فصل: تفسير الآية رقم (124):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا}
وقول الحق سبحانه: {وكذلك} تدل على أن شيئًا شبِّه بشيء، فكما وُجد في مكة من يناصبك العداء ويناهضك ويقاومك في أمر الدعوة إلى الله، ويصدّ عن سبيل الحق؛ إن تلك قضية لست فيها بدعًا من الرسل؛ لأن هذه المسألة قضية سائدة مع كل رسول في موكب الإيمان، و{كذلك} أي كما جعلنا في مكة مجرمين يمكرون جعلنا في كل قرية سبقت مع رسول سبق هذه المسألة، فلم تكن بدعًا من الرسل. وحيث إنك لم تكن بدعًا من الرسل فلتصبر على ذلك كما صبر أولو العزم من الرسل. وأنت أولى منهم بالصبر؛ لأن مشقاتك على قدر مهمتك الرسالية في الكون كله، فكل رسول إنما جاء لأمة محدودة ليعالج داءً محدودًا في زمان محدود. وأنت قد جئت للأمر العام زمانًا ومكانًا إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن تتناسب المشقات التي تواجهك مع عموم رسالتك التي خصك الله بها. {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123]
والإجرام هو مأخوذ من مادة الجيم والراء والميم، الجرْم والجُرْم والجريمة. فيها معنى القطع. ومجرميها جمع مجرم، ومجرم من أجرم، وأجرم أي ارتكب الجُرم والجريمة، ومعنى ذلك أنه قطع نفسه بالجريمة عن مجتمعه الذي يعايشه، فهو يعزل نفسه لا لمصلحة لأحد إلا لمصلحته هو، فكأنه قام بعملية انعزال اجتماعي، وجعل كل شيء لنفسه، ولم يجعل نفسه لأحد؛ لأنه يريد أن يحقق مرادات نفسه غير مهتم بالنتائج التي تترتب على ذلك.
إذن فالإجرام هو الإقدام على القبائح اقدامًا يجعل الإنسان عازلًا نفسه عن خير مجتمعه؛ لأنه يريد كل شيء لنفسه. ومادام كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه، ويرتكب الرذائل. ولأنه يرتكب الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل؛ لكي لا يشعر أن هناك واحدًا أحسن منه. {.. لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]
والمكر- كما نعرف- مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافًا بحيث لا تستطيع إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع؛ لأن الأغصان والفروع ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك لأنه يريد أن يلف تبييته حتى لا يُكشف عنه، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبدًا، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ** قتلت كذلك قدرة الضعفاء

والضعيف عندما يملك فهو يحدث لنفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفًا من الا تأتي له فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه.
إذن فلا يمكر الا الضعيف. والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم. وهناك كثير من الآيات تتعلق بهذه المسألة، وبعضها وقع فيه الجدل والخلاف، ومن العجيب أن الخلاف لم يُصفَّ، وكل جماعة من العلماء يتمسكون برأيهم. وهذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تلتقي مع القول الحق: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]
وهذه الآية فيها اشكال، وقامت بسببها معركة بين العلماء؛ فنجد منهم من يقول: وكيف يأمر الله أناسًا بالفسق؟. وحاولوا أن يجدوا تأويلا لذلك فقالوا: إن الحق قد قسر وأجبر أكابر هؤلاء الناس على الفسق. والجانب الثاني من العلماء قالوا: لا، إن الحق لا يقسر البشر على الفسق، بل على الإنسان حين يقرأ كلمة أمر الله في المنهج فلابد أن يعرف أن هذا الأمر عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى؛ لأن المأمور- وهو المكلف- صالح أن يفعل، وصالح الا يفعل، وأن الآمر قد أمر بشيء، والمأمور له حق الاختيار؛ وبذلك تجد أكابر القوم إنما استقبلوا أمر الله بالعصيان؛ لأن الحق هو القائل: {وَمَا أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله...} [البينة: 5]
والفسق- إذن- مترتب على اختيار المأمور.
وحين نتأمل نحن بالخواطر معنى: أمر الله نجد أن أمر الله يتمثل في التكوينات الطبيعية الكونية ولا يوجد لأحد قدرة على مخالفة الله في ذلك، فهو القائل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
ويتمثل أيضًا أمر الله في التشريعات، وللبشر الذين نزلت لهم هذه التشريعات أن يختاروا بين الطاعة أو العصيان، وسبحانه القائل عن الأمر بالتشريع: {وَمَا أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله}.
