فصل: تفسير الآية رقم (104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكل من الطرفين وترا لزاوية قائمة ووتر القائمة في المثلث أطول من وتر الحادة، فلم تكن أجزاء المرئي متساوية في القرب والبعد بالنسبة إلى الرائي بل يكون وسط المرئي أقرب إليه من طرفيه.
فجاز أن يرى الوسط وحده بدون الطرفين لأنا نقول نفرض هذا التفاوت الذي ذكرتموه في هذه الخطوط ذراعا.
فلو كان عدم رؤية الطرفين لأجل البعد.
فإذا فرض أنه بعد المرئي يقدر ذلك البعد الذي لطرفيه وجب أن لا يرى أصلا، وإذا يرى فهذا البعد لا أثر له في عدم الرؤية فتكون الأجزاء كلها مع ذلك التفاوت متساوية في حصول شرائط الرؤية وبعضها غير مرئي فلا تجب الرؤية مع حصولها.
قال بعض الفضلاء أي صاحب اللباب معترضا على هذه المعارضة لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا.
وإنما يلزم ذلك أن لو كانت رؤيته صغيرا وكبيرا بحسب رؤية الأجزاء وعدمها، وهو ممنوع.
فلعل رؤيته صغيرا وكبيرا تختلف بضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه بطرفي المرئي وسعتها فإن القائلين بالانطباع ذهبوا إلى أن صورة المرئي.
إنما ترتسم من الرطوبة الجليدية في زاوية رأس مخروط متوهم قاعدته عند المرئي.
وأن اختلافه بالصغر والكبر في الرؤية إنما هو بحسب ضيق تلك الزاوية وسعتها.
ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد في الغاية صارت الزاوية لسعتها في الغاية حال القرب أو لضيقها في الغاية حال البعد كالمعدوم فانعدمت الرؤية حينئذ لعدم انطباع الصورة.
قال المصنف وضعفه ظاهر بناء على تركب الأجزاء التي لا تتجزأ إذ على هذا التقدير إن رأى الأجزاء كلها وجب أن يرى الجسم كما هو في الواقع سواء كان قريبا أو بعيدا.
وذلك لأن الرؤية كل منها أو بعضها أصغر مما هو عليه توجب الانقسام فيما لا يتجزأ لثبوت ما هو أصغر منه ورؤيته أي رؤية كل من الأجزاء أكبر مما هو عليه بمثل أو بأزيد منه توجب أن لا يرى إلا ضعفا أو أكبر من ذلك.
وهو باطل قطعا ورؤيته أكبر بأقل من مثل توجب الانقسام ورؤية بعضها على ما هو عليه بعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجح.
فوجب أن يرى الكل على حاله فلا تفاوت حينئذ بالصغر والكبر.
فتعين أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض.
فتمت معارضتنا لدليلهم على وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها ثم نقول قوله إن لم يجد حصول الرؤية عند اجتماعها يلزم تجويز جبال شاهقة بحضرتنا لا نراها وهو سفسطة.
قلنا هذا معارض أي منقوض بجملة العاديات فإن الأمور العادية تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها.
ولا سفسطة ههنا.
فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها.
فإنا نجوز وجودها ونجزم بعدمها.
وذلك لأن الجواز لا يستلزم الوقوع ولا ينافي الجزم بعدمه فمجرد تجويزها لا يكون سفسطة.
ثم نقول إن كان مأخذ الجزم بعدم الجبل المذكور ما ذكرتم من وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها لوجب أن لا نجزم به إلا بعد العلم بهذا.
واللازم باطل لأنه يجزم به من لا يخطر بباله هذه المسألة.
ولأنه ينجر إلى أن يكون ذلك الجزم نظريا مع اتفاق الكل على كونه ضروريا.
