فصل: تفسير الآية رقم (128):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (128):

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما فصل سبحانه أحوال الفريقين، وحض على التذكر تنبيهًا على أن كل ما في القرآن مما يهدي إليه العقل، وذكر مآل المتذكرين فأفهم أن غيرهم إلى عطب، لأنهم تولوا ما يضرهم لأنهم تبعوا شهواتهم، وكان من المعلوم أنهم يعبدون غير مالكهم، وأنه ما من عبد يخدم غير سيده بغير أمر سيده إلاّ عاتبه أو عاقبه، هذا مركوز في كل عقل؛ ذكر سبحانه ما يتقدم ذلك المآل من الأهوال في الأجل المسمى الذي أخفاه عنده وجعله من أعظم مباني هذه السورة، وأبهمه في أولها، وبيّن في أثنائها بعض أحواله مرارًا في وجوه من أفانين البيان، وهو يوم الحشر، فذكر هنا سبحانه بعض أحوال الغافلين وبعض ما يقول لهم فيه وما يفعله معهم من عتاب وعقاب، لطفًا بهم واستعطافًا إلى المتاب، فقال جامعًا الفريقين {ويوم} أي اذكر في تذكرك يوم {يحشرهم} أي أهل ولايتنا وأهل عداوتنا {جميعًا} لا نذر منهم أحدًا {يا} أي فنقول على لسان من نشاء من جنودنا لأهل عداوتنا تبكيتًا وتوبيخًا حين لا يكون لهم مدافعة أصلًا: {معشر الجن} أي المستترين الموحشين من مردة الشياطين المسلطين على الإنس، وهم يرونهم من حيث لا ترونهم {قد استكثرتم} أي طلبتم وأوجدتم الكثرة {من الإنس} أي من إغواء المؤنسين الظاهرين حتى صار أكثرهم أتباعكم، فالآية من الاحتباك: عبر بما يدل على الستر أولًا دلالة على ضده- وهو الظهور- ثانيًا، وبما معناه الاستئناس والسكون ثانيًا دلالة على ضده وهو الإيحاش والنفرة- أولًا.
{وقال} هو عطف على جواب الجن المستتر عن العامل في {يا معشر} الذي تقديره كما يهدي إليه الآيات التي تأتي في السورة الآتية في تفصيل هذه المحاورة: فقالوا: ربنا هم ضلوا، لأنهم كانوا يستمعون بنا في نفوذهم وسماعهم الأخبار الغريبة منا، فاستوجبوا العذاب بمفردهم، وستر جواب الجن لأنه- مع كونه لا يخفى لدلالة المعطوف عليه- مناسب لحالهم في الاستتار مع شهرتهم، وذكره بلفظ الماضي إشارة إلى تحقق وقوعه، لأنه خبر من لا يخلف الميعاد، والمراد بهذه المحاورة ضرب مما يأتي تفصيله بقوله: {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38]- الآية، وقوله: {فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعًا}- الآية: {أولياؤهم} أي الجن {من الإنس} أي الذين تولوهم بالاتباع والطاعة فيما دعوهم إليه من الضلال، معترفين مستعطفين {ربنا} أيها المربي لنا المحسن إلينا {استمتع} أي طلب المتاع وأوجده {بعضنا ببعض} نحن بهم فيما قالوا، وهم بنا في طاعتنا لهم وعياذنا بهم {وبلغنا} أي نحن وهم {أجلنا} وأحالوا الأمر على القدر فقالوا: {الذي أجلت لنا} وهو الموت الذي كتبته علينا وسويت بيننا في سوط قهره وتجرع كؤوس حره وقره، ثم هذا اليوم الذي كنا مشتركين في التكذيب به، فاستوجبنا العذاب كلنا.
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: فما قال الله لهم بعد هذه المحاورة الغريبة التي هي ضرب من كلام أهل الباطن في الدنيا لجلج مضطرب لا حاصل له؟ فقيل: {قال} أي المخاطب لهم عن الله: {النار مثواكم} أي منزلكم جميعًا من غير أن تنفعكم الإحالة على القدر {خالدين فيها} أي إلى ما لا آخر له، لأن الأعمال بالنية وقد كنتم على عزم ثابت أنكم على هذا الكفر ما بقيتم ولو إلى ما لا آخر له، فالجزاء من جنس العمل.
ولما كان من المقرر أنه لا تمام لملك من يجب عليه شيء ويلزمه بحيث لا يقدر على الانفكاك عنه، بين سبحانه أن ملكه ليس كذلك، بل هو على غاية الكمال، لا يجب عليه شيء بل كل فعله جميل، وجميع ما يبدو منه حسن، فعلق دوام عذابهم على المشيئة فقال: {إلا ما شاء} ولما كان القصد في هذه السورة إلى إظهار العظمة للغيرة على مقام الإلهية، عبر بالاسم الأعظم فقال: {الله} أي الذي له رداء الكبر فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه ولا أن يهم بذلك، هيهات هيهات! انقطعت دون ذلك الآمال، فظلت ناكسة أعناق الرجال، وبيده إزار العز، فمن اختلج في سره أن يرفع ناكس عنقه ضربه بمقامع الذل، وأنزله في مهاوي الخزي، وقد تقرر أنه سبحانه لا يشاء انقطاع شيء من ذلك عنهم في حال من الأحوال، ونطق الكتاب بذلك في صرائح الأقوال، وفي سوقه معلقًا هكذا مع ما تقدم زيادة في عذابهم بتعليق رجائهم من انقطاع بلائهم بما لا مطمع فيه.
