فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَنْقُوصَةٌ مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِدَارَسْتَ قَارَأْتَ الْيَهُودَ فَحَفِظْتَ عَنْهُمْ بَعْضَ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَنْهَضُ هَذَا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَلَوْ تَلَقَّى عَنْهُمْ كُتُبَهُمْ بِالْمُدَارَسَةِ لَمَا سَكَتُوا عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهُ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مُهَيْمِنٌ عَلَى كُتُبِهِمْ (5: 48) قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مُحَرَّفٌ وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَنَقْصٌّ بِمَا نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَفْسِيرِ النِّسَاءِ (4: 46) وَالْمَائِدَةِ (5: 14): فَلْيُرَاجَعْ فِي الْجُزْئَيْنِ 5، 6 مِنَ التَّفْسِيرِ- كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (5: 15) وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَتَمُّ وَأَكْمَلُ لِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الدِّينَ.
وَمِنْهَا قَوْلُ آخَرِينَ: إِنَّ {لِيَقُولُوا دَارَسْتَ} عَلَى النَّفْيِ، أَيْ لِئَلَّا يَقُولُوا ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّهُ أَشَدَّ الرَّدِّ وَلَهُ الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ فِي جَعْلِ الْعِبَارَةِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَبْرِ أَوِ الْقَدَرِ.
وَمِنْهَا قَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ نُجُومًا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَضُمُّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا وَيُصْلِحُهَا آيَةً فَآيَةً ثُمَّ يُظْهِرُهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَحْيًا لَجَاءَ بِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ تَصْرِيفُ الْآيَاتِ حَالًا فَحَالًا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الشُّبْهَةَ لِلْقَوْمِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَتِيجَةُ مُدَارَسَةٍ وَمُذَاكَرَةٍ مَعَ آخَرِينَ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ رَأْيٌ جَدَلِيٌّ مُلَفَّقٌ لَا يَصِحُّ بِهِ فِي جُمْلَتِهِ نَقْلٌ، فَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى جَاءَ بِالتَّوْرَاةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَلَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا تِلْكَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فَقَطْ، وَسَائِرُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ نَزَلَتْ مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي أَمْكِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْقُرْآنِ.
وَتِلْكَ الْوَصَايَا لَا تَبْلُغُ عُشْرَ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) الَّتِي نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا، بَلْ لَا تَزِيدُ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَعَلَّ كَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} وَلِئَلَّا يَقُولُوا دَرَسْتَ، فَإِنَّ الْمَجِيءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْمُخْتَلِفَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُنْصِفَ مِنْ دَعْوَى اقْتِبَاسِ الْقُرْآنِ بِالْمُدَارَسَةِ مَعَ آخَرِينَ، وَأَيْنَ هَؤَلَاءِ الْمُدَارِسُونَ؟ وَلِمَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنَ الرَّسُولِ نَفْسِهِ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَالْبَلَاغَةِ الْمُعْجِزَةِ؟ كَلَّا إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ جُحُودًا وَمُكَابَرَةً، وَرُبَّمَا نَطَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ فِي مُخَالَفَتِهِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا وَكَوْنِهِ احْتَجَّ عَلَى جُمْهُورِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 10: 16 وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 29: 48 وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَابُوا وَإِنَّمَا هِيَ الْمُكَابَرَةُ.