وأما ثانيا فهو أنا سلمنا الوجوب أي وجوب الرؤية في الشاهد عند حصول تلك الشرائط ولكنا نقول لم يجب أي لماذا يجب وجوب الرؤية في الغائب عند حصولها إذ ماهية الرؤية في الغائب غير ماهية الرؤية في الشاهد فجاز اختلافهما في اللوازم والشرائط كما يشترط في الشاهد الشروط الستة دون الغائب.
وحينئذ جاز أن تجب رؤية الشاهد عند اجتماعها دون رؤية الغائب.
الثانية من تلك الشبه شبهة المقابلة.
وهي أن شرط الرؤية كما علم بالضرورة من التجربة المقابلة أو ما في حكمها نحو المرئي في المرآة.
وأنها أي المقابلة مستحيلة في حق الله تعالى لتنزهه عن المكان والجهة.
والجواب منع الاشتراط إما مطلقا كما مر من أن الأشاعرة جوزوا رؤية ما لا يكون مقابلا ولا في حكمه بل جوزوا رؤية أعمى الصين بقة أندلس.
أو في الغائب لاختلاف الرؤيتين في الحقيقة فجاز أن لا يشترط في رؤيته المقابلة المشروطة في رؤية الشاهد.
وتحقيقه على ما في اللباب أن المراد من الرؤية انكشاف نسبته إلى ذاته المخصوصة كنسبة الانكشاف المسمى بالإبصار إلى سائر المبصرات.
والانكشاف على وفق المكشوف في الاختصاص بجهة وحيز وفي عدمه.
الثالثة منها شبهة الانطباع.
وهي أن الرؤية انطباع صورة المرئي في الحاسة.
وهو على الله تعالى محال إذ لا يتصور له صورة تنطبع في حاسة.
والجواب مثل ما مر وهو أن نمنع كون الرؤية بالانطباع إما مطلقا أو في الغائب لاختلاف الرؤيتين.
وأما الشبه السمعية فأربع لا ست كما وقع في بعض النسخ.
الأولى قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية.
فمعنى قولك أدركته ببصري معنى رأيته لا فرق إلا في اللفظ أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رؤيته وما أدركته ببصري ولا عكسه.
فالآية نفت أن تراه الأبصار.
وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلابد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكرنا.
ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى فإنه ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته.
وإنما قلنا من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام.
فإن الأول فضل والثاني عدل، وكلاهما كمال.
والجواب أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه:
الأول أن الإدراك هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول.
{وإنا لمدركون} أي ملحقون.
وأدركت الثمرة أي وصلت إلى حد النضج.
وأدرك الغلام أي بلغ ثم نقل إلى الرؤية المحيطة لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة.
والرؤية المتكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقا من الرؤية المطلقة.
فلا يلزم من نفيها أي نفي المحيطة عن الباري سبحانه وتعالى لامتناع الإحاطة نفيها أي نفي المطلقة عنه.
قوله لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر.
قلنا ممنوع بل يصح أن يقال رأيته وما أدركه بصري أي لم يحط به من جوانبه، وإن لم يصح عكسه.
الثاني من وجوه الجواب أن تدركه الأبصار موجبة كلية لأن موضوعها جمع محلي باللام الاستغراقية وقد دخل عليها النفي فرفعها ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية.
وبالجملة فيحتمل قوله: {لا تدركه الأبصار} إسناد النفي إلى الكل بأن يلاحظ أولا دخول النفي ثم ورود العموم عليه فيكون سالبة كلية.
ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولا ثم ورود النفي عليه فيكون سالبة جزئية.
ومع احتمال المعنى الثاني لم يبق فيه حجة لكم علينا لأن أبصار الكفار لا تدركه إجماعا.
هذا ما نقوله لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق وإلا عكسنا القضية وقلنا لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوة الجزئية.
فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار.
وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض.
فالآية حجة لنا لا علينا.
الثالث من تلك الوجوه أنها أي الآية وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام فإنها لا تعم في الأزمان فإنها سالبة مطلقة لا دائمة ونحن نقول بموجبة حيث لا يرى في الدنيا.
الرابع منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا كما هو العادة فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقا.
