيَّاتهم، لنظروا في ذلك واستعدوا له.
وقوله: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ}.
* ص *: و{ولكن}: أصلها أَن تقع بَيْنَ نقيضَيْن أَو ضِدَّيْنِ، أَوْ خَلافَيْن، على خلاف فيه. انتهى. و{انبعاثهم}: نفوذَهُمْ لهَذِهِ الغزوة، والتثبيطُ: التَّكْسِيلُ وكَسْر العزم.
وقوله سبحانه: {وَقِيلَ اقعدوا}، يحتمل أنْ يكون حكايةً عن اللَّه، أي: قال اللَّه في سابق قضائِهِ: اقعدوا مع القاعدين، ويحتملُ أنْ يكون حكايةً عنهم، أي: كانَتْ هَذِهِ مقالَةَ بَعْضِهِمْ لبعضٍ، ويحتملُ أنْ يكون عبارةً عن إِذْنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم في القعود، أيْ: لما كره اللَّه خروجهم، يَسَّر أَنْ قلْتَ لهم: اقعدوا مع القاعدين، والقعودُ؛ هنا: عبارةٌ عن التخلُّفِ، وكراهيةُ اللَّهِ انبعاثهم: رِفْقٌ بالمؤمنين.
وقوله سبحانه: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} الخبالُ: الفسادُ في الأشياء المؤتَلِفة؛ كالمودات، وبَعْضِ الأجرامِ، {لأَوْضَعُواْ} معناه: لأسرعوا السَّيْر، و{خلالكم} معناه: فيما بينكم.
قال * ص *: {خلالكم} جمع خَلَلٍ، وهو الفُرْجَة بين الشيئين، وانتصب على الظَّرف ب {لأَوْضَعُواْ}، و{يَبْغُونَكُمُ}: حالٌ، أي: باغين. انتهى. والإِيضاع: سُرْعَةُ السير، ووقَعْتُ {لأَوْضَعُواْ} بألف بَعْدَ لا في المصحف، وكذلك وقعتْ في قوله: {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] {يَبْغُونَكُمُ الفتنة}، أي: يطلبون لكم الفتْنَة، {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ}، قال مجاهد وغيره: معناه: جواسيسُ يسمعون الأخبار، ويَنْقُلُونها إِليهم، وقال الجمهور: معناه: وفيكم مُطِيعُونَ سامعون لهم.
وقوله سبحانه: {لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ}، في هذه الآية تحقيرٌ لشأنهم، ومعنَى قوله: {مِن قَبْلُ}: ما كان من حالهم في أُحُدٍ وغيرها، ومعنى قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور}: دبَّروها ظهراً لبطْنٍ، وسعوا بكُلِّ حيلةٍ {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي}، نزلَتْ في الجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وأسند الطبريُّ أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالَ: «اغْزُوا تَبُوكَ، تَغْنَمُوا بَنَاتِ الأصْفَرِ» فقال الجَدُّ: ائذن لَنَا وَلاَ تَفْتِنَّا بالنِّسَاءِ، وقال ابن عبَّاس: إِن الجَدَّ قال: ولكنِّي أُعِينُكَ بِمَالِي.
وقوله سبحانه: {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ}، أي: في الذي أظْهَرُوا الفِرَارَ منه.

.تفسير الآيات (50- 52):

{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}
وقوله سبحانه: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ...} الآية: الحسنَةُ هنا بحسب الغَزْوَة: هي الغنيمةُ والظفرُ، والمصيبةُ: الهزيمة والخيبةُ، واللفظ عامٌّ بعد ذلك في كلِّ محبوب ومكروه، ومعنى قوله: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ}، أَيْ: قد أخذنا بالحَزْمِ في تخلُّفنا وَنَظَرْنَا لأنفسنا، ثم أمر تعالَى نبيَّه، فقال: قل لهم يا محمَّد: {لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا}، وهو إِما ظفراً وسروراً عاجلاً، وإما أن نستشهد فَنَدْخُلَ الجنة، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين}، أي: قل للمنافقين، و{الحسنيين}: الظَّفَرُ، والشَّهادة.
وقوله: {أَوْ بِأَيْدِينَا}، يريد: القَتْلَ.

.تفسير الآيات (53- 54):

{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}
وقوله سبحانه: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} الآية: سَبَبُها أَنَّ الجَدَّ بْنَ قَيْسٍ حين قال: ائذن لي ولا تفتنِّي، قال: إِني أعينك بمالي، فنزلَتْ هذه الآية فيه، وهي عامَّة بعده.
وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ}. وفي صحيح مسلم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «إِنَّ ثَوَابَ الكَافِرِ عَلَى أَفْعَالِهِ البَرَّةِ هُوَ في الطُّعْمَةِ يَطْعَمُهَا» وَنَحْوَ ذلك، وهذا مَقْنَعٌ لا يحتاج معه إِلى نَظَرٍ، وأما أَنْ ينتفع بها في الآخرة فلا، و{كسالى}: جمع كَسْلاَن.