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ، فَرِيقٌ قَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلِاهْتِدَاءِ بِتِلْكَ الْبَصَائِرِ الْمُنَزَّلَةِ وَلَا الْعِلْمِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ، فَحَظُّهُمْ مِنْهَا مُكَابَرَتُهَا وَجُحُودُ تَنْزِيلِهَا وَفَرِيقٌ يَعْلَمُونَ، وَبِالْبَيَانِ يَهْتَدُونَ- أَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، بِالْبَيَانِ لَهُ وَالْعَمَلِ بِهِ، مُشِيرًا بِإِضَافَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِهِ، وَنَاصِبًا إِيَّاهُ إِمَامًا لِجَمِيعِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، يَتَرَبَّى بِهِ مِنْ وُفِّقَ مِنْهُمْ لِاتِّبَاعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَنْ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ وَيَأْتَمِرُ بِمَا أُمِرَ، وَقَرَنَ هَذَا الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، لِبَيَانِ وُجُوبِ مُلَازَمَتِهِ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَكَمَا أَنَّ الْخَالِقَ الْمُرَبِّي لِلْأَشْبَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الرِّزْقِ، وَلِلْأَرْوَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْوَحْيِ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَلَا فِي الْهِدَايَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بَشَفَاعَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَالْأَمْرُ هُنَا بِالِاتِّبَاعِ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي أَكْثَرِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَمَلِ مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ التَّبْلِيغِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، بِأَنْ لَا يُبَالِيَ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَلَا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ لَهُ: دَارَسْتَ أَوْ دَرَسْتَ لِأَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو مَتَى ظَهَرَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ الْإِخْلَاصِ، لَا يَضُرُّهُ الْبَاطِلُ بِخُرَافَاتِ الْأَعْمَالِ وَلَا بِزَخَارِفِ الْأَقْوَالِ، ثُمَّ هَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا} إِلَخْ. أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا يُشْرِكُوا لَمَا أَشْرَكُوا بِأَنْ يَخْلُقَ الْبَشَرَ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ بِالْفِطْرَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالطَّاعَةِ وَالْفِسْقِ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونُوا عَامِلِينَ مُخْتَارِينَ فَأَمَّا غَرَائِزُهُمْ وَفَطَرُهُمْ فَكُلُّهَا خَيْرٌ، وَأَمَّا تَصَرُّفُهُمْ وَكَسْبُهُمْ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الْحَفِيظُ وَالْوَكِيلُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْلُبُهُمُ اسْتِعْدَادَهُمْ، وَلَا يُجْبِرُهُمْ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، إِذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ إِخْرَاجًا لَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ إِلَى جِنْسٍ آخَرَ، وَلَعَلَّ فِي الْجُمْلَتَيْنِ احْتِبَاكًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِ حَفِيظًا تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ لِتُحَاسِبَهُمْ وَتُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا وَكِيلًا تَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَتَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَلَا حَفِيظٍ بِمِلْكٍ وَلَا سِيَادَةٍ. أَيْ لَيْسَ لَكَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ بِأَمْرِنَا وَحُكْمِنَا، وَلَا ذَلِكَ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ نَحْوُهُ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ بِالْقَهْرِ أَوِ التَّرَاضِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي ج 7، وَفِيهِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ مَا قَبْلَهَا، وَالْجُمْهُورُ لَا يَعُدُّونَ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَنْسُوخِ كَمَا تَقَدَّمَ، نَعَمْ إِنَّهُ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ تَتَكَوَّنَ الْأُمَّةُ وَيَصِيرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَاكِمًا، وَلَكِنْ نَزَلَ مِثْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ حَفِيظًا وَلَا وَكِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ هُنَا، فَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْمَدَنِيَّةِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} 4: 80 وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ تَقْرِيرِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَانُونٍ وَلَا كِتَابٍ. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}.
الحق سبحانه وتعالى يعطينا قضية لابد أن نستصحبها في تاريخنا الإيماني، والقضية هي: أن أيَّ كافر لم يكفر قهرا عن الله، وإنما كفر لأن الله أرخى له الزمام بالاختيار أي خلقه مختارا، ولذلك فالكافر إنما يفعل كل فعل بما آتاه الله من الاختيار لاغصبا عن ربنا أو قهرا، بدليل أن الكون الذي نحيا فيه مقهور بالأمر، لا يمكن أن يختار إلا مراد الله منه، وكل ما في الكون يسير إلى مراد الله.
إذن فمن كفر لم يكفر قهرا عن الله؛ لأن طبيعة الاختيار ممنوحة من الله. وحين اختص الله الإنسان بالاختيار وضع المنهج الذي يرتب عليه الثواب والعقاب. ولذلك نزل التكليف ب افعل ولا تفعل. وسبحانه إن أراد قهرا فقد قهر كل الأجناس في الكون؛ قهرها بطول العمر، وأنها تؤدي مهمتها كما أراد الله منها، إنّه قهر الشمس، وقهر القمر، وقهر النجوم، وقهر الماء، وكل حاجة في الكون مقهورة له حتى الملائكة خلقهم: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6].