ولما كان في إظهار الجلال في هذا الحال من عظيم الأهوال ما لا يسعه المقال، أتبعه اللطف بالمخاطب به صلى الله عليه وسلم فقال: {إن ربك} أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك.
ولما كان السياق- في مثل هذه المقاولة في مجمع الحكم- للحكمة والعلم، وكان النظر إلى الحكمة في تنزيل كل شيء منزلة أعظم، قدم وصفها فقال: {حكيم} أي فلا يعذب المخلص ويترك المشرك ولا يعذب بعض من أشرك ويترك بعضًا {عليم} أي بدقائق الأمور وجلائلها من الفريقين، فلا يخفى عليه عمل أحد فيهمله لذلك. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتمسك بالصراط المستقيم، بين بعده حال من يكون بالضد من ذلك لتكون قصة أهل الجنة مردفة بقصة أهل النار، وليكون الوعيد مذكورًا بعد الوعد. اهـ.

.اللغة:

{مَثْوَاكُمْ} مأواكم يقال ثوى بالمكان إِذا أقام فيه.
{يَقُصُّونَ} يحكون يقال قصًّ الخبر يقصُّه قصًا أي حكاه.
{ذَرَأَ} خلق.
{الحرث} الزرع.
{لِيُرْدُوهُمْ} الإِرداء: الإِهلاك يقال أرادهُ يرديه أي أهلكه.
{حِجْرٌ} الحِجر: الحرام وأصله المنع يقال حجره أي منعه والحِجْر: العقل سمي به لأنه يمنع عن القبائح قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} [الفجر: 5] {سَفَهًا} حماقة وجهالة والسَّفه: خفة العقل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} منصوب بمحذوف، أي واذكر يوم نحشرهم، أو يوم نحشرهم قلنا يا معشر الجن، أو يوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن، كان ما لا يوصف لفظاعته.
فائدة:
الضمير في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: يعودإلى المعلوم، لا إلى المذكور، وهو الثقلان، وجميع المكلفين الذين علم أن الله يبعثهم.
والثاني: أنه عائد إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شياطين الإنس والجن يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُورًا} [الأنعام: 112].
فائدة:
في الآية محذوف والتقدير: يوم نحشرهم جميعًا فنقول: يا معشر الجن، فيكون هذا القائل هو الله تعالى، كما أنه الحاشر لجميعهم، وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا تبكيتًا وبيانًا لجهة أنهم وإن تمردوا في الدنيا فينتهي حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف بالجرم.
وقال الزجاج: التقدير فيقال لهم يا معشر الجن، لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار، بدليل قوله تعالى في صفة الكفار: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} [البقرة: 174].
أما قوله تعالى: {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} فنقول: هذا لابد فيه من التأويل.
لأن الجن لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس، لأن القادر على الجسم وعلى الأحياء والفعل ليس إلا الله تعالى، فوجب أن يكون المراد قد استكثرتم من الدعاء إلى الضلال مع مصادفة القبول. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعًا} أي اذكر يا محمد يوم نحشر المعادلين بالله الأصنام مع أوليائهم من الشياطين يعني نحشر المشركين والشياطين جميعًا يوم القيامة {يا معشر الجن} فيه حذف تقديره يقول لهم يا معشر الجن والمعشر الجماعة والمراد من الجن الشياطين {قد استكثرتم من الإنس} يعني من إضلالهم وإغوائهم وقال ابن عباس: معناه أضللتم كثيرًا من الإنس وهذا التفسر لابد له من تأويل آخر لأن الجن لا يقدرون على إضلال الإنس وإغوائهم بأنفسهم لأنه لا يقدر على الإجبار أحد إلا الله لأنه هو المتصرف في خلقه بما شاء فوجب أن يكون المعنى: قد استكثرتم من الدعاء إلى الإضلال مع مصادفة القبول من الإنس. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} نصب على الظرفية والعامل فيه مقدر أي أذكر أو نقول أو كان ما لا يذكر لفظاعته، وجوز أن يكون مفعولًا به لمقدر أيضًا أي أذكر ذلك اليوم، والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين، وقيل: للكفار.
وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب {يُحْشَرُ} بالياء والباقون بنون العظمة على الإلتفات لتهويل الأمر.
