فصل: تفسير الآيات (22- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في الرؤية:
وهى النَّظر بالعين، وبالقلب.
رأَيته رُؤْيةً وَرَأْيًا ورَاءَةً ورَأْية ورِئْيانًا، وَارْتأَيته واسترْأَيتُه.
والحمد لله على رِيَّتك بزنة نِيَّتك أي رؤيتك.
والرَّاء- كشدَّاد-: الكثير الرُّؤْيَة.
والرُئِىُّ- كصُلىّ- والرُّؤَاءُ- كغراب- والْمَرْآة- بالفتح-: المنظر، وقيل: الأَوّل: حسن المنظر كالتَرْئيَة.
وا سترآه: استدعى رؤيته.
وأَريتُه إِيّاهُ إراءَةً وإِرْاءٍ.
وراءَيته مراءَاةً ورِياءً: أَريته على خلاف ما أَنا عليه.
ونحذف الهمزة في مضارع رأَى فيقال: يرى.
والرّؤية تختلف بحسب قُوَى النَّفس: الأَوّل بالحاسة وما يجرى مجارها، قال تعالى: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ}، وهذا ممّا أُجرى مُجْرى الرّؤية بالحاسّة، فإِنَّ الحاسّة لا تصحّ على الله تعالى.
والثانى بالوَهْم والتخيّل، نحو: أُرَى أَنَّ زيدًا منطلق.
والثالث بالتَّفكر: {إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ}، والرّابع بالعَقْل، نحو: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، وعلى ذلك حُمل قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}.
ورأَى إِذا عُدّى إِلى مفعولين اقتضى معنى العلم.
ويُجرى أَرأَيتَ مُجرى أَخْبِرْنى، ويدخل عليه الكاف ويُترك التَّاءُ على حاله مفتوحة في التثنية والجمع والتأنيث، تقول: أَرأَيتَك، أَرأَيتَكما، أَرأَيتَكم، قال تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هذا الَّذِي كَرَّمْتَ على}، وفيه معنى التَّنبيه.
والرّأْى: اعتقاد النَفْس أَحد النَّقيضين عن غلبة الظنِّ، وعلى هذا قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}، أي يظنونهم بحسب مقتضى مشاهدة العين مثليهم، تقول: فعل ذلك رأْى عَين.
الرَّوِيَّة والتروية: التفكّر في الشيء، والإِمالة بين خواطر لنفس في تحصيل الرّأْى.
والمُرَئِّى: المتفكر.
وإِذا عدّى رأَيت بإِلى اقتضى معنى النظر الموَّدّى إِلى الاعتبار، نحو: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}،
وقولهُ: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ} أي بما علَّمك وعرَّفك.
والرَّاية: العلامة المنصوبة للرؤْية.
وأَرْأَى: صار له رَئِىٌّ من الجنِّ.
وهو جنىٌّ يُرَى فيُحَبّ.
والرُّؤْيا: ما رأَيته في منامك، والجمع رُؤًى كهُدًى، وقد تخفَّف الهمزة من الرّؤيا فيقال بالواو.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي رأَى بعضهم بعضاً، وقيل: تقاربا وتقابلا حتى صار كلٌّ واحد بحيث يتمكَّن من رؤْية الآخر.
وفى الحديث: «إِنَّ المؤْمن والكافر لا يتراءَى ناراهما».
وهو مَرْآة بكذا أي مخْلَقة، وأَنا أَرْأَى: أَخلق وأَجدر.
والمِرآةُ- كمِحساة-: ما تراءَيت فيه.
والرِّئة: موضع النفَس والرِّيح من الحيوان.
والجمع، رِئات ورِئُونَ. اهـ.

.تفسير الآيات (22- 29):

قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ على الغيب بضنين (24) وَمَا هُوَ بِقول شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وصفه السفير الملكي وهو جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات الخمس التي أزالت عن القرآن كل لبس، وكان وصفه بها إنما هو لأجل إثبات شرف الرسول البشري الذي هو بين الحق وعامة الخلق، وهو النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يقوله كلام الله حقاً، وكانوا يصفونه بما هو في غاية النزاهة عنه وهم يعلمون ذلك، أبطله مبكتاً لهم بالكذب وموبخاً بالبلادة بقوله زيادة في شرفه حيث كان هو المدافع عنه: {وما صاحبكم} أي الذي طالت صحبته لكم وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى أنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وأعرق في النفي فقال: {بمجنون} أي كما تبتهونه به من غير استحياء من الكذب الظاهر مع ظهور التناقض فعل ألأم اللئام، بل جاء بالحق وصدق المرسلين، فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكملاء، وهذا النفي المؤكد ثابت له دائماً على سبيل الاستغراق لكل زمان- هذا ما دل عليه الكلام لا ما قال الزمخشري أنه يدل على أفضلية جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بقية الملائكة، فإنه ما سيق لذلك ولا هو والله مما يرضي جبريل عليه السلام، قال الأصبهاني هنا: هذا يدل على فضله وأما أنه يدل على أنه أفضل من جميع الملائكة ومن محمد صلى الله عليه وسلم فلا يمكنه، وقال في قوله تعالى في البقرة: {وملائكته ورسله} [البقرة: 285]: ولم يلزم من تقديم الملائكة في الذكر تفضيلهم على الرسل، وأما تقديم جبريل على ميكائيل فليس ببعيد أن يكون للشرف كما أن تخصيصهما بالذكر لفضلهما، وقال في النجم: ثم دنا جبريل من ربه عز وجل، وهذا قول مجاهد يدل عليه ما روي في الحديث: «إن أقرب الملائكة إلى الله عز وجل جبريل عليه السلام». انتهى.