إذن صفة القهر أخذت متعلقها كاملا. ولكن أيريد الله من خلقه أن يكونوا مقهورين على ما يريد؟ لا، بل يريد سبحانه أن يكونوا فاعلين لما يحبه، وإن كانوا مختارين أن يفعلوا ما لا يحبه، كأن خلق القهر في الأجناس كان لإثبات طلاقة القدرة، وأنه لا يمكن لمخلوق أن يشذ عن مراد الله منه. وبقي الاختيار في الإنسان ليدل على أن أناسا من خلقه سبحانه يذهبون إليه جل وعلا وهم قادرون ألا يذهبوا إليه، وهذه تثبت صفة المحبة.
وحين يختار المختار الطاعة، وهو قادر ألا يطيع، ويختار الإيمان وهو قادر أن يكفر فقد جاء إلى الله محبة لا قهرا، ولذلك يقول ربنا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3- 4].
أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا على عدم إيمان قومك بما جئت به من عند ربك، أتريد يامحمد أن أقهرهم؟ أتريد أعناقًا أو قلوبًا؟ إنك يا محمد تعلم أن منهجك النازل إليك من ربك يريد قلوبا، والقلوب تأتي بالاختيار. فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهرا عليهم.
ولذلك إذا خُدِشَ الاختيار بفقد أي عنصر من عناصره يزول التكليف. بدليل أنه لا تكليف على فاقد العقل؛ لأن آلة الاختيار عندنا هي العقل. وكذلك لا تكليف لمن لم ينضج بل يتركه الحق إلى أن ينضج. ويصير قادرا على إنجاب مثله وأن يصل إلى التكوين الكيماوي السليم. ويمنع عنه الإكراه بأي قوة أعلى منه تقهره على أن يفعل شيئا على غير مراده، وهنا يأتي التكليف.
إذن فالتكليف يحتاج إلى أمور ثلاثة: وجود عقل، لذلك فلا تكليف لمجنون، وعقل رشيد ناضج، فقبل البلوغ لا تكليف ولا إكراه حتى يسلم الاختيار، لماذا؟ تأتي الإجابة من الحق سبحانه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ولوْ شَاء اللَّه} مفعول المشيئة مَحْذُوف، أي: لو شَاءَ اللَّه إيمانَهُم وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لِغَرَابتِه، والمعنى: لا تلتفتْ إلى سَفَاهَات هؤلاء الكُفَّار، فإنّي لو أرَدْت إزالَة الكُفْرِ عنهم، لَقَدَرْت، ولكنِّي تركْتُهم مع كُفْرِهم، فلا يَشْتَغِل قلبك بِكلماتِهم.
قوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ} جعل بمعنى: صيَّر فالكافُ مَفْعُول حَفِيظ مَحْذُوف، أى: حفيظًا عليهم أعْمالهم.
قال أبُو البقاء: هذا يُؤيِّد قَوْل سيبويه في إعْمَال فَعِيل يعني: أنه مِثالُ مُبالَغة، وللنَّاس في إعْمَاله وإعْمَاله وإعْمَال فعل خلاف أثْبَتَهُ سِيبويْه، ونفاه غَيْرُه.