وقوله سبحانه: {كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} على إضمار القول، والمعشر الجماعة أمرهم واحد، وقال الطبرسي: الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد، والمراد بالجن أو بمعشرهم على ما قيل الشياطين، وذكر بعض الفضلاء أن الجن يقال على وجهين، أحدهما: للروحانيين المستترين عن الحواس كلها فيدخل فيهم الملائكة والشياطين، وثانيهما: للروحانيين مما عدا الملائكة، وقال آخرون: إن الروحانيين ثلاثة أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وأيًا ما كان فالمقصود بالنداء الأشرار الذين يغوون الناس فإنهم أهل للخطاب بقوله سبحانه: {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} أي أكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والزجاج، فالكلام على حذف مضاف أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كما يقال: استكثر الأمير من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع.
قيل: وإنما ذكر المعشر في جانب الجن دون جانب الإنس لما أن الإغواء كثيرًا ما يقتضي التظاهر والتعاون، وفي المعشر نوع إيماء إليه ولا كذلك الغوى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}
لمّا ذكر ثواب القوم الّذين يتذّكرون بالآيات، وهو ثواب دار السّلام، ناسب أن يعطف عليه ذكر جزاء الّذين لا يتذكّرون، وهو جزاء الآخرة أيضًا، فجملة: {ويوم يحشرهم} إلخ معطوفة على جملة: {لهم دار السّلام عند ربّهم} [الأنعام: 127].
والمعنى: وللآخرين النّار مثواهم خالدين فيها.
وقد صُوّر هذا الخبر في صورة ما يقع في حسابهم يوم الحشر، ثمّ أُفضي إلى غاية ذلك الحساب، وهو خلودهم في النّار.
وانتصب: {يومَ} على المفعول به لفعل محذوف تقديره: اذْكُر، على طريقة نظائره في القرآن، أو انتصب على الظرفيّة لفعل القول المقدّر.
والضّمير المنصوب بـ {نحشرهم} عائد إلى {الذين أجرموا} [الأنعام: 124] المذكور في قوله: {سيصيب الذين آجرموا صغار عند الله أو إلى الذين لا يؤمنون} [الأنعام: 125] في قوله: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون}.
وهؤلاء هم مقابل الّذين يتذكّرون، فإنّ جماعة المسلمين يُعتَبرون مخاطبين لأنّهم فريق واحد مع الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ويعتبر المشركون فريقًا مبائنًا لهم بعيدًا عنهم، فيتحدّث عنهم بضمير الغيبة، فالمراد المشركون الّذين ماتوا على الشّرك وأُكّد بـ {جميعًا} ليعمّ كلّ المشركين، وسادتهم، وشياطينهم، وسائر عُلَقهم.
ويجوز أن يعود الضّمير إلى الشّياطين وأوليائهم في قوله تعالى: {وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121] إلخ.
وقرأ الجمهور: {نحشرهم} بنون العظمة على الالتفات.
وقرأه حفص عن عاصم، ورَوْح عن يعقوب بياء الغيبة ولمّا أسند الحشر إلى ضمير الجلالة تعيّن أنّ النداء في قوله: {يا معشر الجن} من قِبل الله تعالى، فتعيّن لذلك إضمار قول صادر من المتكلّم، أي نقول: يا معشر الجنّ، لأنّ النّداء لا يكون إلاّ قولًا.
وجملة: {يا معشر الجن} إلخ مقول قول محذوف يدلّ عليه أسلوب الكلام، والتّقدير: نقول أو قائلين.
والمعشر: الجماعة الّذين أمرهم وشأنهم واحد، بحيث تجمعهم صفة أو عمل، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه.
وهو يُجمع على معاشر أيضًا، وهو بمعناه، وهو مشتقّ من المعاشرة والمخالطة.
والأكثر أن يضاف المعشر إلى اسم يبيّن الصّفة الّتي اجتمع مسمّاه فيها، وهي هنا صفة كونهم جنًّا، ولذلك إذا عُطف على ما يضاف إليه كان على تقدير تثنية معشرًا وجمْعِه: فالتثنية نحو: {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا} [الرحمن: 33] الآية، أي يا معشر الجنّ ويا معشر الإنس، والجمع نحو قولك: يا معاشر العرب والعجم والبربر.
والجنّ تقدّم في قوله: {وجعلوا لله شركاء الجنّ} في هذه السّورة (100).
والمراد بالجنّ الشّياطين وأعوانهم من بني جنسهم الجنّ، والإنس تقدّم عند قوله: {شياطين الإنس والجنّ} في هذه السّورة (112).
والاستكثار: شدّة الإكثار.
فالسّين والتّاء فيه للمبالغة مثل الاستسلام والاستخداع والاستكبار، ويتعدى بمن البيانية إلى الشيء المتّخذِ كثيرُه، يقال: استكثر من النَّعم أو من المال، أي أكثر من جمعهما، واستكثر الأمير من الجند، ولا يتعدّى بنفسه تفرقة بين هذا المعنى وبين استكثر الّذي بمعنى عدّ الشّيء كثيرًا، كقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6].