ولو صح هذا الحديث لكان فيه كفاية لكن لم أجده أصلاً، وقال الأصبهاني في عم في قوله: {يوم يقوم الروح} [النبأ: 38] عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو أعظم الملائكة خلقاً وأشرف منهم، وأقرب من رب العالمين- انتهى.
فهذا كما ترى صريح في تفضيل الروح، وقال السهيلي في غزوة بدر في كتابه الروض: ونزل جبريل عليه السلام بألف من الملائكة فكان في خمسمائة في الميمنة، وميكائيل عليه السلام في خمسمائة في الميسرة، ووراءهم مدد من الملائكة لم يقاتلوا وهم الآلاف المذكورون في سورة آل عمران، وكان إسرافيل عليه السلام وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة عليهم الصلاة والسلام- انتهى.
وهذا يدل على شرف إسرافيل عليه السلام لأن موقفه موقف رئيس القوم وفعله فعله- والله أعلم.
ولما كان المجنون لا يثبت ما يسمعه ولا ما يبصره حق الإثبات، فكان التقدير بعد هذا النفي: فلقد سمع من رسولنا إليه ما أرسل به حق السمع، ما التبس عليه فيه حق بباطل، عطف عليه الإخبار برفعه شأنه في رؤية ما لم يره غيره وأمانته وجوده فقال: {ولقد رآه} أي المرسل إليه وهو جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته الحقيقية ليلة المعراج وبعرفات، جامعاً إلى حس السمع حس البصر {بالأفق المبين} أي الأعلى الذي هو عند سدرة المنتهى، حيث لا يكون لبس أصلاً، ولا يكون لشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة، وقال البيضاوي: بمطلع الشمس الأعلى- يعني وهو مشرق الأنوار، والأفق: الناحية التي تفوق وتعلو.
ولما انتفى ما يظن من لبس السمع وزيغ البصر، لم يبق إلا ما يتعلق بالتأدية فنفى ما يتوهم من ذلك بقوله: {وما} أي سمعه ورآه والحال أنه ما {هو على الغيب} أي الأمر الغائب عنكم في النقل عنه ولا في غيره من باب الأولى {بضنين} أي بمتهم، من الظنة وهي التهمة، كما يتهم الكاهن لأنه يخطئ في بعض ما يقول، فهو حقيق بأن يوثق بكل شيء يقوله في كل أحواله، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب بالظاء، والمعنى في قراءة الباقين بالضاد: ببخيل كما يبخل الكاهن رغبة في الحلوان، بل هو حريص على أن يكون كل من أمته عالماً بكل ما أمره الله تعالى بتبليغه.
ولما أثبت له الأمانة والجود بعد أن نفى عنه ما بهتوه به، وكان الجنون أظهر من قول المجنون لأن بعض المجانين ربما تكلم الكلام المنتظم في بعض الأوقات فنفاه لذلك، وكان قول الكاهن أظهر من الكهانة، نفى القول فقال: {وما هو} أي القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات، وأعرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال: {بقول شيطان}.
ولما كان الشيطان لا ينفك عن الطرد لأن اشتقاقه من شطن وشاط، وذلك يقتضي البعد والاحتراق، وصفه بما هو لازم له فقال: {رجيم} أي مرجوم باللعن وغيره من الشهب لأجل استراق السمع مطرود عن ذلك، لأن القائل له ليس بكاهن كما تعلمون، وبقي مما قالوه السحر وهو لا يحتاج إلى نفيه لأنه ليس بقول، بل هو فعل صرف أو قول مقترن به، والأضغاث وهي لذلك واضحة العوار فلم يعدها، فمن علم هذه الأوصاف للقرآن والرسولين الآتيين به الملكي والبشري أحبه وأحبهما، وبالغ في التعظيم والإجلال، وأقبل على تلاوته في كل أوقاته، وبالغ في السعي في كل ما يأمر به والهرب مما ينهى عنه، ليحصل له الاستقامة رغبة في مرافقة من أتى به ورؤية من أتى من عنده.
ولما لم يدع وجهاً يلبس به على من لا يعرف حاله صلى الله عليه وسلم، سبب عنه قوله موبخاً منكراً: {فأين تذهبون} أي بقلوبكم عن هذا الحق المبين يا أهل مكة المدعين لغاية الفطنة وقد علمتم هذا الحفظ العظيم في الرسولين الملكي والبشري فمن أين يأتي ما تدعون من التخليط في هذا الكتاب العظيم الذي دل على حفظه ببرهان عجزكم عن معارضة شيء منه؟ وهو استضلال لهم واستجهال على أبلغ وجه في كل ما كانوا ينسبونه إليه بحيث صار ضلالهم معروفاً لا لبس فيه.