.تفسير الآيات (55- 57):

{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}
وقوله سبحانه: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحياة الدنيا...} الآية: حقَّر في الآية شأْنَ المنافقين، وعلَّل إِعطاء اللَّه لهم الأَمْوَالَ والأولاد؛ بإِرادته تعذيبهم بها في الحياةِ الدنيا، وفي الآخرة.
قال ابنُ زَيْد وغيره: تعذيبُهم بها في الدُّنْيَا هو بمصائبها ورزايَاهَا، هِيَ لهم عذابٌ؛ إذ لا يُؤْجَرُونَ عليها، ومِنْ ذلك قَهْرُ الشَّرعِ لهم على أداء الزكاةِ والحقوقِ والواجبات.
قال الفَخْرُ: أمَّا كون كثرة الأموال والأولادِ سَبَباً للعذاب في الدنيَا، فحاصَلٌ من وجوه: مِنْهَا: أن كلَّما كان حُبُّ الإِنسان للشيء أَشَدَّ وأقوَى، كان حزنُهُ وتألُّم قلبِهِ علَى فراقه أعظَمَ وأصعَبَ، ثم عند الموتِ يَعْظُمُ حزنه، وتشتدُّ حسرته، لمفارقته المحبوبَ، فالمشغوفُ بحبِّ المال والولدِ لا يزالُ في تَعَبٍ، فيحتاج في اكتساب الأموالِ وتحصيلها إِلى تعبٍ شديدٍ ومشقَّة عظيمةٍ، ثم عند حصولِهَا يحتاجُ إِلى متاعِبَ أَشدَّ وأصعَبَ في حفظها وصونِها؛ لأن حفظ المَالِ بَعْد حصوله أصْعَبُ من اكتسابه، ثم إِنه لا ينتفع، إِلاَّ بالقليلِ مِنْ تلك الأموال، فالتعبُ كثيرٌ، والنفعُ قليلٌ، ثم قالَ: واعلم أنَّ الدنْيَا حلوةٌ خَضِرةٌ، والحواسُّ الخمسُ مائلةٌ إِليها، فإِذا كَثُرت وتوالَتْ استغرقت فيها، وانصرف الإِنسان بكلِّيته إِليها، فيصير ذلك سبباً لحرمانه من ذكْرِ اللَّهِ، ثم إِنه يحْصُلُ في قلبه نَوْعُ قسوةٍ وقوةٍ وقهْرٍ، وكلَّما كان المال والجاهُ أَكثر، كَانَتْ تلك القسوةُ أَقوَى، وإِلى ذلك الإِشارةُ بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّءَاهُ استغنى} [العلق: 6، 7] فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سَبَبٌ قويٌّ في زوال حُبِّ اللَّه تعالى وحبِّ الآخرة مِنَ القَلْبِ، وفي حصول الدنْيَا وشهواتِهَا في القَلْبِ وعنْدَ الموت؛ كأَنَّ الإِنسان ينتقلُ من البستان إلى السِّجْن، ومِنْ مجالسة الأقرباءِ والأحبَّة إِلَى موضعِ الغُرْبَة والكُرْبة، فيعظُمُ تألمُّه، ويقوَى حزنه، ثم عند الحَشْر: حَلاَلُهَا حسابٌ، وحرامُها عِقَابٌ، فثبت أن كثرة الأمْوَالِ والأولادِ سَبَبٌ لحصولِ العَذَاب في الدُّنْيا والآخرة. انتهى.
ثم أخبر سبحانه؛ أنهم ليسوا مِنَ المؤمنين، وإِنما هم يَفزَعُونَ مِنْهم، والفَرَقُ: الخوف.
وقوله سبحانه: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً}: الملجأ مِنْ لَجَأَ يَلْجَأُ، إِذا أَوَى واعتصم، وقرأ الجمهور: {أَوْ مَغَارَاتٍ}- بفتح الميم-، وهي الغيران في أعراض الجبالِ، {أَوْ مُدَّخَلاً}، معناه: السَّرَبُ والنَّفَقُ في الأرض، وهو تفسير ابن عبَّاس في هذه الألفاظ، وقرأ جمهور الناس: {يَجْمَحُونَ}: ومعناه يُسْرِعُون.
قال الفَخْر: قوله: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون إِسراعاً لا يرد وجوههم شَيْء، ومِنْ هذا يقال: جَمَعَ الفَرَسُ، وفَرَسٌ جَمُوحٌ، وهو الذي إِذا حَمَلَ، لم يردَّه اللجَامُ، انتهى.