قال شهاب الدين: يُؤيِّده وليْس شيءٌ في اللَّفْظ يَشْهَد لَهُ؟
قوله: {وَمَا أنْتَ} يجُوز أن تَكُون مَا الحجازية؛ فيكُون {أنْتَ}: اسْمُهاَ، و{بوكيل}: خبرها في مَحَلِّ نصْب، ويجُوز أن تكُون التَّمِيميَّة؛ فيكون {أنْتَ}: مبتدأ و{بوكيل}: خَبَره في محلِّ رفع، والباءُ زايدة على كلا التَّقْديرين، و{عليهم}: متعلِّق بوكيل قُدِّم لما فيما قَبْلَه، وهذه الجُمْلَة هي في مَعْنى الجملة قَبْلَها؛ لأن معنى ما أنْت وَكِيلٌ عليهم، وهو بِمَعْنَى: ما جَعَلْنَاكَ حفيظًا عليهم، أي: رقيبًا. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (108):

قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{ولا تسبوا} ولما كانت الأصنام لا تعقل، وكان المشركون يزعمون بها العقل والعلم، ويسندون إليها الأفعال، أجري الكلام على زعمهم لأنه في الكف عنها فقال: {الذين يدعون} أي دعاء عبادة من الأصنام أو غيرهم بذكر ما فيهم من النقص، ثم بين دفعًا لتوهم إكرامهم أنهم في سفول بقوله: {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له عدلًا، بعلم منكم بما لهم من المعايب، بل أعرضوا عن غير دعائهم إلى الله حتى عن سب آلهتهم بما تستحقه، فإنا زينا لهم أعمالهم فغرقوا مع غزارة عقولهم فيما لا يرتضيه عاقل، وكذبوا بجميع الآيات الموجبة للإيمان، فربما جرهم سبُّكم لها- لما عندهم من حمية الجاهلية- إلى ما لا يليق {فيسبوا} أي فيتسبب عن ذلك أن يسبوا {الله} أي الذي تدعونه وله الإحاطة بصفات الكمال، وأظهر تصريحًا بالمقصود وإعظامًا لهذا وتهويلًا له وتنفيرًا منه.
ولما كان الخنو يوجب الإسراع، أشار إليه سبحانه بقوله: {عدوًا} أي جريًا إلى السب؛ ولما كان العدو قد يكون مع علم، قال مبينًا لأنه يراد به مع الإسراع أنه مجاوز للحد: {بغير علم} لأنا زينا لهم عملهم، فالطاعة إذا استلزمت وجود منكر عظيم احترز منه ولو أدى الحال إلى تركها وقتًا ما، لتحصل القوة على دفع ذلك المنكر، فحكم الآية باق وليس بمنسوخ.
ولما كان ذلك شديدًا على النفس ضائقًا به الصدر، اقتضى الحال أن يقال: هل هذا التزيين مختص بهؤلاء المجرمين أم كان لغيرهم من الأمم مثله؟ فقيل: {كذلك} أي بل كان لغيرهم، فإنا مثل ذلك التزيين الذي زينا لهؤلاء {زينا لكل أمة} أي طائفة عظيمة مقصودة {عملهم} أي القبيح الذي أقدموا عليه بغير علم بما خلقه في قلوبهم من المحبة له، ردًا منا لهم بعد العقل الرصين أسفل سافلين، حتى رأوا حسنًا ما ليس بالحسن لتبين قدرتنا؛ فكان في ذلك أعظم تسلية وتأسية وتعزية، والآية من الاحتباك: إثبات {بغير علم} أولا دال على حذفه ثانيًا، وإثبات التزيين ثانيًا دليل على حذفه أولًا.
ولما كان سبحانه طويل الأناة عظيم الحلم، وكان الإمهال ربما كان من جهل بعمل العاصي، نفى ذلك بقوله: {ثم} أي بعد طول الإمهال {إلى ربهم} أي المحسن إليهم بالحلم عنهم وهم يتقوون بنعمه على معاصيه، لا إلى غيره {مرجعهم} أي بالحشر الأعظم {فينبئهم} أي يخبرهم إخبارًا عظيمًا بليغًا {بما} أي بجميع ما {كانوا يعملون} أي على سبيل التجدد والاستمرار بما في جبلاتهم من الداعية إليه وإن ادعوا أنهم عاملون على مقتضى العلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا الكلام أيضًا متعلق بقولهم للرسول عليه السلام: إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين إذا سمعوا ذلك الكلام من الكفار غضبوا وشتموا آلهتهم على سبيل المعارضة، فنهى الله تعالى عن هذا العمل، لأنك متى شتمت آلهتهم غضبوا فربما ذكروا الله تعالى بما لا ينبغي من القول، فلأجل الاحتراز عن هذا المحذور وجب الاحتراز عن ذلك المقال، وبالجملة فهو تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والسفاهة وذلك لا يليق بالعقلاء. اهـ.