وحين يقول الحق: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا}.
فسبحانه لا يهلك هذه القرية ظلمًا، وإنما يرسل إليها المنهج، فإن أطاعوا فأهلًا وسهلًا، وإن عصوا فلابد لهم من العقاب بالدمار.
وهكذا نرى أن العلماء الذين ظنوا أن الفسق مترتب على الأمر من الله لم يلتفتوا إلى أن ورود الأمر في القرآن الكريم جاء على لونين: أولا: أمر التكوين بالقهريات فلا يستطيع المأمور أن يتخلف عنه، ويمثل الأمر القهري قوله الحق: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]
فالأمر جاهز في عالم الأزل ليبرز حين يشاء الحق. والأمر الثاني: هو الأمر التشريعي وهو صالح لأن يختار المكلف بين أن يطيع أو يعصي، وفي هذا الإِطار نفهم قوله الحق: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]
فلا تقل: إن الله يأمر بالفسق؛ فالحق قد أمر المؤمنين بالمنهج لأنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء. بل جاء الأمر لكل البشر أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، لكن كبار أهل هذه القرية أخذوا البديل للطاعة وهو الفسق والمعصية، فلما أمرهم ففسقوا ماذا يصنع بهم؟، هو سبحانه يدمرهم تدميرا فإن كان في الكونيات فلا أحد من خلق الله مكلف في الكونيات، إنما أمره الثاني في اتباع المنهج فلنا أن نفهم أنه الاختيار.
وهكذا نعلم ونفهم معنى هذه الآية لتلتقي مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: أي وإذا أردنا أن نهلك قرية أنزلنا منهجًا فأكابرها كانوا أسوة سيئة ففسقوا فيها بعدم إطاعة منهج الله فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. وكذلك- أيضًا- نفهم قوله الحق: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} لأن المكر إنما يريد به الماكر أن يحقق شيئًا من طريق ملتوٍ لأنه ضعيف لا يمكن أن يواجه الحقائق، وهذه الحقائق تستقبلها الفطرة السليمة، وهو يريد تزييف المسألة على هذه الفطرة لذلك يلتوي. ولمثل هذا الماكر نقول: أنت تريد أن تحقق لنفسك خيرًا عاجلًا وشهوة موقوتة، ولكنك إن استحضرت العقوبة التي تنشأ من هذا الأمر بالنسبة لك. وكذلك عقوبتك على أنك أضللت الآخرين لرأيت كيف يأتي الشر. {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]
أي لا يعلمون، لأنهم لا يوازنون الأمور بدقة تؤدي إلى النفع الحقيقي. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)}
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} قال: نزلت في المستهزئين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} قال: سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {أكابر مجرميها} قال: عظماؤها. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}
قيل كذلك نَسَقٌ على كَذَلِكَ قبلها ففيها ما فيها.
وقدَّرَهُ الزَّمْخَشَرِيُّ بأنّ معناه: وكما جعلنا في مكَّةَ المشرفةِ صَنَاديدَهَا لِيَمْكُرُوا يجوزُ أن تكون فيها، كذلك جعلْنَا في كل قريةٍ أكابرَ مجْرِميها واللامُ في {لِيَمْكُرُوا} يجوزُ أن تكون للعاقبة؛ وأنْ تكونَ للعلَّة مَجَازًا، وجَعَلَ تَصْييريَّة، فتتعدَّى لاثنَيْنِ، واختُلِف في تقديرهما: والصحيحُ أن تكُونَ {فِي قَرْيةٍ} مَفْعُولًا ثانيًا قُدِّم على الأوَّل، والأولُ {أكابِر} مُضَافًا لمجرميها.
الثاني: أنَّ فِي كُلَّ قَرْيَةٍ مفعولٌ- مقدَّمٌ، و{أكَابِر} هو الأول، و{مُجْرِمِيهَا} بدلٌ من {أكَابِر}؛ ذكر ذلك أبُو البقاء.
الثالث: أن يكُون {أكَابِر} مفعولًا ثانيًا قُدِّم، و{مُجْرِميها} مَفْعُولٌ أول أخِّر، والتقديرُ: جَعَلءنا في كُلِّ قريةٍ مجرميها أكَابِرَ، فيتعلق الجارُّ بنفسِ الفِعْلِ قبلهح ذكر ذلك ابنُ عَطِيَّة.