وأما عن الوجه الثاني أي وأما الجواب عن الوجه الثاني من وجهي الاستدلال بالآية وهو قوله تمدح الباري بأنه لا يرى فنقول هذا مدعاكم فأين الدليل عليه.
وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى حيث لم يكن له ذلك.
وإنما المدح فيه أي في عدم الرؤية للممتنع المتعزز بحجاب الكبرياء كما في الشاهد.
الثانية من الشبه السمعية أنه تعالى ما ذكر سؤال الرؤية في موضع من كتابه إلا وقد استعظمه.
وذلك في ثلاث آيات:
الأولى {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا}.
ولو كانت الرؤية ممكنة لما كان طالبها عاتيا أي مجاوزا للحد مستكبرا رافعا نفسه إلى مرتبة لا يليق بها بل كان ذلك نازلا منزلة طلب سائر المعجزات.
الآية الثانية {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة أي عيانا فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون}.
ولو أمكنت الرؤية لما عاقبهم بسؤالها في الحال.
الآية الثالثة {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} سمى الله ذلك السؤال ظلما وجازاهم به في الحال بأخذ الصاعقة ولو جاز كونه مرئيا لكان سؤالهم هذا سؤالا لمعجزة زائدة ولم يكن ظلما ولا سببا للعقاب.
والجواب أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا.
ولهذا استعظم إنزال الملائكة في الآية الأولى واستكبروا إنزال الكتاب في الآية الثالثة مع إمكانهما بلا خلاف.
ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عن ذلك فعله أي منعه حين طلبوا أمرا ممتنعا وهو أن يجعل لهم إلها إذ قال: {إنكم قوم تجهلون} ولم يقدم موسى على طلب الرؤية الممتنعة بقولهم وطلبهم وقد مر هذا في المسلك النقلي من مسلكي صحة الرؤية.
الثالثة من تلك الشبه قوله تعالى لموسى: {لن تراني} ولن للتأبيد.
وإذا لم يره موسى أبدا لم يره غيره إجماعا.
والجواب منع كون لن للتأبيد.
بل هو للنفي المؤكد في المستقبل فقط كقوله تعالى ولن يتمنوه أي الموت أبدا.
ولا شك أنهم يتمنوه في الآخرة للتخلص من العقوبة.
الرابعة منها قوله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء حصر تكليمه للبشر في الوحي إلى الرسل وتكليمه لهم من وراء حجاب وإرساله إياهم إلى الأمم ليكلمهم على ألسنتهم.
وإذ لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا وإذا لم يره هو أصلا لم يره غيره أيضا.
إذ لا قائل بالفرق.
والجواب إن التكليم وحيا قد يكون حال الرؤية فإن الوحي كلام يسمع بسرعة.
وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية.

.تذنيب الكرامية والمجسمة وافقونا في الرؤية وخالفونا في الكيفية:

فعندنا أن الرؤية تكون من غير مواجهة ولا مقابلة ولا ما في حكمها إذ يمتنع ذلك في الموجود المنزه عن الجهة والمكان.
وهم يدعون الضرورة في أن ما لا يكون في جهة قدام الرائي ولا مقابلا له أو في حكم المقابل لا يرى موافقين في ذلك للمعتزلة ومخالفين لهم في أصل الرؤية.
والجواب أنا نمنع الضرورة.
وما ذلك أي ادعاء الضرورة منهم.
هاهنا إلا كدعوى الضرورة في أن كل موجود فإنه في جهة وحيز، وما ليس في حيز وجهة فإنه ليس بموجود.
ولعل هذا الادعاء فرعه أي فرع ذلك الادعاء.
وقد وافقنا الحكماء والمعتزلة على أن حصر الموجود فيما ذكر حكم وهمي مما ليس بمحسوس فيكون باطلا.
فكذا الضرورة التي ادعاها الكرامية والمجسمة في الرؤية. اهـ.

.تفسير الآية رقم (104):

قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)}