.تفسير الآيات (58- 59):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}
وقوله عز وجل: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ...} الآية: أَيْ: ومن المنافقين مَنْ يلمزك، أيْ: يعيبُكَ ويأخذ منك في الغَيْبة؛ ومنه قولُ الشاعر: [البسيط]
إِذَا لَقِيتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَة ** وَإِنْ أَغِيبُ فَأَنْتَ الهَامِزُ اللُّمَزَهْ

ومنه قوله سبحانه: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ...} الآية: المعنى: لو أن هؤلاء المنافقين رَضُوا قِسْمَةَ اللَّهِ الرزْقَ لهم، وما أعطاهم على يدِ رَسُولِهِ، وأقرُّوا بالرغْبَةِ إِلى اللَّهِ، لكان خَيْراً لهم، وحُذِفَ الجوابُ، لدلالة ظاهر الكَلاَمِ عليه، وذلك مِنْ فصيحَ الكلامِ وإِيجازه.

.تفسير الآية رقم (60):

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ...} الآية: {إِنَّمَا} في هذه الآيةِ حاصرةٌ تقتضي وقوفَ الصَدقاتِ على الثمانيةِ الأصناف، وإِنما أُخْتُلِفَ في صُورَة القِسْمَةِ، ومَذْهَب مالكٍ وغيره؛ أَنَّ ذَلِكَ عَلى قَدْر الاجتهاد، وبحسب الحاجة، وأما الفقيرُ والمِسْكين، فقال ابن عبَّاس والحسن ومجاهدٌ والزُّهْرِيُّ وابن زَيْد وغيرهم: المَسَاكِينُ: الذين يَسْعَوْنَ وَيَسْأَلُونَ، والفقراء: الذين يتصَاوَنُون، وهذا القولُ أحسنُ ما قيل في هذا، وتحريره أن الفقيرَ هو الذي لا مَالَ له إِلا أنه لم يذلَّ نفسه، ولا يذلُّ وجهه؛ وذلك إِما لتعفُّفٍ مُفْرِطٍ، وإِما لِبُلغَةٍ تكون له، كالحَلُوبة وما أشبهها، والمسكينُ هو الذي يقترن بفقره تذلُّل وخضوعٌ وسؤالٌ، فهذه هي المَسْكَنَة؛ ويقوِّي هذا أن اللَّه سبحانه قد وَصَف بني إِسرائيل بالمَسْكَنة، وقَرَنها بالذِّلَّة مع غناهم، وإِذا تأمَّلت ما قلناه، بَانَ أنهما صِنْفان موجُودَان في المسلمين.
* ت *: وقد أكْثر الناس في الفَرْق بين الفَقِير والمِسْكِين، وأوْلَى ما يعوَّل عليه ما ثَبَتَ في ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد رَوَى مالكٌ، عن أبي الزِّنَادِ عن الأعرج عن أبي هريرة؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ المِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ»، انتهى. وأوَّل أبو عمر في التمهيد هذا الحديثَ، فقال: كأنه أراد- واللَّه أعلم- ليس المسكينُ على تمامِ المَسْكَنة، وعلى الحقيقة إِلا الذي لا يَسْأَلُ النَّاس. انتهى.
وأَمَّا العاملون: فهم جُبَاتها يستنيبهم الإِمامُ في السعْي على الناس، وجَمْعِ صَدَقَاتهم، قال الجُمْهور: لَهُمْ قَدْر تعبهم ومؤنتهم، وأما {المؤلفة قُلُوبُهُمْ}، فكانوا مُسْلِمين وكافرينَ مستَتِرِينَ مُظْهرين للإِسلام؛ حتى وثَّقه الاستئلاف في أكثرهم، واستئلافهم إِنما كان لِتُجْلَبَ إلى الإِسلام مَنْفَعة، أو تُدْفَعَ عنه مَضَرَّة، والصحيحُ بَقَاءُ حكمهم؛ إِن احتيج إِليهم، وأَما {الرقاب}، فمذْهَبُ مالك وغيره هو ابتداء عِتْق مؤْمِن، وأما الغَارِمُ: فهو الرجُلُ يرْكَبه دَيْن في غير مَعْصِيَة ولا سَفَه، كذا قال العلماء، وأما {فِي سَبِيلِ الله}، فهو الغازِي، وإِن كانَ مَلِيًّا ببَلَده، وأمَّا {ابن السبيل}، فهو المسافِرُ، وإِن كان غنيًّا ببلده، وسمي المُسَافِرِ ابْنَ السبيلِ لملازمته السبيلِ.
ومَنِ ادعى الفقْر صُدِّق إِلاَّ لريبة؛ فيكلَّف حينئذٍ البيِّنة، وأمَّا إِن ادعى أنه غارمٌ أو ابن السبيل أو غازٍ، ونحو ذلك مما لا يُعْلَم إِلا منه، فلا يعطَى إِلا ببينة، وأهلُ بلد الصَّدقة أَحقُّ بها إِلا أن تَفْضُل فضلةٌ، فتنقل إِلى غيرهم.
قال ابنُ حَبِيب: وينبغي للإِمام أن يأمِر السُّعَاة بتَفْريقها في المواضِعِ التي جُبِيَتْ فيها، ولا يحمل منها شيْءٌ إِلى الإِمام، وفي الحديثِ: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» وقوله سبحانه: {فَرِيضَةً مِّنَ الله}: أي: موجبةً محدودةً.