قال أبُو حيَّان: وما أجَازَاهُ- يعني: أبَا البَقَاءِ، وابنُ عَطيَّةَ خطأٌ وذهولٌ عن قاعدةٍ نَحْويَّةٍ، وهي أنَّ أفْعَلَ التفضيلِ إذا كانت بمِنْ مَلْفُوظًا بها، أو مقدرةً، أو مُضَافة إلى نِكَرَة كانت مُفردةً على كُل حالٍ، سواءٌ كانت لمذكر، أم مؤنث، مُفْرَدٍ أم مُثَنى أمْ مَجْمُوعٍ، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعَتْ أو أنِّثَتْ وطابَقَتْ ما هي له، لَزِمَها أحَدُ أمْرَيْنِ: إمَّا الألف واللام، وإمَّا الإضافة لمعرفة.
وإذا تقرَّرَ ذلك، فالقولُ بكوْنِ {مُجْرِميهَا} بدلًا، أو بكونه مفعولًا أول، و{أكابر} مَفعولٌ ثانٍ- خَطَأٌ؛ لاسْتلْزام أنْ يبقى {أكَابِرَ} مَجْمُوعًا وليست في ألِفٌ ولامٌ، ولا هِيَ مُضَافة لمعرفةٍ.
قال: وقد تنبِّه الكرمَانِيُّ إلى هذه القاعدة فقال: أضَاف {أكَابِر} إلى {مُجْرِميها} لأن أفْعَلَ لا يُجْمَعُ إلاَّ مع الألفِ واللامِ، أو مع الإضافة.
قال أبُو حيَّان: وكان يَنْبَغِي أنْ يُقَيَّد بالإضافة إلى معرفةٍ.
قال شهابُ الدِّين: أما هذه القاعدةُ فمسلمة، ولكن قد ذكر مكِّي مِثْلَ ما ذُكِر عن ابْن عَطيَّة سواء، وما أظُنّه أخذ إلاَّ منه، وكذلك الواحديُّ أيضًا، ومنع أنْ تُجوَّز إضافةُ {أكَابر} إلى {مجرميها}؛ قال رحمه الله: والآيةُ على التَّقْديمِ، والتأخير تقديرُه: جَعَلْنَاه مُجْرِميها أكَابر ولا يجوز أن تكون الأكَابِر مضافةً؛ لأنه لا يتمُّ المعنى، ويحتاجُ إلى إضْمار المفعول الثاني للجعل؛ لأنك إذا قلت: جعلتُ زَيْدًا وسكتَّ لم يُفِد الكلامُ حتى تقول: رَئِيسًا أو ذَلِيلًا، أو ما أشبه ذلك، ولأنَّك إذا أضَفْتَ الأكَابِر، فقد أضَفْتَ النعتَ إلى المنعوت؛ وذلك لا يجوزُ عند البَصْريِّين.
قال شهابُ الدِّين: هذان الوجْهَانِ اللذان ردِّ بهما الواحديُّ لَيْسَا بِشَيْءٍ.
أمَّا الأولُ فلا نسلم أنا نُضْمِرُ المعفول الثاني، وأنه يَصِيرُ الكلامُ غيرَ مُفِيد، وأمَّا ما أوْرَده من الأمْثِلَةِ، فليس مُطَابِقًا؛ لأنَّا نقولُ: إنَّ المفعول الثَّانِي- هنا- مذكورٌ مصرّحٌ به، هو الجارُّ والمجرورُ السابقُ.
وأما الثاني: فلا نُسَلِّم محذوفٌ، قالوا: وتقديرُه: جعلنا في كُلِّ قرية أكَابر مُجْرميها فُسَّقًا لِيَمْكُرُوا وهذا لَيْس بِشَيءٍ؛ لأنه لا يحذفُ شيء إلاَّ لدليلٍ، والدليلُ على ما ذكروه غيرُ واضحٍ.
وقال ابنُ عطيَّة: ويقالُ أكابرة كما يقالُ أحْمر وأحَامِرةَ؛ قال الشاعر: [الكامل]
إنَّ الأحَامِرَة الثَّلاثةَ أتْلَفَتْ ** مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قِدْمًا مُؤْلَعاَ

قال أبو حيان: ولا أعْلَمُ أحَدًا أجاز في جَمْع أفْضَل أفَاضِلَة، بل نَصَّ النحويون على أن: أفْعَل التَّفْضِيل يجمعُ للمذكَّرِ على الأفضَلِين، أو على الأفاضل.