ولما كان الحال قد صار في الوضوح إلى أنه إذا نبه صاحبه بمثل هذا القول نظر أدنى نظر، فقال من غير وقفة: لا أين، قال: {إن} أي ما {هو} أي القرآن الذي أتاكم به {إلا ذكر للعالمين} أي شرف للخلق كلهم من الجن والإنس والملائكة وموعظة بليغة عظيمة لهم.
ولما تشرف الوجود كله بإظهاره فيه نوع تشرف، أطلق هذه العبارة.
ولما كان الذي ثم شرفه المهتدي، فكان الوعظ والشرف إنما هو له في الحقيقة قال: {لمن شاء منكم} أي أيها المخاطبون {أن يستقيم} أي يطلب القوم ويوجده.
ولما كان ذلك ربما تعنت به المتعنت في خلق الأفعال، قال نافياً لاستقلالهم ومثبتاً للكسب: {وما تشاءون} أي أيها الخلائق الاستقامة {إلا أن يشاء الله} أي الملك الأعلى الذي لا حكم لأحد سواه مشيئتكم، وإن لم يشأها لم تقدروا على مشيئة، فادعوه مخلصين له الدين يشأ لكم ما يرضيه فيوفقكم إليه، وعن وهب بن منبه أنه قال: الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بضع وتسعون كتاباً قرأت منها بضعاً وثمانين كتاباً فوجدت فيها: من جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر- انتهى.
ومن تأمل هذه الآية أدنى تأمل علم أن كلام المعتزلة بعدها في القدر دليل على أن الإنسان إذا كان له هوىً لا يرده شيء أصلاً {ومن يضلل الله فما له من هاد} [الرعد: 33].
ولما وصف نفسه سبحانه بأنه لا يخرج شيء عن أمره، أتبع ذلك الوصف بما هو كالعلة لذلك فقال: {رب العالمين} أي الموجد لهم والمالك والمحسن إليهم والمربي لهم وهو أعلم بهم منهم، فلأجل ذلك لا يقدرون إلا على ما قدرهم عليه، ويجب على كل منهم طاعته والإقبال بالكلية عليه سبحانه وتعالى وشكره استمطاراً للزيادة، فلهذه الربوبية صح تصرفه في الشمس وما تبعها مما ذكر أول السورة لإقامة الساعة لأجل حساب الخلائق، والإنصاف بينهم بقطع كل العلائق، كما يفعل كل رب مع من يربيه فكيف بأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين! فقد التقى طرفاها على أشرف الوجوه وأجلاها، وانتظم أول الانفطار بما له من بديع الأسرار، فالتكوير كالانشقاق والتفطير، والانكدار مثل التساقط والانتشار، والله سبحانه هو أعلم بالصواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}
واحتج بهذه الآية من فضل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: إنك إذا وازنت بين قوله: {إِنَّهُ لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21 19] وبين قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} ظهر التفاوت العظيم: {وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين} يعني حيث تطلع الشمس في قول الجميع، وهذا مفسر في سورة النجم {وَمَا هُوَ على الغيب بضنين} أي وما محمد على الغيب بظنين والغيب هاهنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال: ظننت زيدا في معنى اتهمته، وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين، والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله، ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت، والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل الله، قال الفراء: يأتيه غيب السماء، وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم، وقال أبو على الفارسي: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين: أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نفي البخل وثانيها: قوله: {على الغيب} ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال: فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا.
{وَمَا هُوَ بِقول شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)}
كان أهل مكة يقولون: إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه، فنفى الله ذلك، فإن قيل القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال، فكيف يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي؟ {قُلْنَا} بينا أن على القول بالصرفة لا تتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال، فلا جرم يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي.
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)}
وهذا استضلال لهم يقال لتارك الجادة اعتسافاً، أين تذهب؟ مثلت حالهم بحالة في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل، والمعنى أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم، قال الفراء: العرب تقول إلى أين تذهب وأين تذهب، وتقول ذهبت الشام وانطلقت السوق، واحتج أهل الاعتزال بهذه الآية وجهه ظاهر.
ثم بين أن القرآن ما هو، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)} أي هو بيان وهداية للخلق أجمعين.
ثم قال: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}
وهو بدل من العالمين، والتقدير: إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم، وفائدة هذا الإبدال أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، والمعنى أن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم، ثم بين أن مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله.
فقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة، لأن فعل تلك المشيئة صفة محدثة فلابد في حدوثها من مشيئة أخرى فيظهر من مجموع هذه الآيات أن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة.
وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها، موقوفة على مشيئة الله وهذا هو قول أصحابنا، وقول بعض المعتزلة إن هذه الآية مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضعيف لأنا بينا أن المشيئة الاختيارية شيء حادث، فلابد له من محدث فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها، وحينئذ يعود الإلزام، والله أعلم بالصواب. اهـ.