قال شهابُ الدين: وهذه التاءُ يذكرها النحويونُ أنها تكون دَالَّةً على النسب في مِثْلِ هذه البنية، قالوا: الأزَارَقَة، والأشاعِثَة، وفي الأزْرَقِ ورهطه، والأشْعَث وبنيه، ولي بقياسٍ، ولَيْس هذا مِنْ ذلك في شَيْءٍ.
والجمهورُ على {أكَابِرَ} جَمْعًا.
وقرأ ابنُ مُسْلِم: {أكبر مجرميها} بالإفْرَادِ، وهو جائِزٌ، وذلك أنَّ أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأُريد بها غيرُ الإفْرَادِ، والتذكير؛ جاز أنْ يُطابِق، كالقراءةِ المشهُورةِ هنا، وفي الحديث: «أحَسنكم أخلاقًا» وجاز أن يُفْرَج، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس} [البقرة: 96]. اهـ.

.تفسير الآية رقم (124):

قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قرر هذا، أتبعه بمقالة لهم تدل على تعظيمهم وتكبرهم فقال عاطفًا على {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [الأنعام: 109] تعجيبًا من حالهم فيما زين لهم من ضلالهم، وتصديقًا لما تقدم من الإخبار بأنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية إلاّ أن يشاء الله؛ وتحقيقًا لما في الآية السالفة من مكرهم لغيرهم وعوده على أنفسهم: {وإذا جاءتهم} أي الكافرين من أكابر المجرمين وأتباعهم {آية قالوا} حسدًا لمن خصه الله بالنبوة لكونهم أكابر مؤكدين للنفي لما لمعجزات الأنبياء عليهم السلام من العبر الموجب لظن الإذعان لأعتى أهل الكفران {لن نؤمن} أي أبدًا {حتى نؤتى} لما لنا من العلو والعظمة المقتضية لأن لا يختص أحد عنا بشيء {مثل ما}.
ولما كان نظرهم مقصورًا على عالم الحس من غير نظر إلى جانب الله لكونه غيبًا بنوا للمفعول قولهم: {أوتي رسل الله} يجوز أن يكون المراد: حتى يوحي إلينا لئلا يكونوا أعظم منا كما قال تعالى: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتي صحفًا منشرة} [المدثر: 52] وكما تقدم في أول السورة عن أبي جهل أنه قال: تنازعنا نحن وبنو عد مناف الشرف حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، ويحك! متى ندرك هذا والله لا نؤمن به أبدًا.
وأن يكون المراد إتيانه صلى الله عليه وسلم بمثل آيات الأولين من شق البحر واليد والعصا وإحياء الموتى ونحوها، وسموهم تنزلًا واستهزاء، وعبروا بالجلالة إشارة إلى القدرة التامة فلا عذر.
ولما ذكر اسم الجلالة إيذانًا بعظيم ما اجترؤوا عليه لعماهم- بما طمس على أنوار قلوبهم من ظلمات الهوى- عما للرسل من الجلال الذي يخضع له شوامخ الأنوف، أعادها أيضًا تهويلًا للأمر وتنبيهًا على ما هناك من عظيم القدر، فقال ردًا عليهم فيما تضمن قولهم من دعوى التعلم بالحكمة والاعتراض على الله عز وجل: {الله} أي بما له من صفات الكمال {أعلم} أي من كل من يمكن منه علم {حيث يجعل} أي يصير بما يسبب من الأمور {رسالته} أي كلها بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الخلق فهو لا يضع شيئًا منها بالتشهي.
ولما كشف هذا النظم عن أنهم اجترؤوا عليه، وأنهم أصروا على أقبح المعاصي الكفر، لا لطلب الدليل بل لداء الحسد؛ تاقت النفس إلى معرفة ما يحل بهم فقال جوابًا: {سيصيب} أي بوعد لا خلف فيه، وأظهر موضع الإضمار تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف فقال: {الذين أجرموا} أي قطعوا ما ينبغي أن يوصل {صغار} أي رضى بالذل لعدم الناصر؛ ولما كان الشيء تعظم بعظمة محله ومن كان منه ذلك الشيء قال: {عند الله} أي الجامع لصفات العظمة {وعذاب} أي مع الصغار {شديد} أي في الدنيا بالقتل والخزي وفي الآخرة بالنار {بما} أي بسبب ما {كانوا يمكرون}. اهـ.